أبواب السجون تكتم أصوات المدونين العرب

مصر تونس فلسطين

“مد يده ليصافحني وعندما حاولت استرجاعها، أمسكها بقوة ولكنني أفلتها، عندها حاول خنقي فدفعته، فأشهر مسدسه في وجهي”. هكذا بدأ المدون التونسي، منجي الجديدي، 29 عاماً، حديثه عن عملية اعتقاله بسبب مشاركته في نشر تدوينة على فيسبوك تروج لوفاة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي قضى بسببها ثلاثة أشهر سجناً.

1550649901191-88
بوست منجي

خلال فترة احتجازه في السجن والتي تعود لأواخر سنة 2017 وبداية 2018، تم التحقيق معه مطولاً كما يستذكر منجي: “كنت في غرفة التحقيق، عندما دخل ثلاثة أشخاص دون زي أمني تبين فيما بعد أنهم من فرقة مكافحة الإرهاب. تولى هؤلاء التحقيق معي، ثم طلبوا مرافقتي إلى منزلي حيث تصرفوا هناك كما لو أنهم برفقة إرهابي خطير فقبل أن يقوموا بتفتيش البيت وقلبه رأساً على عقب دون أن يجدوا شيئاً.”

Videos by VICE

في السنوات الماضية، بعد أحداث ما أتفق على تسميته بالربيع العربي، تحول المدونون في العديد من البلدان العربية إلى أهداف مباشرة وسهلة لعمليات الاعتقال والسجن. ويواجه المدونون تهماً مختلفة ويتعرضون للتعذيب وسوء المعاملة ومحاكمات غير عادلة بسبب تعليقات على منصات التواصل الاجتماعي أو كشفهم عن بعض الحقائق التي تتجنب عادة السلط الخوض فيها. حتى السخرية من جهات أو شخصيات معينة في السلطة قد تعرضك للسجن، كما أكدت شهادات بعض المدونين العرب مما حملتهم تدويناتهم لتجربة السجن.

ويضيف منجي: “تم نقلي في ذات اليوم من منطقة الأمن بباجة إلى “الغورجاني” (سجن ومركز تحقيق يتبع فرقة مكافحة الإرهاب) بالعاصمة دون إبلاغي بالوجهة المقصودة. وفي الطريق حاولوا ترهيبي مستعرضين بعض وضعيات التعذيب التي تمارس ضد المساجين. ثم بدأ تحقيق آخر في “الغورجاني” دون السماح لي بالاتصال بمحامي أو إبلاغ الأهل لأكثر من 24 ساعة، واضطررت فيها تحت وطأة الخوف من التعذيب، على التوقيع على التهم التي تم وضعها في ملف التحقيق والتي كانت ملفقة ولا تمت لي بصلة.”

ويكشف منجي أن ظروف الإيقاف كانت قاسية جداً، كما يخبرني، حيث اضطر لمشاركة العشرات في غرفة ضيقة مع تقديم لحاف قذر نصفه للافتراش على الأرض والنصف الآخر للغطاء، هذا فضلًا عن تقديم أكل غاية في السوء إلى حد يصعب تناوله مهما بلغ بك الجوع. ويستحضر منجي موقفاً مخيفاً، عندما تم أخذه ومجموعة من المساجين فجأة إلى مكان مجهول وصفه بالخربة ووضعهم لقرابة خمس ساعات هناك في غرفة مهترئة، داخل منزل مدمر معزول لا يستطيع حتى الآن تحديد مكانه، في طقس غاية في البرودة ثم أعادوهم إلى السجن، كل هذا دون معرفة عائلتة وأصدقائه بمكان وجوده ودون منحه الحق في استدعاء محام.

اتهم منجي في البداية بتهديد الأمن العام التي عادة ما توجه للمجرمين الخطيرين ومثيري الفوضى أو الإرهابيين وتم إسقاطها بعد تدخل المحامي، وتم الإبقاء على “إيتاء أمر موحش في حق رئيس الجمهورية استغلال علامة تجارية دون إذن مالكها” في إشارة إلى وضع شارة قناة فرانس 24 مع تدوينة وفاة الرئيس.

1550650156074-20181029150415afpp-afp_1af0yqh
تونس. الوكالة الفرنسية

لحسن الحظ، تدخل الأصدقاء على صفحات فيسبوك مكن العائلة من معرفة أنه قيد الاعتقال. “بعد اختفائي المفاجئ ورواج خبر الإمساك بشخصين تورطا في نشر خبر وفاة الرئيس عرف أصدقائي أنني أحدهما فقاموا بنشر الخبر على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي التي أدت إلى انطلاق حملة لإطلاق سراحي وصديقي المتهم في نفس القضية وخروج بعض الاحتجاجات. كما تطوع بعض المحامين للإنابة عني لتغيير التهم إلى مسارها المدني بعد أن كانت تهماً إرهابية،” يقول منجي. وقد ساهم ضغط المجتمع المدني خاصة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في تخفيف الحكم لشهرين بعد كان معرضاً لأحكام أخرى أشد تصل حد السجن لأشهر طويلة.

اضطررت لمغادرة البيت والمحافظة التي أعيش فيها، دون عودة، فقد أحسست أنني مجرم ولا أعرف إذا كان الأهالي سيتفهمون أن الأمر محض تبلي

بعد خروجه من السجن، ترك منجي محافظة باجة (الشمال الغربي) وانتقل بعد الحادث لمحافظة نابل (الشمال الشرقي) حيث يمارس عملاً حراً، “بعد ما حدث وقيام فرقة مكافحة الإرهاب بالذهاب الى منزلي، اضطررت لمغادرة البيت والمحافظة التي أعيش فيها، دون عودة، فقد أحسست أنني مجرم ولا أعرف إذا كان الأهالي سيتفهمون أن الأمر محض تبلي.”

ورغم أن تونس تسير في اتجاه إرساء نظام ديمقراطي يـُحتم التعددية ويقر بضرورة ضمان حرية التعبير، حيث ينص الفصل 31 من الدستور التونسي الصادر في 2014 على أن “حرية الفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات.” إلا أن الكثير من المخالفات تحدث في الإبان مستهدفة المدونين والنشطاء الذين يفضحون غالباً تجاوزات المسؤولين والأمنيين. وهو ما يبرر اعتبار الملاحقات التي يواجهها المدونين والنشطاء انتهاكاً لحق دستوري. وقالت “هيومن رايتس ووتش” مؤخراً إن السلطات التونسية تُحقق مع مدوّنين ونشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي وتوجّه تهما إليهم، وأحيانا تحتجزهم لمجرّد توجيهم انتقادات إلى مسؤولين. وواجه 9 مدوّنين على الأقل، منذ عام 2017، تهماً جنائية بسبب تعليقات على منصات التواصل الاجتماعي انتقدوا فيها مسؤولين كبارا واتهموهم بالفساد.

1550650036062-20171002141412reup-2017-10-02t141216z_1391728751_rc14dfe71d30_rtrmadp_3_palestinians-reconciliationh
مصر. رويترز


في مصر، لا يختلف الأمر وإن كان أكثر خطراً، فهناك أزمة حقوق إنسان كبيرة بمصر في ظل تعرض مئات الأشخاص من مدونين وصحافيين ونشطاء معارضين لسياسة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للتعذيب والاختفاء القسري على أيدي السلطات وغيرها من ضروب العقاب والترهيب. على الرغم من نفي السلطات المتكرر لوجود معتقلين رأي، كما قال السيسي في مقابلته الشهيرة مع برنامج ستون دقيقة الأمريكي.

محمد، مدون عشريني (طبيب) من مصر رفض ذكر إسمه الكامل، تواصلت معه عن طريق صديق لأن المكالمات الخارجية قد تشكل خطراً على أمنه، أطلق سراحه منذ أيام بعد أن كتب تعهداً بعدم التعليق على أي بوستات عدائية للنظام أو إعادة نشرها أو الحديث في السياسة. ويقول محمد أنه اعتقل بسبب مشاركته منشوراً على موقع فيسبوك اعتبرته السلطات الأمنية محرضاً على قلب نظام الحكم ودعوة للتظاهر، فضلًا مشاركته بالتعليق في حملة “إرحل يا سيسي” على موقع تويتر وعبر عن رأيه في الانتخابات الرئاسية واستمرار السيسي في الحكم.

يقول محمد إنه فوجئ بمداهمة رجال الشرطة لمنزلة في الساعات الأخيرة من الليل وقبل الفجر، ويدخلون غرف النوم ويجرونه وهو نائم ويصرخون عليه بأبشع الألفاظ: “تعاملوا مع أفراد العائلة بالسب والضرب والإهانة حال منعهم من تفتيش المنزل، الذي كان أشبه بعملية تخريب طالت كل مقتنيات المنزل دون رحمة وتم مصادرة جهاز اللاب توب وموبايلات الأسرة وتعصيب عيني وتقييد يدي، ودفعي خارج المنزل إلى سيارة الشرطة. ولم أسمع إلا توسلات أبي وبكاء أخواتي،” يقول محمد.

قرر محمد عدم العودة للنشر من جديد قائلاً: “يكفيني ما لقيته ورأيته من أهوال في السجن ويكفي ما جرى لعائلتي بسبب التدوينة،” دون ذكر التفاصيل

ويتابع: “أدركت أنني لست الوحيد الذي تم القبض عليه بمجرد دخولي سيارة الشرطة، وتم توجيهي إلى الجلوس في سيارة الترحيلات بالضرب والإهانة، وانطلقت السيارة لأكثر من نصف ساعة ثم توقفت وظل الصمت لأكثر من ساعة ثم فتحت أبوابها ليدخل ضحية جديدة من ضحايا الاعتقال التعسفي. وجدنا أنفسنا على باب السجن ووقفنا في فنائه وتم خلع عصابة العين، والتعامل معنا كقطيع من الحيوان، ثم تم توزيعنا على عنابر السجن مع المساء دون السماح لأي منا بالأكل أو الشرب.”

بعد أكثر من شهر تمكنت أسرة محمد من معرفة مكانه وسمح لها بزيارته. خضع محمد للتحقيق نافياً كل التهم التي نسبت له والتي كانت “تكدير الرأي العام والاشتراك في حملة تقودها جماعة إرهابية ضمن مخطط لقلب الحكم.” ولعدم وجود ملف أمني لي أو سوابق سياسية، تمكن المحامي الخاص به من الحصول على إفراج، “كتب تعهد مني ومن والدي بعدم المشاركة أو التعليق على أي حملات من شأنها تكدير الرأي العام أو تدعو لقلب نظام الحكم أو التظاهر.”

وقضى محمد 11 شهراً في السجن، وثلاثة أيام، وإثر خروجه من السجن، عاد إلى عمله كطبيب، ولكنه حاول مغادرة البلاد أكثر من مرة دون جدوى وما زال بصدد المحاولة. وقد قرر محمد عدم العودة للنشر من جديد قائلاً: “يكفيني ما لقيته ورأيته من أهوال في السجن ويكفي ما جرى لعائلتي بسبب التدوينة،” دون ذكر التفاصيل.

وقد تم اعتقال عدد كبير من المدونين والصحفيين في مصر حتى أن منظمة العفو الدولية وصف البلاد بأنها “سجن مفتوح للمنتقدين.” وبحسب التصنيف الدولي لحرية الصحافة للعام 2018، تحتل مصر المرتبة الـ161 في قائمة تضم 180 دولة. وكانت حادثة اعتقال الصحفي والناشط وائل عباس بسبب تدوينة على الفيسبوك أحد أكثر الملفات التي أثارت حفيظة الرأي العام المصري والدولي كما جندت كبار المنظمات الدولية للضغط لإطلاق سراحه. وقضى وائل عباس، والذي يعتبر من أبرز الشخصيات الشابة التي شاركت في احتجاجات 2011 التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك، واشتهر بنشره فيديوهات حول التعذيب في أقسام الشرطة إبان نظام مبارك، في الحبس نحو سبعة أشهر، قبل أن يتم الإفراج عنه في ديسمبر.

1550650087557-20181214124603afpp-afp_1bl7drh-1
فلسطين. الوكالة الفرنسية


المدون والصحفي براء القاضي، 26 عاماً، من فلسطين، والذي تواصلت معه عن طريق الهاتف، أصبحت له علاقة خاصة مع أجهزة الأمن في فلسطين بسبب كتاباته. فقد سجن في المرة الأولى بعد كتابته مقالاً معمقاً كشف فيه عن “قتل السلطة للمقاومين ومطاردتهم” ومن ثم اعتقل وتعرض للضرب والملاحقة بسبب تدوينتين على فيسبوك.

واحدة من التدوينات على فيسبوك كانت في 2015 على خلفية هزيمة المنتخب الفلسطيني لكرة القدم تهكم فيها عن المنتخب مطالباً بإدخال بعض التغييرات على الفريق كأن يتم إقالة رئيس الاتحاد الفلسطيني جبريل الرجوب (رئيس المخابرات الفلسطينية السابق) وتعيين ماجد فرج، رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطينية الحالي في الضفة الغربية مكانه – في إشارة الى أن كليهما ليس لهما علاقة بالرياضة من أصله.

1550649784968-52292231_542708152917161_7904638608206725120_n

“بعد نشري هذا البوست، استدعيت لإجراء مقابلة مع جهاز المخابرات مباشرة،” يقول براء ويضيف: “لدى دخولي للتحقيق أخذوا هاتفي ورباط حذائي عندها عرفت أن الأمر اعتقال وليس مجرد مقابلة. وضعت في غرفة لا يوجد فيها سوى مكتب حيث قدم المحقق وافتتح استجوابه بسؤالي عما أقصده من وراء الكتابة عن ماجد فرج. فأخبرته أنني أعني الكابتن ماجد بطل المسلسل الكارتوني المحبوب وغنيت له أحد مقاطع أغنية جنيريك السلسلة (الكابتن ماجد عاد من جديد)، فاعتبر أنني استهزأ بمسؤول في المخابرات.”

تم حبس براء لأربعة أيام. “وضعوني في زنزانة ضيقة جداً بفراش بالغ القذارة وعلى مدار أربعة أيام، كان التحقيق يتم في الليل حول جملة من المسائل الأخرى التي لم تكن تتعلق بالتدوينة، وكانوا يقومون بفتح التلفزيون ليلاً ونهاراً بصوت مرتفع عند باب الزنزانة هذا فضلاً عن الأكل السيء،” يقول براء: “في اليوم الرابع أخذت للمحاكمة، ولكن النيابة رفضت تحويل الملف للقضاء معتبرة أن لا إساءة في الموضوع وتم إخلاء سبيلي.”

ورغم أن الوضع في فلسطين على غاية من الدقة في ظل تعقيدات الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته المستمرة ضد الفلسطينيين، إلا أن السلطات الفلسطينية لا تتوانى في ممارسة ضغوط كبيرة ضد النشطاء والصحفيين والمدونين المعارضين. وفي تقريرها العالمي لسنة 2018 قالت منظمة هيومن رايتس ووتش أن أجهزة الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة “مستمرّة في اعتقال وتعذيب المنتقدين والمعارضين السلميين.” في 13 يونيو فضّت الأجهزة الأمنية احتجاجاً في رام الله ضد سياستها تجاه غزة بعنف، واعتقلت عشرات المتظاهرين، وضربت بعضهم في الحجز قبل الإفراج عنهم.

في المرة الثانية تعرض براء للضرب في الشارع من “عناصر أمنية” كما يقول بعد أن نشر تعليقاً على فيسبوك انتقد فيه رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن، قال فيها “على سيرة انتخابات الكنيست أبو مازن ليش مش مرشح حالو؟؟ يعني الزلمة ما قصر خلال الفترة الماضية (خصوصا بالجانب الأمني) ….”

1550649836588-52749972_256030548632005_4015781450958766080_n

يقول براء أنه تلقى رسائل تهديد ومكالمات تتوعدني بالقتل والخطف بعد نشر التدوينة الساخرة، وبعد أسبوع وخلال مغادرته أحد المطاعم تم مهاجمته من قبل أربعة ملثمين انهالوا عليه بالضرب المبرح بأقدامهم. “بعد احتفال الضرب الذي لقيه رفع أحدهم رأسه وانهال علية بالضرب مرة أخرى ثم قال له هل وصلت الرسالة فقلت نعم وتركوني في حالة يرثى لها ثم غادروا،” يتذكر براء الحادث الذي حصل قبل ثلاث سنوات. ورغم فتح تحقيق في ما حصل، إلا أنه لم يتم توجيه أي تهمة لأحد.

اضطر براء بعد فترة الانقطاع عن الكتابة الصحفية والتعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب المضايقات والمشاكل التي باتت تلاحقه واتجه للعمل في التجارة رغم تعلقه بمهنة الصحافة والكتابة: “لا أفكر حالياً في الكتابة لأنها جعلتني تحت أنظار وملاحقة الأمن بصفة متكررة، وإن كنت أشعر بالامتنان للاجهزة الأمنية لأنها جعلتني مشهوراً،” يقول براء ساخراً “ولكنني سأظل متمسكاً بأفكاري واعتراضاتي على السلطة لآخر رمق.”

هذه الشهادات تصب في خانة الانتهاكات الخطيرة التي تحدث بشكل دائم وممنهج في عدد من المجتمعات العربية. وللذكر فإن هناك شهادات أشد قسوة وأكثر مرارة لم يكتب لها النشر سواء في هذا الفضاء أو غيره بسبب خوف الضحايا من الملاحقات مجدداً والتعرض للسجن والتعذيب. ولكن كل هذا التخويف، لا يعني أن هؤلاء المدونون سَيصمتون أمام ممارسات سلطة لا تلبي حاجاتهم وفي أحيان كثيرة تعمل ضدهم: “سأواصل كتابة ونشر تدويناتي، لن تخيفني محاولات السلطة في إسكاتي، رغم صعوبة ما مررت به والرعب الذي شهدته خلال الاعتقال، إلا أن ما حصل زادني قوة وتمسكاً بأفكاري،” يقول منجي.