ليس خافياً على أحد الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعاني منها لبنان، منذ عام 2019، وهي مستمرة إلى يومنا هذا، مع ازديادها سوءاً يوماً بعد يوم.
نتج عن هذه الأزمة، أزمات اجتماعية عدة، من بينها أزمة انقطاع الدواء والخبز والبنزين والكهرباء. اليوم ينتج التدهور الاقتصادي أزمةً جديدةً، هي أزمة السكن، خاصةً في بيروت، مع قرار الكثير من ملاك المنازل بالتحول من دفع إيجارات منازلهم من الليرة اللبنانية إلى الدولار.
Videos by VICE
في ظل صعوبة تأمين الدولار من قبل المستأجرين الذين لا يكفيهم راتبهم الشهري بالأصل، يهدد هذا القرار يهدد الكثير من الأفراد والعائلات للاستغلال والتشرد.
على إثر هبوط العملة المحلية مقابل الدولار الأمريكي، فقدت رواتب العمال والموظفين حوالي 97 بالمئة من قيمتها، ولم تعد تكفي تأمين الحاجات الأساسية، في الوقت الذي ارتفعت الأسعار بشكل كبير بعدما توقفت الحكومة عن دعم السلع والمواد المستوردة.
الطلب المتزايد على الدولار في لبنان، مرتبط بشكل مباشر بتغير سعر صرف الليرة يومياً، مما يؤدي إلى خسارة المواطنين قيمة مدخراتهم البنكية وقيمة راتبهم الشهري، حيث يبلغ متوسط رواتب الموظفين ما بين 60 و120 دولارا أميركيًا على أساس سعر الصرف. وفي حين تم الطلب من المصارف بدولرة الرواتب من خلال التعميم رقم 161، إلّا أنّها اقتصرت على بعض الناس ولمدّة محدودة فقط، واشتكى البعض من قيام المصارف باعتماد تسعيرة مختلفة للدولار.
في ظل هذا الوضع، يسعى أصحاب العقارات إلى “دولرة الإيجارات” كي يحافظوا على قيمة مدخولهم الشهري، ونتيجة لذلك أصبحت قيمة الإيجارات مرتفعة جداً، وهو ما انعكس على الأفراد بشكل كبير، فهو أكبر مبلغ يدفعه الفرد في الشهر، وهو يحدد كيف سيصرف الشخص باقي مدخوله، وكيف سيكون نمط حياته. خلال أشهر الصيف، ارتفع الطلب على الإيجارات في ظل وجود المغتربين، ولكن حتى بعد سفر المغتربين، يفضل الكثير من أصحاب المنازل ابقاء منازلهم خالية، على تأجيرها بالليرة التي تخسر قيمتها باستمرار.
يبحث كثير من الشباب عن منازل مقبولة، أو حتى سرير في غرفة، كي يبقى شيء من مدخولهم الشهري، ولكن التحول المفاجئ للايجارات من الليرة إلى الدولار زاد العبء المالي عليهم، كما أن رفع سعر صفيحة البنزين بأكثر من ٦٠ بالمئة، جعل من تنقّل الموظف من والى مركز عمله يشكل عبئًا مالياً كبيراً وهذا يعني أن العيش في مناطق بعيدة نسبياً عن مكان العمل، ربما بإيجارات أرخص، غير ممكن.
اللجوء إلى القضاء ليس أفضل حل كذلك. في حال حدوث نزاع قضائي، على تسعير المنزل قد يتم بالنهاية إخلاء الشقة بالقوة، وهو الأمر الذي يستفيد منه أصحاب المنازل.
“أسكن في منطقة الأشرفية، عندما سكنت قبل سنة كانت صاحبة المنزل تأخذ الايجار بالليرة اللبنانية، ورفعت السعر مرتين خلال أقل من سنة حتى وصل إلى ٧ ملايين ليرة لبنانية من دون فاتورة كهرباء المولد،” تقول كارمن (اسم مستعار)، 30 عاماً، صحفية تعيش في بيروت وتقبض راتبها بالليرة والذي يساوي حوالي ٢٠٠ دولار. وتضيف: “الشهر الماضي طلبت صاحبة المنزل أن يصبح الايجار بالدولار الأميركي، ٤٠٠ دولار إيجار منزل مع اشترك الكهرباء- وهو نصف راتبي تقريباً، لم تفلح محاولاتي للتفاوض معها والجملة الوحيدة التي نقلها ناطور البناية على لسانها: “الي عاجبو يضل والي مش عاجبو يفل.”
تشير كارمن أن وضعها ليس استثنائياً، جميع أصحاب المنازل رفعوا سعر الإيجارات بطريقة غير معقولة منذ بداية العام. وتكمل: “البيوت الرخيصة هي مناطق بعيدة ولا أفضل العيش هناك. محيطي وأصدقائي هم قريبون مني الآن، إضافة إلى كلفة التنقلات وسيارات الأجرة، لو أخذت منزل في منطقة بعيدة، سيكون مساوياً لايجار منزلي هذا أو ربما أكثر مع كلفة النقل إلى عملي. مازلت أبحث عن خيارات أخرى، لكن الأكيد أنني مضطرة إلى البحث عن عملٍ إضافي فيما لو أردت أن أسكن في منزل لائق.”
ديالا، 24 عاماً، تعمل في مجال إدارة أعمال وتعيش في جونيه، شمال بيروت في منزل مشترك، تشير إلى أن إيجار غرفة واحدة كان مليون ليرة (٢٥ دولار حالياً) -من راتبها الشهري الذي يبلغ مليونين و500 ألف ليرة فقط.
بعد فترة قام صاحب المنزل برفع سعر الإيجار لـ مليوني ليرة، وهذا يعني أن إيجار الغرفة يقارب مجموع راتب ديالا الشهري. وتضيف: “في شهر أغسطس، عاد صاحب المنزل بنغمة جديدة وطلب منا نحن الفتيات إخلاء الشقة، لأنه اخته تريدها، ولكننا نعلم أنه يريد تأجيرها بالدولار وليس بالليرة اللبنانية.”
تسكن ديالا حالياً في dorm -مبنى يوفر أماكن للنوم والسكن لأعداد كبيرة من الطلاب والموظفين، ولكن السعر الشهري لغرفة في دورم لا يقل عن مليون ليرة: “بعد دفع الإيجار والحاجات الأساسية، لا يتبقى شيء من راتبي كي أستطيع مساعدة أهلي الذين أيضاً يعانون من انهيار قيمة راتبهم التقاعدي.”
ايلي (اسم مستعار)، 25 عاماً، يعمل في مجال الفن، ويترواح راتبه بين 9- 10 مليون ليرة (قيمته 250 دولار حالياً): “كنت أسكن مع صديقتي، في احدى أحياء بيروت، ولكني وقررت البحث عن بيت صغير، غرفة واحدة أو استديو، لأنني أريد السكن لوحدي، ولكن كل الشقق التي وجدتها يريدون الايجار بالدولار، أو يريدون بدل إيجار مرتفع جداً إذا كان بالليرة، وأغلبهم يردون أن تدفع لهم 3 أشهر مسبقة. الإيجارات التي وجدتها تتراوح بين 300-400 دولار، من دون اشتراك المولد (يبلغ 100 دولار على الأقل)، أي ما يوازي ضعف راتبي. لذلك عدلت عن فكرة السكن وحدي بسبب الكلفة المرتفعة، وأبحث الآن عن غرفة ببيت مشترك، ولكنها ليست حلاً أيضاً، فالغرفة ايجارها بين 200-250 دولار، أسكن لدى أهلي الآن، لحين إيجاد منزل.”
المشكلة أن المزاجية هي التي تحكم العلاقة بين المالك والمستأجر، وذلك بسبب غياب أي دور فاعل للدولة في تنظيم هذه العلاقة التي ينتج عنها الكثير من المشاكل. قبل الأزمة الاقتصادية الحالية، كان هناك عقود واضحة بين المستأجر وصاحب المنزل وبسعر محدد وثابت في أغلب الأحيان، اليوم، وبسبب تغير سعر صرف الليرة، أغلب ملاك المنازل لا يقبلون كتابة العقود إلا بالدولار الأمريكي، ومنهم من لا يقبل بتسجيل عقد بأي عملة، كي يستطيع رفع السعر دائماً.
بحسب مرصد السكن، قانون الايجارات المسمى قانون الاستثمار الصادر عام 1992 أعطى للمالك الحق بإبرام العقد بالدولار أو بالليرة، ولكن لا يحق للمالك رفض القبض بالعملة الوطنية وعلى سعر الصرف الرسمي. بعد الانهيار الاقتصادي عام 2019، تغير سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وأصبح للدولار عدة أسعار: هناك الرسمي الذي بقي على 1،500 ليرة إلى الآن، أو سعر الدولار على منصة صيرفة الذي بلغ حوالي 29 ألف، والسوق السوداء، الذي يوازي اليوم 39 ألف ليرة للدولار.
هذه الشربكة المالية، انعكست على العلاقة بين المالك والمستأجر، فعلى أي سعر يدفع المستأجر إن كان عقده مبرم بالدولار؟ كثير من أصحاب العقارات يحاولون استغلال الأزمة لكسب المزيد من المال. اللجوء إلى القضاء ليس أفضل حل كذلك. في حال حدوث نزاع قضائي، على تسعير المنزل قد يتم بالنهاية إخلاء الشقة بالقوة، وهو الأمر الذي يستفيد منه أصحاب المنازل.
“قبل الأزمة، كان ايجار بيت اهلي في عين الرمانة في قضاء بعبدا في جبل لبنان يدفع مسبقاً عن ٦ أشهر أو سنة ومن دون أي تأخير وكان الإيجار الشهري مليون و200 ألف ليرة ما يساوي 800 دولار حينها. أما الآن ومع مطالبة المالك بدفع الايجار بالدولار النقدي، تم رفع الايجار لـ ٦٠٠ دولار شهرياً. والحجة الغريبة لصاحب العقار هو أننا نعيش في الخارج،” تقول مايا، 34 عاماً، مهندسة تعيش في دبي. وتضيف: “طبعاً المبلغ غير منطقي. أبي مثل كل الناس راتبه بالليرة اللبنانية وفقد قيمته. من المستحيل أن نقبل بهذا الاستغلال. رفض أهلي العرض وهددوا باللجوء إلى القضاء. المفاوضات لا تزال قائمة ورحلة البحث على منزل آخر مستمرة أيضاً.”
روان، 25 عاماً، من بيروت تعيش في فواييه في فرن الشباك قضاء بعبدا. الفواييه هي عبارة عن شقق مقسمة الى غرف نوم، يتم تأجيرها للطلاب غالباً، أو للذين لا يستطيعون استئجار منزل كامل، ويكون بدل الإيجار إما على السرير الواحد، أو يكون عدد من الزملاء في الغرفة.
مع أن تأجير سرير واحد من المفترض أن يكون ضمن قدرة الطلاب والموظفين، إلا أن عملية تأجير الأسرّة للطلاب أصبحت عملية استثمار رابحة، إذ لا يقل سعر إيجار السرير الواحد عن مليون ليرة، يُضاف إليها مصاريف أخرى، كاشتراك مولدات الكهرباء والانترنت.
“كنت أدفع مليون ليرة للسرير. منذ فترة رفع طلب مالك العقار السعر ومن ثم طلب مني الدفع بالدولار، أصبح المبلغ يصل الى 65 دولار على السرير من دون أي خدمات ومن دون الكهرباء، ومع حمامٍ واحد لأكثر من ٤ فتيات،” تضيف روان: “اختلفت مع صاحب الملك وتركت المكان، فلا يمكنني دفع حتى سعر سرير براتبي الحالي. أسكن الآن مع رفيقتي في صيدا رغم أن عملي في بيروت، إلى حين إيجاد بديل آخر.”
منذ بروز أزمة دولرة الإيجارات منذ بداية العام، ظهرت بعض المبادرات ومنها إنشاء مجموعات على فيسبوك، لعرض الشقق بالليرة اللبنانية حصراً، ولكنها لم تنجح، وبقيت بالظل، كون أغلب الشقق المعروضة خارج بيروت، وطالما أن أصحاب المنازل، يفضلون ابقاءها خالية، على أن يتم تأجيرها بالليرة تخسر قيمتها كل يوم، فإن كان إيجار المنزل 4 ملايين ليرة هذا الشهر فهو يساوي 100 دولار، ولكن بعد شهر سيصبح هذا الرقم يساوي أقل من 100 دولار.
لن تستطيع الكثير من العائلات دفع إيجاراتهم الشهرية، مما يعرضهم لخطر التهجير، من بيروت نحو الضواحي والأرياف، حيث الإيجارات أرخص، ولكن المواصلات أغلى، ويقعون مجدداً في دوامة اقتصادية مفرغة، حول كيف سيتم صرف الراتب الهزيل.