أنا شاب من دون مستقبل وطموح، والسبب أنني لبناني

IMG-20191018-WA0113

قبل عدة أشهر، قمت بحجز تذاكر طيران من أجل حضور زفاف الـ Best Friend في قبرص، والذي كان من المفترض أن يكون خلال أول أسبوع من سبتمبر المقبل. كل شيء تغير منذ حجزي تلك التذكرة. اليوم، لم يعد هناك زفاف في قبرص (أو أي مكانٍ آخر)، والأمر ليس له علاقة بفيروس كورونا فقط، بل لأن حياتي كشاب لبناني في الـ 27 من عمره انقلبت رأساً على عقب. السفر لم يعد خياراً، أصبح رفاهية تبدو من عالم آخر. اليوم، كل ما أفكر به هو اذا راتبي سيكفي لشراء الطعام حتى نهاية الشهر، وإن كنت سأتمكن من مساعدة عائلتي بعد فقدان والدي لعمله.

تخيل أن تختفي كل مدخراتك، كل تعبك، كل ساعة عملت فيها خلال الـ 10 سنوات التي مضت، أن تفقد “تحويشة العمر” كل قيمتها بين ليلة وضحاها. بالواقع، ليس علي أن أتخيل، لأن هذا واقعي حالياً، فأنا أعيش وسط أسوأ أزمة مالية ومعيشية يمرّ فيها لبنان بعد خسارة الليرة اللبنانية قيمتها بنسبة وصلت الى الـ 75% عند كتابتي لهذا المقال. في أكتوبر 2019، كان الدولار الواحد يساوي 1،500 ليرة لبنانية. اليوم، أواخر يونيو أصبح الدولار الواحد يساوي أكثر من 8,000 ليرة لبنانية، وهو على إرتفاع مستمر وقد يصل إلى الـ 10,000 ليرة مع بداية هذا الشهر.

Videos by VICE

عواقب خسارة الليرة لقيمتها كانت كارثية، انخفضت القدرة الشرائية لدى معظم الناس (ما عدا الذي يتقاضى راتبه بالدولار)، الأسعار ارتفعت بشكل صاروخي: سعر علبة التونة كان حوالي 2،500 ليرة، أصبحت أصبح حوالي 7،000 ليرة؛ علبة الحفاضات كان لا يتخطى سعرها الـ 30,000 ليرة، اليوم تعدّت الـ 64,000 ليرة. سعر علبة الحليب (2.5 كيلوغرام) كان أقل من 25,000 ليرة، اليوم أصبح حوالي 50,000 ليرة. اضطرت الكثير من المؤسسات الى إغلاق أبوابها مما أدى الى خسارة أكثر من 220,000 شخص لوظائفهم وأكثر من 785 مؤسسة أغلقت أبوابها من سبتمبر 2019 وحتى فبراير 2020 (وهنا أتكلم فقط عن مؤسسات في قطاع المطاعم فقط، فتخيل الرقم الإجمالي الذي يشمل كل القطاعات). هذا من دون ذكر التأثير الاقتصادي السلبي بسبب الإغلاق والحجر المنزلي المرتبط بجائحة فيروس كورونا.

راتبي الشهري، الذي كان من المفترض أن يكفيني للسفر إلى دولة مجاورة “رخيصة الأسعار” مثل تركيا من أجل الاستمتاع بشواطئها لمدة أسبوع كامل – لأن شواطئ بلدي (الذي يطلّ من أقصى شماله الى أقصى جنوبه على البحر) تحوّلت الى “مزبلة” بسبب النفايات – أصبحت قيمته من نفس قيمة كعب عالي. يعني راتبي صار “يساوي صرماية” بكل معنى الكلمة. ولكن، الاضطرار إلى التخلي عن السفر والاستمتاع بوقتي قد لا يكون أمراً تراجيدياً، وقد تكون رفاهية في الوضع الحالي. تخيل الشخص الذي يتقاضى راتباً أقل بكثير من ذلك، وبالكاد يكفي لإطعام عائلته… تخيل قيمة راتبه اليوم.

هناك اقتراح بأن “تتبنى” كل عائلة لبنانية في الخارج، عائلة لبنانية في الداخل، على أساس اللبنانيين المغتربين عايشين في قصور. اقتراحات … الاقتراحات ما عليها جمرك

بصراحة، لم يعد لدي أي طموح، ولا أرى أي مستقبل في هذا البلد، كل ما أريده هو أن أهاجر، وحتى رئيس جمهورية لبنان ميشال عون يريدني أن أهاجر، ولم يتردد بالاعتراف بذلك أمام ملايين اللبنانيين عندما قال: “الي مش عاجبه يهاجر“- طبعاً، لأن المطالبة بأبسط حقوق الإنسان هي جريمة تستحق الترحيل. المشكلة هي أن الهجرة شبه مستحيلة؛ جواز سفري اللبناني قيمته أسوأ من قيمة الليرة اللبنانية في الوقت الحالي، وترفض معظم الدول استقبالي من دون مبلغ طائل من المال، اضافة الى أن تأشيرة دخول تتطلب 100 معاملة وورقة (وكل هذه المعاملات والأوراق تكلّف قدر كبير من المال). أنا، وآلاف الشبان والشابات، نعيش في سجن حجمه 10,452 كيلومتر مربع، وجريمتنا هي المطالبة بأبسط حقوق الإنسان.

قد تعتقد أنني أبالغ. لا شك أن هناك حل. في الواقع، لم يتوقف البعض عن “اتحافنا” باقتراحاتهم منذ بدء الأزمة. مثلاً بسبب تضاعف أسعار المواد الأساسية ثلاث وأربع مرات، يقترح البعض أن نعود للطبيعة ونزرع محاصيلنا في منازلنا مثل حملة “زريعة قلبي” التي أطلقتها المخرجة اللبنانية الشهيرة والقديرة نادين لبكي. بس ع فكرة، الكثير من الأشجار والنباتات تستغرق حوالي 5 أعوام كي تثمر. يمكنك زراعة الفجل مثلاً الذي لا يستغرق أكثر من شهر. يعني، يمكننا تناول الفجل حتى زوال الأزمة، ما يعني أن الأشجار بهذا الوقت تكون بالتأكيد قد أثمرت. يمكنك أيضاً التخلي عن اللحمة وأن تركز على البرغل، أصلاً أحسن لصحتك. لا يمكنك تحمل فواتير المياه والكهرباء؟ منا مشكل، لبنان طبعاً شهير بأنهاره وبحره، كل ما عليك هو أن تتعلم كيفية تطهير المياه أو فصلها عن الملح. أما الكهرباء، بسيطة، يمكنك الإستعانة بـ 486,000 حيوانات هامستر تركض داخل عجلات صغيرة من أجل توليد طاقة كهربائية تكفي منزلك لمدة عام كامل. وهناك اقتراح بأن “تتبنى” كل عائلة لبنانية في الخارج، عائلة لبنانية في الداخل، على أساس اللبنانيين المغتربين عايشين في قصور. اقتراحات … الاقتراحات ما عليها جمرك.

1593691114251-IMG-20200702-WA0024
الصور من ثورة أكتوبر 17 العام الماضي في لبنان. تصوير: جويل بعقليني.

طيب. من المسؤول عن هذه المأساة؟ بحسب الشعب، الدولة. بحسب الدولة، الفاسدين. من هم الفاسدين؟ الدولة. من انتخب الدولة؟ الشعب. كيف طلع معهم أن الشعب هو المشكلة؟ في الواقع، من الصعب شرح كيف وصلنا إلى هنا: سأشرح ذلك بشكل مختصر جدًا في جانب واحد، يعتمد لبنان على الاستيراد بشكل ضخم (في عام 2018، بلغت قيمة الواردات 21 مليار دولار، مقابل 3.6 مليار للصادرات)، والدولة اللبنانية كانت بحاجة الى المال من أجل دعم العديد من الواردات، على رأسها الكهرباء التي تكلف أموال طائلة. من أين كانت تحصل الدولة على هذه الأموال؟ من المصارف. بمعنى آخر، كانت الدولة تأخذ قروضاً مالية (بالدولار) من المصارف (أي أموال المودعين) من أجل دعم الواردات، وكانت المصارف تستفيد من الفوائد.

الأزمة بدأت عندما لم يعد بإمكان الدولة تسوية القروض (اضافة إلى عدم قدرتها على دفع مستحقات اليوروبوند لأول مرة في تاريخها)، وهنا بدأ الدولار يختفي تدريجياً من السوق، لدرجة أن المصارف بدأت برفض إعطاء الدولار للمودعين (وهو حقّهم). ملاحظة: لمن لا يعلم، اليوروبوند (لا علاقة لها باليورو أو أوروبا) هي سندات دين (أوراق مالية ذات قيمة معينة) تُستعمل كأداة دين من قبل الحكومات لتمويل مشاريعها، وعلى الحكومة أن ترد هذا الدين مع فوائد بعد مدة من الزمن. لماذا لم يعد بإمكان الدولة تسوية القروض؟ لأن السياسيين يسرقون هذه الأموال من دون الإستثمار في أي مشاريع، أو للإستثمار بمشاريع تكلّف أقل بكثير من مبلغ القرض (وما يتبقى من القرض، تتم سرقته).

نحن لم نسكت. نزلنا إلى الشوارع في 17 أكتوبر، تظاهرنا ومازلنا “نحاول” التظاهر رغم القمع واستخدام العنف الشديد ضدّ المتظاهرين من قبل عناصر الأمن والجيش -رغم أن رواتبهم لا قيمة لها ايضاً. طالبنا بإستعادة الأموال المسروقة، طالبنا بحكومة تكنوقراطية لا علاقة لها بالطبقة السياسية الفاسدة، طالبنا بالعدالة ومحاكمة السياسيين -الذي إنجازهم الوحيد هو تدمير البلد وزرع الطائفية وتكديس الثروات منذ عام 1975 وحتى اليوم. طالبنا بحياة طبيعية عادلة وكريمة وبخدمات طبية وصحية وشوارع وبنى تحتية…المطالب كانت ومازالت كثيرة، ولكن لا حياة لمن تنادي. صحيح “أسقطنا” الحكومة القديمة بفعل التظاهرات، إلا أن الحكومة “الجديدة” هي فعلياً القديمة، ولكنها “متنكرة” بوجوه جديدة.

وهلأ لوين؟ يبدو أن الحل المؤقت لحل هذه الأزمة المتشابكة هو حصول الدولة اللبنانية على مساعدة صندوق النقد الدولي (IMF)، إلا أن الـ الصندوق يفرض العديد من الشروط قبل تقديم أي مساعدة، مثل تخفيض النفقات العامة وإلغاء الدعم عن السلع الأساسية وزيادة الضرائب وتحرير سعر الصرف أي تخفيض قيمة العملات الوطنية وهي مطالب يمكن أن تؤدي إلى مزيد من الركود الاقتصادي. باختصار المساعدات التي سيقدمها الصندوق ليست مجانية، بل هي مشروطة ‏بخطوات بعضها إصلاحية وبعضها سياسية مثل المطالبة بإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وهو ما يخلخل مفهوم السيادة في أي دولة.

الحل ليس بالضرورة هو اللجوء للصندوق، فالكثير من تجارب العديد من الدول التي طلبت المساعدة من صندوق النقد جاءت سلبية، حيث تسببت السياسات المفروضة من الصندوق في تقلّص فرص العمل وزيادة البطالة والفقر وزيادة التفاوت في توزيع الدخل. الخيارات أمام لبنان محدودة جداً، يمكن الموافقة على بنود معينة ضمن النقاشات مع الصندوق أو يمكن اعتماد خطط بديلة تعتمد على مقدرات لبنان الوطنية. هناك نماذج كثيرة لدول تخطّت أزماتها، من دون الاعتماد على صندوق النقد الدولي، كالهند التي تحقّق نمواً سنوياً ثابتاً وإن كان ضعيفاً، على عكس باكستان وبنغلادش اللتين خضعتا لسياسات الصندوق. ولكن لتحقيق أي تغيير حقيقي نحن بحاجة أولاً (برأيي الشخصي جدًا) إلى تغيير النظام السياسي الذي يتغذى على الطائفية وتحويله إلى نظام سياسي واجتماعي مدني علماني عادل، إلا أن هذا التغيير لا يحصل بين ليلة وضحاها، فالتغيير يبدأ من داخل المنازل والمدارس.