(1)
“إنت بِرّاوي ابن أمك” قالتها لي عمتي كثيرًا عندما كنتُ طفلًا، لم أفهم معنى كلمة ” بِرّاوي” حتى ذهبتُ إلى أمي وسألتُها، فعرفتُ بعد ذلك أن الكلمة تعني أنني لا أحب الآخرين، ولستُ اجتماعياً (معلش عمتي ولها حق القرابة).
(2)
تروي لي أمي هذا الموقف… عندما كنتُ طفلًا كانت عمتي ذاهبة لزيارة جدتي لوالدي، فذهبتُ إليها وقلتُ: عمتو، لما تشوفي تيتة، قولي لها أحمد ابن إيمان بيسلم عليكي.” ردت عمتي بغضب غير مفهوم: “انت اسمك أحمد إبن زكريا.”
لحظة… فاصل كرتوني
(3)
دعوني أخذكم في رحلة سريعة لحل لغز صغير عانى كل أصدقائي المقربين لفك شفرته. هذا اللغز يتعلق بعائلتي. إذا عدتُ معكم لمرحلة الطفولة ستدركون شيئـًا كوميدياً لم أفهمه لمدة من الزمن. عمتي التي تحدثتُ عنها منذ لحظات، هي زوجة جدي لأمي، أي أنها مرات أبو أمي (لا تضحكون، هذه حقيقة ورب الكعبة)، هذا يعني أن أولاد عمتي، هم في نفس الوقت أخوالي. أما أبي فهو أخو زوجة جدي، وجدي هو زوج عمتي (حد فاهم حاجة؟) الحمد لله لم يكن هناك أي خطأ في المعادلات الزوجية بين أي طرف من الأطراف، لكن هل استطاع أحدكم أن يفهم هذه العلاقات العائلية المتشابكة؟ إذا نجحتم في ذلك، برجاء التواصل معي، وإذا فشلتم يمكنكم التواصل معي كذلك، فالأمر سيان.
Videos by VICE
عودة بعد الفاصل …
(4)
لسنوات ليست بالقليلة كانت علاقة أمي المتوترة بعمتي ذات السطوة في العائلة، تزيد من حالة الحنق التي أشعر بها تجاهها، فهي لن تكون أقرب لي من أمي في النهاية. عندما كانت تكرر هذه الكلمات ” بِرّاوي” “وابن أمك” كنتُ أرد عليها بسذاجة طفولية “أيوة أنا ابن أمي يا عمتو.” لم تكن لي علاقة قوية بأي امرأة في العائلة سواء عماتي أو خالاتي حتى تصل لدرجة الحضن (كنت بقرف وقتها من الأحضان والبوس)، امرأتان فقط كانتا تخرقان هذا الحاجز، أمي وجدتي لأمي. بطبيعة الحال، كان هذا الأمر يثير غضب عمتي بشدة، وعليه فالشيطان الصغير بداخلي كان سعيدًا بذلك. أمي انتظرت تسع سنوات حتى ترى وليدها الأول، حضرتي، وكانت حياتها مُهددة طوال الوقت بسبب الضغط على والدي من جانب عائلته: طلقها، واتجوز غيرها عشان تخلف لك عيل. أمي لم تستطع استكمال تعليمها، لأن جدي فضل الأبناء الذكور عليها لاستكمال تعليمهم، لأن الست مسيرها لبيت جوزها. أمي التي… كفاية لحد كده ميلودراما، بلاش، أنا مش الأستاذ حسن الإمام عشان أخليكوا تعيطوا.
(5)
منذ عامين تقريباً، وتحديدًا عندما درستُ مقررًا عن النوع (الجندر Gender studies) والذي كان من بين اهتماماتي في السنوات الأخيرة، أدركتُ كم الظلم الذي تتعرض له نساء العالمين، من مشرق الأرض لمغربها. في كل محاضرة، كنتُ أرى النساء اللاتي أعرفهن في حياتي، رغم أن المقرر كان عن نساء أوروبا الشرقية وكفاحهن النسوي في مرحلة الحكم السوفيتي، إلا أنني شاهدتُ نساءً عربيات في نفس المساحة المظلمة. لم أكن أعلم ماذا يمكنني فعله لتغيير هذا الواقع، وفي لحظة ما، قررتُ أن أجعل اسم أمي مقترنًا باسمي، أو بالأحرى، اسمي مقترن باسمها. قررتُ أن أنشر مقالًا باسم أحمد إيمان زكريا، اسم أمي قبل اسم أبي (ما أظنش بابا ممكن يزعل يعني، ولو زعل مش هتكون أول مرة أزعله)، ثم قمتُ بتغيير اسمي على كل منصات السوشيال ميديا الخاصة بي، فيسبوك، تويتر، انستغرام.. إلخ.
(6)
لم أفكر كثيرًا في نتيجة مافعلت، فالمسألة كانت ذاتية جدًا، لحظية نعم، لكنها لم تكن انفعالية إطلاقاً، خاصة أنني لستُ الأول الذي يقوم بمثل هذا الأمر، فقد رأيت صديقتين لي من قبل فعلتا الأمر ذاته (مافيش ريادة ولا أي حاجة في الموضوع يعني).
عندما سألتُ أمي عن رأيها فيما فعلت، هي لم تكن تعرف بالأمر، وأمي لا تتحدث الإنجليزية كي تلحظ الأمر على فيسبوك، ضحكت كثيرًا ثم قالت: “انت شهرتني خالص، وخليت كل الناس عارفة اسمي، يعني ما يصحش الناس تعرفه.” فقلتُ لها: ليه؟ هو عيب مثلًا؟ فقالت: “لا مش عيب ولا حاجة، بس احنا ماتعودناش إن اسم الستات يتقال كده في العلن.” فقلتُ لها: “أنا شايف إنه طبيعي اسمك يكون جنب اسمي، ولا أيه يا بابا؟” فضحك والدي وقال: “وماله يابني” ثم مازحني: “يعني أنا دلوقتي يبقى اسمي زكريا عزيزة؟” فقلتُ له: “لما اسم تيتة الله يرحمها يكون جنب اسمك هتكون مبسوط ولا لأ؟” فرد بنبرة واثقة: “طبعاً.”
(7)
ردة الفعل على قيامي بذلك إختلفت، بعض أصدقائي ظن أن إيمان اسم أبي، على اعتبار أن الاسم يحظى بقدر من التواجد في مصر مثل اسم الفنان إيمان البحر درويش، بعض آخر سألني: مين إيمان؟ فأجبت: أمي. بعضهم ضحك، وآخرون راقت لهم الفكرة وقاموا بتغيير اسمائهم، وقطاع ثالث قال: How cute. ولكن الأمر أبسط من الـ cuteness، وأبعد من ضحكات بعض الساخرين، فاسم أمي الذي طالما تم إخفاؤه إذا ما حاول أحدنا أن يطلب منها شيئاً في مجال عام، فيقول: يا أم أحمد.. أيوة يعني مش فاهم، هو اسمها عيب؟ ولا هيجيب العار للقبيلة؟ اسمها إيمان، اسم حلو والله، وكله تقوى وورع.
التناقض هو أنه في نفس الوقت الذي نحاول فيه إخفاء الاسم المقدس عن أعين وآذان الآخرين، تكون نفس الأم هي أول من يُسب ويُلعن بأقذع الألفاظ، بالذمة في جنان أكتر من كده؟ نشعر بالحرج حين يُطلِق أحدهم اسم امرأة في العلن، ثم نستمتع بسيمفونية اللعنات في نفس العلن لنفس المرأة دون أن يحرك هذا الأمر ساكناً. إذا كان احترام المرأة هو ما نقصد، إذًا ما المشكلة في أن يُصحَب اسم السيدة بكلمات عديدة مثل: أستاذة، مدام، أنسة، دكتورة، … إلخ؟ وفي هذا الشأن، لا أعلم أيضاً لماذا مازلنا نتعامل مع النساء العاملات في المجال العام أنهن ذكور، فتصبح الدكتورة دكتور، والوزيرة وزير، أيه مشكلتنا مع تاء التأنيث كمان؟
ما المعضلة في أن يكون اسم الأم مقروناً باسم الأبناء في الوثائق الرسمية؟ الأسماء المصرية والعربية هي الأطول بين كل الجنسيات إذا ما قرأنا جوازات السفر. شخص يضع أربعة أسماء، اسمه، اسم أبيه، وجده، وأبو جده، وأعرف أصدقاء يمتلكون اسماً خماسياً. ماذا سيضر مصالح الأحوال المدنية والشخصية أن تجعل الأمر اختيارياً، مَنْ ي/تريد وضع اسم والدته/ا على البطاقة الشخصية أو جواز السفر، فليـ/تفعل ذلك.
(8)
أسمي سيظل هكذا في كل ما سأقدمه من أعمال مستقبلية، أحلم بأن أرى هذا الاسم مكتوباً على أول فيلم روائي لي، وإن لم أنجح في ذلك، على الأقل هو مكتوب هنا. لم ألتق بعمتي منذ سنوات حتى أخبرها أنني أضع اسمي إلى جانب اسم أمي، وأظن أنها لن تقول لي إنني ابن أمي -باعتبار إنها إهانة، فبعض النساء يرون أن الواد اللي ابن أمه مش رجل ومش بيقدر يقرر في حياته- أو براوي، فالطفل الساذج الذي كان يرد بتلقائية، لم يعد ساذجاً الآن.