لم يكُن اختيار إلهام شاهين لدور المرأة القائدة في تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام (داعش)، صدفة أو عبثًا في مسلسل “بطلوع الروح.” ولم تكُن مواقفها الصريحة ضد الأفكار المحافظة سببًا أيضًا. بل كانت حروبها وجولاتها مع عموم المحافظين والمُتشددين دينيًا. هذه الفنانة التي يتم وصمها بالعهر (Slut-shaming) طيلة سنوات عملها الفنيّة، استطاعت وبحرفيّة بالتعاون مع المخرجة كاملة أبو ذكري أن توظّف هذا الوصم في خدمة الدور. الوصم لم ولن ينتهي، وإلهام شاهين تقف على جبهة بمفردها تدافع عن أفكارها وعن فنها وعن اختياراتها الشخصية كامرأة. اليوم نذهب في رحلة سريعة مع الفنانة إلهام شاهين، وننضم إلى جبهتها ضد وصم النساء بالعهر.
ما هو الوصم بالعُهر (Slut-shaming)؟
ترجمنا المصطلح من الإنجليزية لأقرب توصيف باللغة العربية. يتم وصم النساء اللواتي يتصرفن في أجسامهنّ بطرق لا تتماشى مع المعايير الاجتماعية السائدة في مجتمعاتهن. فالنساء في مجتمعاتنا يتوقّع منهن الالتزام بسلوكيات منها تغطية الجسد والخجل منه، وإلا يتعرضن للوصم بأنهن “عاهرات” في تقليل من شأن العاملات بالجنس التجاري. تتساوى هذه المعايير بمفاهيم مثل الاحترام والأخلاق والفضيلة والعفة، وتُعرف في الأدبيات النسوية بسياسات الاحترام (Respectability Politics).
Videos by VICE
تضطر غالبية النساء للانصياع للمعايير الاجتماعية خوفًا من العنف وتجنبًا للوصم. وبعضهن تتمسك بحقها في ممارسة حياتها الشخصية دون أن ينفي أحدهم عنها صفة الاحترام ويُبرر الهجوم عليها ووصمها بالعُهر. وهذا بالضبط ما حدث مع فنانات مصريات منذ بداية التسعينات: إلهام شاهين على رأس القائمة وبجانبها نادية الجندي، نبيلة عبيد، هالة صدقي، ليلى علوي، ويُسرا، والمُخرجة إيناس الدغيدي. وغيرهنّ ممَن وقَفن في وجه “السينما النظيفة” الخالية من المشاهد الحميمية والمُرحبّة بالعنف والتنمّر بدلًا من الرضائية والموافقة. صممّنَ على تمثيل أدوار تُخالف سياسات الاحترام المفروضة على النساء. في المقابل، تم وصمهن بالعُهر وتم الهجوم عليهن من قبل المحافظين والمتدينين.
موقف إلهام شاهين من “السينما النظيفة”
تزامنَ بدء التوجُه المحافظ في السينما في أواخر الثمانينيات والذي أُطلقَ عليه مصطلح “السينما النظيفة” مع اتجاه عام لوصم الفنانات وصانعات السينما اللواتي حرصنّ على تقديم صناعة فنيّة خالية من الأحكام الأخلاقية. كانت الفنانات أكثر عرضة للوصم من الفنانين الرجال، وتم حصرهنّ إعلاميًا في أنهن فنانات يُقدمنّ أدوار “الإغراء” دون اعتبار للمجتمع الذي يُنتج فيه هذا النوع من الفن.
كان لهذا الحصر الإعلامي وربط الأدوار الجريئة والمشاهد الحميمية بالإثارة الجنسية للمشاهدين/ات دور كبير في خلق موجة وصم عالية طالت الفنانات وحيواتهنّ الشخصية. وازدهرت في المقابل فنانات السينما النظيفة من جيل حنان ترك ومنى زكي وياسمين عبد العزيز. هذا الحصار استخدم أجسام الفنانات كمرادف للأخلاق، تمامًا كما هو الحال مع أجسام النساء في العموم داخل مجتمعاتنا الأبويّة. وأيضًا كمرادف للإثارة الجنسيّة، أي تم تشييئهنّ جنسيًا (Sexual Objectification). وبسبب عامل الشهرة، كان هذا التشييء الجنسيّ للفنانات مرئيًا وواضحًا أكثر من غيره، حتى أنه تم الخلط بين الأدوار التي يقدمنها وبين شخصياتهن وآرائهن الاجتماعية والسياسية. لم يتوقف الهجوم على الجمهور، فهناك قطيعة نشبَت بينها وبين والدها بسبب مشاهدها والتي تمسّكت بها حتى لو كان الثمن قطيعة أخرى بعد المصالحة بينها وبينه.
كانت إلهام شاهين – ومازالت – أكثر فنانات جيلها تعرضًا للوصم بالعُهر لا لشيء أكثر من أنها لا تنصاع للتيار المحافظ. عندما سُئلت أكثر من مرة في أكثر من برنامج إعلامي عن آرائها في السينما النظيفة، نفَت مصطلح اعن بَكرة أبيه، وقالت الفن يجب أن يكون مُتحررًا من الأحكام الأخلاقية. أما المشاهد التي يعتبرها البعض “جريئة وتهدف للإثارة الجنسيّة” فقالت أنها مشاهد ضمن سياق العمل الفني ولا تتعدى ثواني قليلة على الشاشة، ولا معنى لفصلها واعتبارها مشاهد جنسية لأن تركيز المُشاهد يجب أن يكون مُنصبًا على العمل الفني وليس على أجسام الفنانات. هذه الآراء جلبت العديد من النقد لإلهام شاهين تحت زعم أن تلك حرية في اختيار الأدوار. في الحقيقة، لم تنفِ إلهام شاهين حق الفنانات في اختيار الأدوار، قدر ما انتقدت الاتجاه المحافظ الذي ينتقص من قيمة العمل الفني بإقحام الدين والأخلاق فيه.
أما مساندتها للفنانة منى زكي بعد الهجوم عليها بسبب مشهد خلع الكيلوت في فيلم “أصحاب ولا أعزّ”، فأراه موقفًا يتماشى مع فلسفة إلهام شاهين الفنيّة والإنسانيّة. فعلى الرغم من أن منى زكي رائدة من رواد السينما النظيفة والتي لطالما تمت المقارنة الأخلاقية بينها وبين فنانات جيل إلهام شاهين، إلا أن مساندة إلهام لها جاءت خالية من أي مشاعر ضغينة. على العكس، ساندت حقها في الدور وأشادت بأدائها الفني، رغم أنه ولا مرّة انتقدت منى زكي وفنانات جيلها، الوصم الذي يلاحق فنانات جيل إلهام شاهين.
لماذا كل هذه الكراهية ضد إلهام شاهين؟
لعل السبب في اختيار إلهام شاهين لدور “أم جهاد” في مسلسل رمضان “بطلوع الروح” هو أنهاأكثر هؤلاء الفنانات تعبيرًا عن توجهاتها ورفضها للأفكار المحافظة، وأكثرهنّ تعرضًا للإساءة التي وصلت للتشهير بها علنًا في البرامج التلفزيونية. أتذكّر واقعة شهيرة قام فيها شيخ يُدعى عبد الله بدر بطباعة صورًا لمشاهد حميمية أدّتها إلهام شاهين ووصمها بالعهُر في عبارته الشهيرة آنذاك: “كم رجُلا اعتلاكي باسم الفن؟” كل ذلك بعدما عبّرت عن رفضها كمواطنة مصرية لوجود الإخوان المسلمين في الحكم. كان رد فعل إلهام شاهين هوالتقاضي، وحُكم على عبد الله بدر بالسجن والغرامة.
أما عبارة “لحم رخيص” فهي فيلم يحمل نفس الاسم قامت فيه إلهام شاهين بدور شابة مصرية من قرية، تتعرض لجريمة الاتجار بالبشر مع صديقاتها اللواتي يتم تزويجهن لرجال خليجيين. أُنتجَ هذا الفيلم عام ١٩٩٥ وكان سابقة في فتح ملف حساس كالاتجار بالنساء في الأرياف والقرى، قبل إقرار قانون تجريم الإتجار بالبشر في مصر عام ٢٠١٠.
احتوى الفيلم على عدد من المشاهد الحميمية لإلهام شاهين ومن وقتها يتم وصمها بالفيلم، رغم أنها قدّمت العديد من المشاهد الحميمية في أفلام أخرى: يا دُنيا يا غرامي، دانتيلا، والرغبة، وغيرها. إلا أن هذه العبارة بالذات تُقال بغرض التحقير من إلهام شاهين ووصمها بأنها مجرّد “لحم” و”رخيص”. هذا السحق الإنساني (Dehumanization) تتعرض له إلهام شاهين لأنها لا تنصاع للمعايير الاجتماعية السائدة عن النساء. ولإيمانها بأهمية وضرورة وجود المشاهد الحميمية لضمان جودة العمل وواقعيّته. ولا تعتبر ذلك هدفه هو الإثارة الجنسيّة كما يُفكر مُهاجميها.
لإلهام شاهين أعمال أخرى سلّطت فيها الضوء على قضايا نسائية حساسة، مثل دورها في فيلم “واحد صفر” حيث أدّت دور امرأة أربعينية مسيحية حصلت على الطلاق لكن لا تأذن لها الكنيسة بالزواج مرة أخرى. فتدخل في علاقة جنسية مع شاب ينتج عنها حملًا خارج إطار الزواج. وقد تعرّضت للهجوم وتم اتهامها بالمساس بالعقيدة المسيحية والنظام الكنسي. إلا أنها دافعت عن الفيلم وعن الدور، مُشيرة إلى كون الفعل حرام أم حلال، لا يتعارض مع ظهوره على الشاشة.
إذن مواقف إلهام شاهين ليست ضد الإسلام كما يصوّرها الإسلاميون. بل هي مع الفن ومع الواقعية مهما كلّفها ذلك من هجوم ووصم.
إيجابية الجسد والجنس في مسلسل “بطلوع الروح”
ما أن رأيتُ إلهام شاهين (أم جهاد) في مشهده تزيُّنها لزوجها (الشيخ نصّار)، حتى شعرت بدغدغة ذهنية كأنني أنظر لكلمة “أخضر” لكنها مكتوبة باللون الأزرق؛ فيمتزج اللون بالكلمة. هذا ما فعلته المخرجة كاملة أبو ذكري باختيار إلهام شاهين لدور أم جهاد. كأنها قامت بتوظيف تاريخ إلهام شاهين بأكمله في خدمة الدور. فهناك فكرة شائعة جدًا حتى في الأوساط الأكاديمية عن أن النساء في التيارات الدينية المتشددة، وخاصة التنظيمات المُسلّحة لا يُمارسن الجنس إلا لإشباع رغبات الرجال، أو يتم اغتصابهنّ لنفس الغرض بجانب الإذلال والإخضاع. هناك طمس لأهلية النساء في اختيار ممارسة الجنس بغرض الاستمتاع الجنسي شأنهنّ شأن الشركاء (Sex Positivity). وهذا الطمس يُقابله شيوع لفكرة أن النساء في التنظيمات الإسلامية، لاسيما القائدات، هنّ بالضرورة لاجنسانيّات (Asexual).
عالجت كاملة أبو ذكري هذه الأفكار النمطية عن النساء في تنظيم الدولة الإسلامية بذكاء وحرص شديد. فبجانب تقديم نماذج للاغتصاب والسَبي والأسر والخطف، ظهر نموذج أم جهاد لامرأة تحب جسدها وتحتفي به وترغب في ممارسة الجنس، بل وتُبادر إليه ولا تجد أي غضاضة أو خجل في المبادرة. تلك مخالفة واضحة لمعايير الاحترام التي يُعتقد بنمطيّة وسطحيّة أن النساء المُتديّنات هنّ أكثر المُلتزمات بها.
لم يكُن ذلك سيحدث لولا اختيار إلهام شاهين للدور. لم يكُن من الصعب التوحُد مع أم جهاد في رغباتها الجنسية، لأن إلهام نفسها مرتبطة في ذهن المشاهدين/ات بالجرأة والاحتفاء بالجسم (Body Positivity)، حتى لو تم وصمها به. كان سهلًا علينا تصديق حب أم جهاد لنفسها ولجسمها وثقتها بأن أي رجُل سيُمارس معها الجنس محظوظًا بها. كان سهلًا علينا وعلى مُهاجميها.
كالعادة، تم الهجوم على إلهام شاهين ووصمها بالعُهر بعبارات استُخدمت للتنكيل بها والتقليل منها، وتم لوم صنّاع المسلسل على اختيارها للدور، كما لو أن المشاهد الحميمية في أفلام إلهام شاهين تجعلها غير مؤهَلة لأداء دور امرأة متشددة دينيًا، مرعبة تقوم بجَلد النساء وتقتلهن لخدمة دوافعها السياسية. ارتكز هذا الهجوم على اعتقاد أنها “أقل” من الشخصية أخلاقيًا، وأقل منها احترامًا. لم يكُن مثلًا لأن أداء الدور سيء كما فعل بعض المشاهدين/ات وقالوا أن كُرهها للشخصيّة طغى على التوحُّد معها على الشاشة. وهذه فكرة شيّقة للنقاش. فهؤلاء يعتقدون أن امرأة قاتلة مثل أم جهاد، أفضل من امرأة تتعامل في جسدها بحريّة مثل إلهام شاهين.
أنا شخصيًا أحبُ إلهام شاهين كفنانة وكإنسانة، ولا تهمني آرائها السياسية المختلفة مع آرائي جذريًا. فإلهام شاهين تعتبر “الربيع العربي” خريفًا وخرابًا. وأنا أعتبره موجات احتجاج وثورات مُستحقة بعد تاريخ حافل بالقمع في البلدان العربية. ما يعجبني حقًا هو أنها عندما سئلت عن موقفها من الثورة السوريّة وما تلاها من حرب أهليّة، أجابت بأمانة أنها لا تعرف كيف تكوّن رأيًا في نظام الأسد، لكن ما تثق فيه هو رفضها الكامل للقتل والتعذيب.
كبرتُ أعرف إلهام بجرأتها وحبها لنفسها واعتزازها بها. وشعرتُ أن لدينا أرضية مُشتركة رغم اختلافنا السياسي. أحببتها وأحببتُ فيلم “لحم رخيص” لأنها كانت المرة الأولى التي عرفتُ منها أن العائلات “تبيعُ النساء.”
لستُ الوحيدة. كتبتُ هذا النص ليصلها أينما كانت ولتعرف أن هناك جيلًا من النساء كبرنّ على أفلامها ويعتبرنها مثالًا جميلًا في حب الجسد والدفاع عنه والوقوف ضد الوصم به. نُحبك ونُساندك يا إلهام.
More
From VICE
-
The 2023 Snow Moon. (Photo by Matt Cardy / Getty Images) -
(Photo by Chris Weeks/WireImage) -
Alleged iPhone SE 4 – Credit: Majin Bu -
Apple TV on phone screen — Credit: hocus-focus/Getty Images