“احمدي ربنا إنه بيساعدك في البيت” -عن منظومة تدليل الرجل

pan-xiaozhen-pj-BrFZ9eAA-unsplash

في السادسة عشرة من عمري انفصلت أمي عن أبي وانتقلنا إلى منزل جديد، واقتضى هذا منها أن تعمل من السابعة صباحًا حتى منتصف الليل يوميًّا لتؤمن مصاريف معيشتنا، وفي غمرة انشغال أمي وقعت على كاهلي جميع الأعمال المنزلية التي كانت تتولاها من قبل. الطهو والتنظيف والغسيل والكي والمسح والتسوق، وغيرها من أعمال البيت. وبشكلٍ قاطع رفضت أن يشاركني أخي هذا العبء، لماذا؟ لأنني كنت أنظر لأعمال البيت باعتبارها مهامًا نسائية خالصة، وإذا اضطر الرجل “للمساعدة” فيها، فهي إهانة لـ”ربة البيت” التي فشلت في الاضطلاع بمهامها بكفاءة، ووحدها.

وهكذا كنت أخرج صباحًا للدراسة ثم العمل وأعود لأنخرط في مهام المنزل، بينما يجلس أخي ليلعب أو يتحدث في الهاتف أو يخرج ليتسكع مع أصحابه. بعد سنوات حين زادت مسؤوليات دراستي وعملي، وطال وقت دوامي ومحاضراتي، صار من المستحيل أن أحافظ على القيام بأعمال البيت بنفس الكفاءة، وحينها طلبت “المساعدة” من أخي، وكانت النتيجة أنه رفض تمامًا، وتشاجر معي لأنني أضع عليه أعباءً “لا تخصه” حتى ولو كانت غسل الطبق الذي أكل فيه، أو نقع ملابسه لأغسلها في الصباح.

Videos by VICE

اليوم أوقن أنني صنعت وحشًا سيحيل حياة من تتزوجه جحيمًا، والسبب: تربية حمقاء علمتني أن الأعمال المنزلية كلها قدر نسائي، لا يشارك فيها الرجل بل “يساعد” كتفضّل منه إذا أراد، ومن هنا استطعت أن أرى الصورة الكاملة لتلك المأساة التي تخرب حياة ملايين النساء في مجتمعاتنا العربية.

**”احمدي ربنا إنه بيساعدك في البيت”
**لا يجب أن تكوني امرأة مصرية لتسمعي تلك العبارة.. “احمدي ربنا إنه بيساعدك في البيت.. غيره ما بيشيلش قشة من مكانها.” أنا واثقة أنها تتردد بتنويعات مختلفة في بلادنا، التي ربتنا على تدليل الرجل واستعباد المرأة للعمل المنزلي غير المأجور.

نتربى منذ طفولتنا كنساء على أن الأعمال المنزلية مهمة نسائية خالصة، لا يشارك فيها الرجل بأي شكل، بل ويعتبر تدخله فيها أمرًا طارئًا جدًّا، وفي حالات شديدة الندرة، مثل مرض الزوجة أو سفرها، ولأننا لا نتوقع هذا التدخل من أي رجل، فإننا نهلل ونصفق لمن يفعله وكأنه أتى المستحيل.

تبدأ المأساة عندما يُطلب من البنات أن يقفن في المطبخ مع الأم خلال طهيها، ويتولين ترتيب المائدة وتجهيزها، ولاحقًا جمع الأطباق وغسلها، بينما يجلس الابن الذكر مع الأب ليمارسا أي نشاط آخر، مثل مشاهدة التلفزيون أو قراءة كتاب أو جريدة، أو الانشغال بأي شيء إلا المشاركة.

بعدها يتطور أسلوب تطبيعنا على العمل المنزلي دون إخوتنا الذكور، عندما نسمع كلمات مثل “نظفي غرفة أخيك – جهزي الأكل لأبيك” بينما يعفى الأخ الذكر من هذه المهام “لأنه ولد.” نتربى ونحن نرى أمهاتنا مجهدات حتى النخاع في القيام بجميع المهام المنزلية، بينما يجلس الأب مسترخيًا مستريحًا بانتظار أن يتم كل شيء على ما يرام، بمرور الوقت يترسخ فينا أن هذا هو الطبيعي، لكن الأسوأ أنه يترسخ في إخوتنا الذكور أيضًا.. الإخوة الذين سيصبحون رجال المستقبل.

تحتفي بعض الأسر بالأب الذي “يساعد” في المنزل ببعض الأعمال، ويستخدم مصطلح “المساعدة” بشكل يؤكد أنها منحة أو تفضل من صاحبها

نتيجة هذه التربية أننا نعيش في مجتمع تعتبر فيه المرأة هي المسؤولة الأولى والوحيدة عن المنزل، وعليها أن تقوم بكل أعماله بكفاءة، وحتى إن كان لها عمل ووظيفة تستهلك كثيرًا من وقتها وطاقتها، فعليها أن تضع مهام البيت في المرتبة الأولى، لأن تقصيرها فيه لا يغتفر وقد توصم بكونها زوجة وأم فاشلة. التحقق والنجاح المهني للمرأة ليسا مهمين مقارنة بصينية مكرونة بالبشاميل عند البعض.

كل هذه الأفكار والمعتقدات تضع على كاهلنا أعباء البيت وتُخرج الرجل من المعادلة نهائيًّا، وكأنه ضيف شرف لا علاقة له بالمكان الذي يعيش فيه. في حالاتٍ نادرة، تحتفي بعض الأسر بالأب الذي “يساعد” في المنزل ببعض الأعمال، ويستخدم مصطلح “المساعدة” بشكل يؤكد أنها منحة أو تفضل من صاحبها، ويكون رد الفعل مبالغًا فيه للغاية، من امتنان وانبهار واحتفاء شديد بهذا الرجل الاستثنائي.

**”يالا ع المطبخ”.. عندما تصبح “مملكتي” عقوبة وانتقاص
**رغم التسويق المستمر لفكرة “بيتي مملكتي” والمدح المبالغ فيه لربة المنزل غير العاملة باعتبارها المرأة المثالية التي “تفرغت لأسرتها، وتربية أطفالها” كما تردد الاسطوانات المشروخة، فإننا في السنوات الأخيرة بتنا نسمع عبارات من نوعية “يالا ع المطبخ” كنوع من إهانة النساء.

أتباع فلسفة “بيتي مملكتي” يصورون حياة ربة المنزل غير العاملة باعتبارها الجنة، فهي تستيقظ وقتما يحلو لها، وترتب بيتها بهدوء، وتجهز الطعام، وتجلس بانتظار زوجها، ويقضيان أمسية لطيفة. إذا كانت أمًّا فهي تملك كل الوقت في العالم لتعتني بأطفالها، وتُجاب كل احتياجاتها من الزوج “المسؤول ماديًّا عن كل شيء” بينما تجلس هي في “مملكتها” مستريحة مكرمة، لا تخرج للعمل حيث يتحكم فيها المديرون، ولا تخالط المتحرشين المزعجين في المواصلات. منتهى الفانتازيا واللا واقعية!

لن نناقش تلك الفكرة الحالمة البعيدة كل البعد عن الواقع، بل سنقول فقط إن العمل المنزلي وظيفة مرهقة بلا أجر، تستمر على مدار الساعة طوال ٧ أيام في الأسبوع، ٣٦٥ يومًا في السنة، بلا إجازات ولا بدل ولا راتب، وأحيانًا دون كلمة شكر وتقدير، إنها ليست وظيفة هينة وتقتضي قوة تحمل وصبرًا بلا نهاية، لكن.. إذا كانت وظيفة ربة المنزل رائعة حقًّا كما يُسوَّق لها هكذا، لماذا تعتبر شتيمة عند البعض؟

في السنوات الأخيرة أصبحت تلك العبارة تتردد في جدالات السوشيال ميديا، “يالا ع المطبخ”، جملة تطارد كل النساء إذا علّقن برأي مختلف، أو هاجمن جريمة ضد المرأة، أو طالبن بحقوقهن المهدرة في المجتمع. تعبّر تلك العبارة عن عقلية أصحابها الذين يرون المطبخ -وأعمال البيت بالتبعية- كوظيفةً مهينة لا تليق بالرجل، ومن هنا تصبح أعظم إهانة توجه للمرأة هي التي تذكرهن بمكانهن الوضيع، المطبخ، حيث يطبخن ويخدمن فقط، دون حق في التفكير أو التعبير أو الاعتراض على أي شيء.

ليس من الطبيعي أن يكون هناك إنسان بالغ عاقل تخطى سن النضج ويعجز عن ترتيب فراشه، ووضع ملابسه في أماكنها، وطهي وجبة طعام

المشكلة في العمل المنزلي ليست فقط كونه يقع على عاتق المرأة فقط، ولكنه أيضاً عمل غير مدفوع. “العمل داخل المنزل مساوٍ للعمل خارجه: كلاهما يُساهم في الإنتاج. لكن الأول مرئي ومقدّر اجتماعيًا والثاني لا” على الرغم من أن هذه المهام المنزلية جزء مهم من النشاط الاقتصادي، حيث تتراوح قيمتها التقديرية من 10-60% من إجمالي الناتج المحلي.

هناك نقاش نسوي كبير حول العمل المنزلي، وإن كان دفع أجور لربة المنزل، سيؤدي لتكريس فكرة “عبودية” ربة المنزل. في المقابل هناك من يرى أن الأعمال المنزلية سيئة، لكن العمل في الشركات الكبرى سيء أيضاً ولا يخلو من عبودية واستغلال كذلك. الحل بالنسبة لبعض التحليلات، “هو حصول ربات المنازل على إعانات بطالة تساوي الحد الأدنى للأجور، مثل العاطلين عن العمل، مع توفير وظائف جيدة وذات أجر جيد لهن، وتشجيعهن على العثور على عمل يسمح لهن بكسب لقمة العيش لأنفسهن.”

هل يجيد الرجل الاستقلال أصلاً؟ بالعودة للصراع الجندري.. يعيش الرجال مدللين بعيدين تمامًا ومستبعدين من المشاركة في مهام المنزل اليومية، اللهم إلا قلة قليلة يمكنها تصليح أعطال الكهرباء أو السباكة وما تيسر من أعمال الصيانة، ما يجعلهم عاجزين تمامًا عن ممارسة مهارات النجاة الأساسية التي تكفل لهم العيش مستقلين.

يتجلى هذا بوضوح في حياة الشباب والرجال المغتربين والمستقلين، الذين يصطدمون -على الأقل في البداية- بعجزهم التام عن رعاية أنفسهم، فيعيشون في فوضى مطلقة، لا يجيدون تنظيم مكان معيشتهم، ولا تنظيفه، ويعجزون عن سلق بيضة تغذيهم. في المقابل تنجو النساء في حياتهن المستقلة دون أدنى جهد، وهو جانب وحيد مشرق من تفرقة قاسية.

قصص كثيرة كهذه لا بد أننا سمعناها ومرت بنا، عن الأب الذي غرق في شبر ماء بعد موت زوجته، عن رجل عجز عن العناية بنفسه بعد وفاة أمه أو زواج ابنته.. كل هؤلاء الرجال يغرقون دون امرأة يجعلوننا نعيد التفكير في “التدليل” الذي ندلله لأطفالنا الذكور باستبعادهم من الأعمال المنزلية. قد يبدو الأمر تكريمًا للرجل وامتيازًا، لكننا في الحقيقة نزين له العجز، ونملؤه بالعجرفة التي تعجزه عن تقويم نفسه والعيش كإنسان حقيقي مسؤول عن نفسه والمكان الذي يعيش فيه.

**كيف ننجو من كل هذا “العك”؟
**عندما نربي الأطفال الذكور مدللين، يُخدَمون ولا يَخدِمون، ويكبرون ليصبحوا رجالاً ومع ذلك نظل نحملهم على ظهورنا كأطفال لا يكبرون أبدًا، ولا يتعلمون أبسط أبجديات العناية بأنفسهم ومن حولهم، وينتظرون أي امرأة لتحمل مسؤوليتهم، أمًّا أو أختًا أو زوجةً أو ابنةً. عدم تحملك كرجل لمسؤوليتك في أعمال البيت إهانة لك، كونك شخص ناضج لكن بمهارات عناية بالنفس أقل من الأطفال.

المأساة التي يعيشها مجتمعنا اليوم، بوضع أعمال المنزل كاملة على كاهل المرأة، بدأت من التربية الخاطئة لنا كأطفال. حين رفضتُ أن يشاركني أخي مهام البيت من كانت مثلي الأعلى؟ كانت أمي التي رأيتها لعقد ونصف من عمري تقوم بكل مهام البيت وحدها، مهما كانت مريضة أو مجهدة، تخرج لتعمل يوميًّا ثم تعود لتطهو وتنظف وترتب البيت. وحين رفض أخي أن يقوم بأبسط مهام البيت “لمساعدتي” من كان مثله الأعلى؟ كان أبي الذي يعود من عمله ليجلس أمام التلفزيون ويحل الكلمات المتقاطعة، ولا يكف عن إلقاء الأوامر مثل “جهزي الأكل، أعدّي الشاي، أريد ماءً” ولم يره قط يقدم مساهمة من أي نوع في المنزل.

البيوت تبنى على الشراكة، وإذا كنا نعيش كشركاء فلا بد أن نتقاسم كل شيء

هذا الوضع الشاذ يجعلنا نتساءل “البيضة ولا الفرخة؟” بمعنى “من بدأ المأساة؟ الرجال الذين يرفضون المشاركة في أعمال المنزل أم النساء اللواتي ربينهم على ذلك؟” الإجابة هي: لا يهم. لا إجابة حقيقية لهكذا سؤال، فالأمور مشتبكة للغاية في مجتمع ذكوري كمجتمعنا، استطاعت فيه الذكورية أن تجند ضحاياها من النساء ليكملن العجلة الدوارة من الظلم والإجحاف، لا يهم كيف بدأنا، لكن يهمنا جدًّا كيف سننتهي.

في السنوات الأخيرة بدأ الوعي بقضية العمل المنزلي غير المأجور يرتفع، وسلط عليه الضوء لنرى قدر قسوته وصعوبته بشكل يستحيل أن تتحمله المرأة وحدها. البيت ليس بيت المرأة وحدها، ولا الأطفال -أو العائلة- لها وحدها. البيوت تبنى على الشراكة، وإذا كنا نعيش كشركاء فلا بد أن نتقاسم كل شيء.

الأعمال المنزلية واحدة من أبرز جوانب الحياة التي تتجلى فيها الفجوة بين الجنسين، ويبدأ هذا من الطفولة المبكرة، لهذا علينا أن ننهي تلك الظاهرة من الطفولة المبكرة. تعليم الأطفال من الجنسين أساسيات مهام البيت وتقاسمها، وتربيتهم على العناية بأنفسهم ومن حولهم ضروري جدًّا، لإصلاح ما أفسدته الأجيال القديمة، لعل القادم يكون أفضل.

إن قضية المشاركة في أعمال المنزل، المشاركة وليس المساعدة، قضية أساسية يجب أن نضعها في حسباننا ونحن نقيّم شركاء حياتنا. على الرجل أن يشارك في بيته، وأن يفهم أنه يقوم بدوره ونصيبه من مسؤولية البيت، لا أنه “يساعد” ويتفضل على شريكته بتقاسم الأدوار. لقد حان الوقت ليتحمل الرجع المسؤولية مناصفة معنا، يشعر بتعبنا ويقاسمنا مهام اليوم، لأنه -بعيدًا عن كل صراعات الجندر والمساواة- ليس من الطبيعي أن يكون هناك إنسان بالغ عاقل تخطى سن النضج ويعجز عن ترتيب فراشه، ووضع ملابسه في أماكنها، وطهي وجبة، ولو عاش وحده أسبوعًا لتحول بيته إلى مقلب قمامة.

حياتنا كأشخاص ناضجين صعبة، والحياة تزداد ضراوة يومًا بعد يوم، لهذا يجب أن تكون حياتنا المشتركة شيئًا يخفف من تلك القسوة والصعوبة، لا أن تضيف علاقتنا بشركائنا أثقالاً علينا، ونمضي في الحياة بعبء إضافي لرجلٍ لا يعرف المشاركة.