لم تترك لنا الأزمة الإقتصادية أي من الأماكن التي نحبها، لقد فقدانها للأبد، هذا أول ما فكرت به عندما سمعت عن إغلاق مطعم وبار “باردو” الشهير في بيروت، ليضاف إلى قائمة من الأماكن التي ارتبطت بذاكرتنا مثل مطعم إم نزيه ومدام أوم وغارتن وAHM.
افتتح باردو عام 2006 في منطقة الحمراء في بيروت، وهو يتميز ببناءه البيروتي القديم، الذي يعود إلى أربعينيات القرن الماضي. منذ أن فتح أبوابه، أصبح هذا المكان مفضلاً لدى كثيرين. ما يميز “باردو” عن غيره هو أنه قدم مساحة آمنة لجميع الأفراد ومن بينهم المثليين جنسيًا، وكان من أوائل الأماكن التي أقامت حفلات دراغ كوينز في لبنان.
Videos by VICE
يعاني لبنان من أزمة إقتصادية حادة تسببت بغياب أبسط الخدمات وغلاء الأسعار وتقلب سعر صرف العملة مقابل الدولار، ودفعت نصف السكان للعيش تحت خط الفقر. في الآونة الأخيرة، شهد البلد أزمة محروقات اصطحبتها أزمة كهرباء، وتم رفع ساعات التقنين لتتجاوز 22 ساعة يوميًا. هذا بدوره زاد من إشتراكات الكهرباء الخاصة، ومع انقطاع المازوت وغلاء سعره ثمّ رفع الدعم عنه، زادت ساعات تقنين الإشتراك، وهذا طال الجميع من بيوت إلى مستشفيات إلى مقاهي.
بحسب مازن خالد، أحد المؤسسين، تقرر اغلاق “باردو” لعدة أسباب، ولكن السبب الرئيسي هو الكهرباء كما يقول لـ VICE عربية: “مزود الكهرباء في المبنى طلب الإشتراك بالدولار، هذا بعد أن واجهنا معه مشاكل مثل ساعات التقنين الطويلة وغير الواضحة. بطبيعة الأحوال لا يمكننا أن ندفع مبلغ الاشتراك بالدولار لأنّ ذلك يعني أن علينا رفع الأسعار بشكل كبير.”
ويشير خالد أنّهم حاولوا كثيراً أن يصمدوا مع تقلب العملة وارتفاع الأسعار، “ولكن كان من المستحيل الاستمرار، والحفاظ على زبائن المحل الذين تعودوا على أسعار باردو المناسبة لجميع الطبقات. عدد الزبائن استمر بالانخفاض كذلك في ظل انهيار قيمة العملة المحلية وتأثير ذلك على الرواتب بشكل غير عادل. هذا كلّه أجبرنا على الإغلاق.”
خالد الذي غادر بنفسه إلى الولايات المتحدة قال أنّ الروح الجميلة التي ارتبطت بـ “باردو” والتي ظهرت على السوشيال ميديا بعد إعلان الإغلاق، قد تكون الدافع الوحيد لإعادة فتحه (ربما في منطقة أخرى). وأضاف: “أعلم اليوم أنّ الطاقة التي شهدها باردو لا تموت. هناك أمل صغير أنّ كل شيء سيكون أفضل في مستقبلٍ ما، وحتى حينها علينا أن نتمسك بهذا الأمل. لا أحد يعلم ماذا سيحدث، هذه الطاقة لن تنكسر، ستظهر أماكن جديدة مثل باردو.”
ملكة الجر “سلطانة” هي واحدة من المشاركات في عروض دراغ كوين في “باردو” واعتبرت أن إغلاقه هو خسارة كبيرة لمجتمع الميم عين في بيروت: “في باردو ظهرت كدراغ كوين للمرة الأولى في حياتي. لقد كان المكان رمز مقاومة لهذا المجتمع. لمدة ١٥ سنة كان منزلنا الآمن الذي نلجأ إليه في جميع حالتنا. حتى حينما واجهت مشاكل مع عائلتي، كنت أبقى في باردو لأنّه مساحتي الآمنة. لقد كان المكان الذي وفّر لنا مكاناً للعمل والدراسة وتقضية الوقت والتعبير عن أنفسنا بحرية.”
هاني، 22 عاماً، واحد من زبائن باردو الدائمين يقول أنه سيفتقد “باردو” والذكريات التي ارتبطت به: “كنّا ننتظر يوم الجمعة أنا وصديقي كي نذهب إليه كما نحب أن نكون. سواء بمكياجنا أو بملابس لا تتقبلها أماكن أخرى. جميل أن يكون هناك مكان يمكنك أن تعبر به عن نفسك من دون أن يُحكم عليك. باردو كان هذا المكان وإغلاقه هو خسارة كبيرة، لا أعلم إذا سنتمكن من أن نجد مساحة تشبهه.”
تشهد الأماكن الصديقة لمجتمع الميم عين، الذي يعاني من التمييز وعدم المساواة الاقتصادية والتمييز في فرص التعليم والعمل، الكثير من التحديات بفعل الأزمة الإقتصادية في لبنان. فهذه الأماكن تحتضن أفراد قد يواجهون صعوبات في إيجاد عمل في أماكن أخرى. كما تعرضت العديد من هذه الأماكن إلى أضرار كبيرة بسبب إنفجار مرفأ بيروت ومنها من دمّر بالكامل. ويشير تقرير لمنظمة أوكسفام أن 70% من العاملين من الأفراد الكوير قد فقدوا وظائفهم خلال السنة الماضية، مقارنة مع نسبة بطالة وصلت إلى 40% بين القوى العاملة في البلاد.
باردو هو واحد من مئات من الحانات والمقاهي والبارات التي أغلقت أبوابها بسبب الأزمة، في بلد تعتبر صناعة الخدمات إحدى ركائز الاقتصاد ويعمل بها جزء كبير من القوى العاملة. قبل أيام، أعلن مطعم “فلافل صهيون” الذي افتتح عام 1933، عن إغلاق أبوابه نتيجة ارتفاع الأسعار والغلاء الحاد الذي لا يتماشى مع القدرة الشرائية لدى المواطنين.
وأصبح سعر ساندويتش الفلافل، 30 ألف ليرة لبنانية، في حين أنها كانت حوالي 3 آلاف قبل عامين، أي أن سعرها تضاعف نحو 10 مرات. وعلق صاحب المحل إعلانًا على باب المحل المقفل يقول: “نعلن لزبائننا الكرام أسفنا الشديد عن التوقّف عن العمل مؤقتاً نظراً لظروف البلد الراهنة المعروفة لدى الجميع، راجين أن تتحسّن الأحوال لما فيه الأفضل للبلاد والعباد.”
وبحسب طوني الرامي، رئيس نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي والباتيسري والنوادي الليلية في لبنان، فقد تم إغلاق حوالي 4،300 مطعم ومقهى من إجمالي 8،500 مطعم منذ أكتوبر 2019 وحتى نهاية 2020. كما تم تم تسريح 110 ألف عامل من أصل 160 ألف مع وجود 50 ألف يعملون بدوام جزئي، من قبل المطاعم في لبنان. وتجمعت عدة عوامل ضد هذا القطاع منذ احتجاجات أكتوبر التي أعقبتها الأزمة الاقتصادية وتفشي فيروس كورونا وكارثة انفجار مرفأ بيروت، الذي تسبب بتدمير 2،069 مطعمًا إما جزئيًا أو كليًا -وأدى لمقتل ما لا يقل عن 200 شخص وإصابة حوالي 6،500 آخرين بجروح وتدمير جزء كبير من بيروت.
سواء ما قدمّه من مساحة هادئة في الصباح ومن عروض مجنونة في الليل، استطاع “باردو” أن يبقى مختلفاً، وإغلاقه يعني فقدان هذا الاختلاف، ويعني أن علينا أن نتأقلم مجدداُ مع أماكن أخرى وجديدة في هذا البلد المتقلب.