الأوهام الإجتماعية الصغيرة تقود إلى الحروب الكبيرة

cdd20-MDBojqzl7Mg-unsplash

الوهم، بتعريفه الطبي والنفسي، عارض من عوارض بعض الحالات النفسية. حين يتوهم الشخص يؤمن بحقيقة بعض الأمور التي هي فعليًا خياليّة من صنع دماغه. لكن الوهم لا يقتصر على الحالات المرضية. فالإنسان يحب الأوهام التي تخلق له حالة من الأمان ولو كانت وهمية. إذ هي تساعده على تقبل واقع يرفضه ضمنيًا. تختلف الأوهام التي يؤمن بها الفرد باختلاف الناس وحالاتهم النفسية والاجتماعية والإنسانية منذ أن يولد يتصرف مع الحياة كما لو كان عالم. وبالتالي فهو يأخذ من المعطيات المحيطة به بموضوعية أو ذاتية، يجرب ويخطئ ويتعلم فلا يعيد تكرار أخطائه. وبذلك تختلف اكتشافات المرء ومعتقداته مع اختلاف الأمور التي يمر بها في حياته وكذلك هو حال الأوهام أيضًا. ولكن الفرد مع اختلاف حياته واستحالة تطابق تجاربه مع غيره، يعيش مع أفراد يشكلون مجتمع يخلق ويعيشون في محيط مشترك. ولذلك فبعض الأوهام يتحد المجتمع ضمنيًا على خلقها ولو بشكل غير واع.

من الصعب على معظم الناس الخروج من الأوهام الاجتماعية، فهذه الأوهام عندما يتم خلقها يتم خلق نظام دفاع عنها يبقى مرافقًا لها. ولذلك، لو عدنا أربعون سنة إلى الوراء ربما لسامحنا غرق الفرد في الأوهام هذه أما في عصر الحديث الذي نحن فيه فأصبح الوضع غير مقبول. فالإنسان اليوم يتشرب يوميًا فلسفة الشك العلمي والتشكيك المستمر بالواقع غير المثبت. لذلك، على الفرد اليوم أن ينقل هذه الفلسفة إلى كلّ مسلماته الحياتية وأنّ يبدأ بالتشكيك بواقعه وبرصد الأوهام التي شربها إياه المجتمع. فما هي بعض هذه الأوهام التي يجب التشكيك بها والانفصال عنها؟ ولماذا يجب أن ننفصل عنها؟

Videos by VICE

أول وهم علينا الانفصال عنه هو وهم “أنا على حق بينما الآخرون على باطل”. تبدأ هذه الفكرة عند الطفولة. إذ إن معظم الأهل غارقون في نفس الوهم فيربون أولادهم على معتقداتهم المحدودة، ظانين أنهم يعلمونهم الطريق الأصلح ويبعدونهم عن طريق الخطأ. يكبر أغلب الناس دون التشكيك بهذه التعاليم وذلك لأنهم رُبوا على وهم أولي وهو “الأهل دائمًا على حق”. فيعتقدون بكون هذه التعاليم الأفضل بين زميلاتها من التعاليم بما أن لاوعيهم قد صبّغ على مرّ السنين على أنّ لا حقيقة صحيحة غير حقيقة “القبيلة”. ولكن بما أن الأهل وتعاليمهم تختلف عن بعضها البعض فكل شخص يكبر لتختلف مبادئه وحقائقه عن الأخر. وبالتالي فيصبح كل منا يؤمن أنه الأصح بتعاليمه المختلفة المميزة عن الآخر.

ولكن إن كان كلّ منا يظن أنه على حقّ فما الحقّ؟ وهل من حق أصلًا في حالة أن الكثير من التعاليم التي نكتسبها هي ابنة أفراد ظنوا هم أيضًا أنهم على حق؟ يمكن أن يتحجج البعض بكون الكثير من الناس يعتنقون أفكرًا تشابه أفكارهم وبالتالي فهي صحيحة. ولكن كون أغلبية معينة يصدقون على فلسفة شخصية لا يؤكد صحتها. أولم يكن معظم الناس يوافقون على فكرة الاستعباد؟ أو لم يؤمن أرسطو نفسه بأن الاستعباد أفضل لبعض الناس؟

ومن ثم ينتج عن هذا الوهم الأول وهم ثان وهو وهم “أنا أذكى من غيري وأتفوق عقليًا عن معظم الناس.” هذا الاستنتاج يأتي من اعتقاد الفرد توصله إلى الحقيقة المطلقة بينما غيره ما زال في الظلمات. ولكن، وإن افترضنا أنّ هناك حقيقة مطلقة فتوصل أحدهم إلى هذه الحقيقة ما هو إلا نتاج للظروف التي وضعته أمامها. وبالتالي فمعرفته بال “حقيقة” لا تدل بالضرورة على تفوقه الذهنيّ، بل تدلّ فقط على تتابع صدف وضعته أمام الحال الذي هو عليه. وقد يولد هذا الإحساس وهم آخر وهو وهم “البطولة”.

حين يسيطر هذا النوع من الأفكار على المرء يتهيأ له أنّ المعنى الأسمى لحياته هو توعية الناس إلى السراط المستقيم، وإنقاذ الضالين من ضلالهم المبين، وبعض الفلسفات تذهب إلى حدّ مكافئة الأبطال هؤلاء. وقد يتجلى لعب هذا الدور إما في النقاشات الصغيرة اليومية التي يقوم الفرد بها أو قد يتطور ليكون ركيزة تشكيل منظومات متطرفة يمكن أن تتحول في الكثير من الأحيان لتكون إرهابية.

وفي الحالة الثانية هذه ينتقل أسلوب الإقناع من النقاش إلى الإجبار والتعسف الجبري الذي يمكن أن يصل إلى القتل في حال لم “يتنور” الشخص الآخر إلى “الحقيقة المطلقة” التي تم محاولة إقناعه بها. وبالتالي فدور البطل قد يصل بالفرد إلى حدّ ممارسته القسوة والعنف. هذه الحالة نجدها ايضًا عندما يظن الفرد بذكائه المتقدم أنه على علم مبين من مصلحة غيره فيختبئ وراء دور البطل الذي يريد حماية الآخرين من أنفسهم وأفكارهم الرجعية وتنويرهم. نرى تجلي هذه الحالات بتزعمات السلطات الاستعمارية – هذا إن لم نخض أسبابهم الأنانية السياسية لاستعمار بلاد لا دخل لهم فيها.

ينبثق أيضًا عن وهم الذكاء أوهام الأحكام المسبقة. فكون كلّ امرئ برأيه الشخصي على حقّ ينتج قناعات عنده يظنها مثبتة ولا تتغير. وبالتالي، فكلّ من خالفها إما ضال، أو مختل عقليًا، أو مختل أخلاقيًا. توصيف الفرد الذي يختلف عنا بهذه الصفات، أو أي صفة مشابهة لها، يخلق، على الأقلّ، نفورًا بين امرئ وآخر كون هذا الآخر “يضر” بآرائه بالمجتمع المحيط به. ويزداد هذا النفور في حال اتصف هذا الاختلاف بوهم اجتماعي آخر يعرفه بالـ “عيب”.

مصدر العيب هو عادات وتقاليد نسجها الزمن من طياته لتصبح مع مرور الوقت مسلمات لا غنى عنها ولا يشكك فيها. فال “عيوب” هو كلّ تصرف غير مقبول اجتماعيًا دون أن يكون له بالضرورة دواع منطقية إذ لها دواع تاريخية. فما الرابط المنطقي مثلًا بين رفع رجلك وأنت جالس، فتأتي في وجه الشخص الذي يقابلك، وبين احترامك للشخص هذا؟ أهل فعلًا يجب أن يتصور من مددت رجلك أمامه أنك تربط قيمته بالأرض؟ أولا يجب أن يجرد فكرة رفع رجلك لترتاح من قيمته عندك؟ أوهل قيمته فعلًا متدنية لهذه الدرجة ليفكر برطبها بأسفل حذائك؟ أغلب الظنّ أنه لم تفكر ولا يريد أن تفكر أصلًا بكيف أنّ العادات والتقاليد يمكن أن تقلل من قيمته أحيانًا. فيظنّ أنّ الارتباط بها يزيد من قيمته بينما يمكن لبعض منها يذله في بعض الأحيان.

تجرّ الأحكام المسبقة والعيب وراءها وهم آخر وهو “الخوف من الآخر” فالخوف كشعور ناتج عن هرمونات بيولوجية وجبت لتطور واستمرار الإنسان. فقديمًا، عندما كان الإنسان يعيش في الغابة، عدم الخوف والهرب (أو محاربة) ما يختلف عن المرء يمكن أن يشكل خطرًا عليه وحتى يسبب موته. أما اليوم فاختلاف الإنسان عنا لا يشكل خطر موت كما كان الأمر سابقًا وبالتالي فالخوف من الاختلاف حالة اجتماعية مصدرها بيولوجي، فنتوارثها عن أجدادنا ونتعلمها منهم. ويكون الخوف من الآخر أسوأ أنواع الأوهام لأن الإنسان عندما يخاف يفقد القدرة على التفكير المنطقي فإما يهرب أو يهاجم وتعود بالتالي مجتمعاتنا إلى حالتها القبلية البعيدة عن التحضر و التفكير.

بذلك، تبدأ كلّ الأوهام الاجتماعية المذكورة بوهم الإيمان بعقائدنا على أنها صحيحة مقارنة بغيرها لتنتهي بالخوف من الاختلاف الذي يولد الكره والعنف والرغبة بالدفاع عن المعتقدات مهما كلفّ الأمر. ينتج عن ذلك، كثير من الحروب والقساوة. لذلك، كوننا نعيش اليوم في عالم يطرح على أذرعنا الكثير من الوسائل للتنور والتحسين والتطوير من أنفسنا، تقع على عاتقنا مسؤولية التخلي عن هذه الأوهام، والبحث والتساؤل عن ماهية الأوهام الأخرى التي نتعرض لها فمنها له تأثير سلبي على صحتنا النفسية و منها:

  • الصيحات المتجددة التي تقنعنا كلّ فترة صغيرة أنه يجب علينا إتباعها و إلا لن ننتمي إلى المجتمع الذي خلقها. إحساس الرفض الإجتماعي هذا، يسئ إلى الصورة الشخصية للفرد و يأثر على إحساسه بالقيمة و ذلك لحكم كوننا كائنات إجتماعية بحاجة لبعضنا للاستمرار و بالتالي بحاجة للإحساس بالإنتماء. لكن الصيحات تأتي و تذهب و بالتالي  فلا يجب أن يكون لها أيّ ثقل على قيمتنا الإجتماعية.

  • وهم “ضرورة إمتلاك صفات جسدية معينة لنكون ملفتين للنظر” هو نوع صيحات الموضة التي تؤدي إلى تشويه الصورة الشخصية التي يمتلكها الفرد لجسده. و بالتالي إن لم يكن للمرأ مثلًا الأنف أو العيون “المثالية”، أو إن كان يمتلك القليل من الشحوم على الأرداف و إن لم يمتلك الشحوم إطلاقًا فيمكن أنّ يشعر أنّ صفاته قبيحة. سبب ذلك هو ما يرميه علينا المجتماع من قولبة للجمال. أما الحقيقة فهي أنّ لا قالب أو معايير لما هو جميل أو لا، فكلّ منا يرى الجمال بأمور يمكن أن يراها غيره قبيحة و بالتالي فكلّنا جميلون و قبيحون في نفس الوقات بالنسبة للمجتمع. لذلك فعلينا تجريد صورنا الشخصية عن أجسادنا من رأي المجتمع و أن ننظر لها نظرة جمال و حبّ مهما كان رأي هذا الأخير. 

  • وهم “ضرورة الإنتاج المستمر” ينبثق من السياسات الرأسمالية الطاغية. الوهم هذا يخلق إحساس الذنب عند أخذ قست من الراحة. و بذلك حتى حين لا نفعل شيئ نبقى في قلق مستمر مما يجب أن نقوم به بدل أن “نتكاسل” فلا نرتاح كليًا حتى في هذا الوقت مما يمكن أن يؤدي إلى التعب الدائم الذي لا يجد المرء له أي تبرير بما أنه دائمًا “يرتاح”. علينا بالتالي أنّ نكون لطيفين مع أنفسنا وتخلى عن الوهم هذا، فحتى المكنات لا  يمكن أن تعمل بلا راحة أو تشريج.

أخيرًا، يجدر بالذكر أنّ التخلي عن الأوهام لا يتطلب منا التخلي عن قناعاتنا، إنما فقط يطلب منا الاحتفاظ المتجرد بهذه القناعات لأنفسنا والتخلي عن كلّ أنواع الكره الذي نوجهه للناس حولنا لاختلافهم عنا(والكره الذي نوجهه لأنفسنا أحيانًا في حال كانت الأوهام تدمر صحتنا النفسية). فهل كان سيكون للعالم ألوان من دون الاختلافات؟