مسكون: في هذه السلسلة نسترجع قصصنا العربية الموروثة كجزء من استعادة السردية، بعيداً عن صحتها أو مدى إيماننا بالجن أو قوى ما فوق الطبيعة. هذه القصص تظهر كيف تتشابك التقاليد مع الدين مع عالم الموارئيات مع الترفيه.
كان يا مكان في قديم الزمان، مطربة كويتية شهيرة تُعرف بالطقّاقة نورة، والطقّاقة هو مصطلح خليجي شائع يُطلق على المطربة الشعبية التي تُحيي الأعراس والحفلات بصحبة فرقتها على أنغام الآلات الإيقاعية.
Videos by VICE
ولدت نورة علي عام 1950 وهي ابنة الفنانة الشعبية “صنعة” والتي تعتبر من أوائل المطربات في الكويت. درست نورة العلوم السياسية بجامعة الكويت وتخرّجت منها، حيث كانت أول فنانة شعبية تحصل على شهادة جامعية بحسب ما نقلته صحيفة قبس عن لقاءٍ أجراه معها الصحفي الراحل يحيى عبد الرحيم لمجلّة الأمة.
تأثرت نورة بالفن الشعبي وأحببته، ورافقت والدتها في العديد من الأعراس والحفلات في الستينات. بعد اعتزال والدتها بعد مسيرة طويلة وشهرة واسعة، قررت نورة أن تكمل المسيرة، بعد أن عملت بشهادتها الجامعية لأربع سنوات ثم تركته لتحقق شغفها بالفن الشعبي.
بالإضافة إلى جمالية صوتها، تميّزت نورة عن غيرها بأنها كانت تكتب وتلحّن أغانيها بنفسها، فحققت بأدائها المُتميز مع فرقتها نجاحاً ملحوظ وشهرة كبرى في مطلع التسعينات، فأصبحت الفنانة الأولى بالخليج العربي والأعلى أجراً. أحيت العديد من الأعراس والحفلات للأمراء والطبقات الثرية في دول الخليج، وأصدرت شريطين كاسيت ما بين 1992-1993 وظهرت على التلفزيون الكويتي مع فرقتها بالعديد من جلسات الطرب الشعبية المصوّرة.
في ليلة عُطلةٍ هادئة عام ١٩٩٧ تلقّت نورة ذات يوم اتصالاً من والدة إحدى العرائس لإحياء حفلة زفاف ابنتها يوم الجمعة، في منطقة الصباحية -تبعد 32 كم عن جنوب مدينة الكويت. بالطبع لن تتخلى نورة عن يوم عطلتها وراحتها بتلك السهولة، فاعتذرت عن إحياء الزفاف، وبعد إلحاح شديد من المُتصّلة وافقت على الذهاب مقابل أجرٍ يساوي 500 دينار كويتي -1600 دولار- تقريباً. مبلغ يستحيل رفضه بتلك الفترة.
بحسب الروايات المنقولة، وصلت نورة وفرقتها الموسيقية المكونة من ثماني “طقّاقات” في الساعة العاشرة من ليلة الجمعة لقصر العروس في الصباحية. وكنّ يشعرن ببعض الخوف لسبب غير معروف، دخلن القاعة ووجدن عدد مهول من الحضور، موائد لا منتهية من الطعام، الأضواء والزينة تملأ المكان، حليّ ومجوهرات نفيسة في كل صوب وناح. كل ما يدلّ على ثراء فاحش، وبدأت السهرة.
أتت والدة العروسة لترحّب بالفرقة، فلاحظت إحدى أعضاء الفرقة وتدعى “شمس” أن أيدي الوالدة كالحجر ووجهها خشن الملمس. لم تتوقف أعين الطقاقات عن التلفّت لاستكشاف ما يدور حولهن، وبدأ الوضع يزداد غرابة، العروس تجلس كالصنم تماماً بجانب عريسها الذي يرتدي زيّاً عثمانياً قديماً، المعازيم يرقصون بشكل سريع وغريب، حتى رفعت إحداهن فستانها فبانت أرجلها التي لم تكن كأرجل البشر، بل أرجل ماعز.
تقول الروايات المتناقلة، أن الجن حين يتلبّس الإنسان يستحيل أن يتشكّل بهيئة إنسان كامل تماماً، وهنا أدركت الفرقة أنهن يحيين عرساً “للجن بلا شك.” توقّفت الفرقة لأخذ استراحة وصعدن إلى الطابق العلوي للقصر، وكانت الصدمة الأكبر. الطابق مهجور بالكامل تملؤه الحشرات والغبار، نزلت المطربات سريعاً وهربن لخارج القصر، وركبن بأول سيارة تاكسي وجدوه. وهنا سألهم السائق: ما الذي تفعلنه أمام بيت مهجور من عشرات السنين؟
استطاعت الفرقة أن تنجوا من الليلة المرعبة وعدن لمنازلهن. انتشر بعدها خبر اعتزال الفنانة نورة وفرقتها للفن واختفت جميع أخبارهن تحت ظروف غامضة. كان خبر اعتزالها المفاجئ صادم للجميع فلم تتحدث عن أسبابها، وقيل لاحقاً إن تلك الحادثة هي السبب الرئيس لاختفائها.
تعد قصة الطقاقة نورة من أشهر قصص الرعب، فلا يوجد شخص كويتيّ إلا ويعرفها ولا تخلو مجالس منتصف الليل المخيفة من إعادة تداولها، بل إنها وصلت لكافة الدولة العربية. وعلى الرغم من أن القصة تعود لعقود مضت، إلا أن شباب الكويت من صغار السن يعرفونها.
سارة، 20 عاماً، سارة طالبة جامعية تخبرني أنها كانت تتحاشى معرفة تفاصيل القصة، وعندها سمعتها من أخيها الأكبر، لم تتوقع أن ترعبها بهذا الشكل: “لم أنم لأسبوع كامل، أصابني الأرق، لم أتحرك من سريري من شدة الخوف لأسبوع كامل. ناهيك عن فوبيا الأعراس. تلك القصة من أكثر الأمور المرعبة التي سمعتها بحياتي، وأنا أؤمن بأنها حدثت بالفعل فالجن موجود بيننا ولا يمكن أن ننكر ذلك، ولكني أحاول أن أجعل عقلي يقتنع بغير ذلك كي لا أصاب بنوبات الذعر والأرق مرة أخرى.”
قصص “المسّ والتلبّس” -دخول الجن بجسد الإنس- شائعة ومتداولة، ما يجعل قصة الطقاقة نورة أقرب للتصديق بالمجتمع الكويتي، على الرغم من عدم وجود أي دليل ملموس عن صحة الرواية.
فيصل، 26 عاماً، معلم، يعرف القصة منذ صغره، وهو من أشد معجبي المطربة نورة كما يصف نفسه، وتغضبه كل الروايات المتداولة التي تربط نورة بقصة غريبة لا دليل على صحتها، وهو لم يقتنع أبداً أن القصة تخصّ الطقاقة نورة المعروفة: “هناك بعض الروايات تذكر أن نورة المذكورة بقصة الجن هي ليست ذاتها نورة ابنة صنعة، هناك تشابه أسماء لا أكثر. قد تكون نورة ابنة صنعة اختفت لأسباب صحيّة أو غيرها ولم ترغب بالحديث عنها.”
ذُكرت الحادثة بالتفصيل بمجلة الجريمة الكويتية المعروفة بذاك الوقت، من دون ذكر اسم الطقاقة المقصودة، بالحقيقة لا يوجد أيّة مصادر تؤكد أنّ نورة ابنة صنعة هي المعنية بالقصة ذاتها. ونورة نفسها لم تذكر أي شيء عن الواقعة، وليس هناك أي دليل صوتي أو مرئي.
منار، 22 عاماً، طالبة آداب ومهتمة بالقصص المحلية الموروثة، تقول أنها بعد بحث طويل، لم تجد أية دليل يثبت وقوع الحادثة، لكنها على الرغم من ذلك تصدّقها تماماً: “هناك بالفعل بيت مهجور لا يزال مهجوراً بالصباحية قام عدد من الشباب بدخوله وتصويره، يقال أنه هو ذاته الذي وقعت الحادثة به. ما يجعلني أؤمن بالقصة على عكس العديد من قصص الجن، بأن تلك القصة لم تُحرّف بالرغم من مرور الزمن عليها، الروايات المتداولة عن القصة هي واحدة ولم يتم تحريفها والتلاعب بها، بعكس قصص أخرى تتغير أحداثها بكل مره تنقل لنا من مصدر مختلف. ثبات مسار القصة بالرغم من الزمن يجعلني أميل لتصديقها.”
“قد تكون القصة مخيفة ومرعبة للبعض، لكنها مضحكة جداً ومثيرة للسخرية بالنسبة لي،” تقول تهاني، 26 عاماً، خريّجة علم اجتماع وقارئة بالعلوم الدينية والروحانية، التي لا تؤمن أبداً بسرديات الجن: “منطقياً، لا يمكن للجن أن يستحوذ على جسد الإنسان ويتحكم فيه، التفسير الوحيد المعقول أن الشخص يعاني من مشاكل نفسية حقيقية لا يعي بوجودها أو يرفض علاجها. مجتمعنا لم يكن يأخذ الطب النفسي على محمل الجد ولا يقتنع بالعلاجات النفسية ويستعيض عنها بأقوال دينية لا أساس لها من الصحة.”
منذ تلك الحادثة، لم يستطع أحد التواصل مع نورة أو أقاربها أو أعضاء الفرقة للتأكد من صحة الرواية. كل ما نعرفه هو هذه القصة المتوارثة. ما بين خرافة وحقيقة رحلت الفنانة نورة عام 2016 ودفنت معها سرّ قصتها التي أصبحت أشهر قصص الرعب المتداولة بين الشباب بالشارع الكويتي حتى يومنا هذا.
More
From VICE
-
OnePlus Watch 3 — Credit: Google -
Sol de Zuasnabar Brebbia / Getty Images -
tadamichi / Getty Images -
Screenshot: XSEED Games