تتفق أغلب المراجع التي يمكن إيجادها على محركات البحث، أو المخرجين العاملين في مجال السينما والتوثيق، أن أول صالة عرض تم افتتاحها في بيروت كانت في عام 1909، وتم عرض أول فيلم لبناني وهو “مغامرات الياس مبروك” في عام 1930. خلال تلك الفترة تم افتتاح العشرات من دور السينما في بيروت وطرابلس وصور، بينها سينما الريفولي، متروبول، سينما أمبير، بيكاديللي، فرساي وغيرها.
كثير من هذه الصالات -التي لا تزال ملصقات أفلامها تباع إلى اليوم هذا في المتاجر كلوحات لعرضها في المحلات والمنازل – لم تعد موجودة. ولكن متى حصل ذلمك ولماذا؟
Videos by VICE
لمعوفة الجواب، علينا التوجه لمؤسسة “أمم للتوثيق والأبحاث” التي أنشأها المثقف اللبناني لقمان سليم (الذي اغتيل العام الماضي). يؤمن المركز أن التعامل مع أعمال العنف في تاريخ لبنان، و المتجسدة في الحرب الأهلية منذ عام 1975 وحتى عام 1990، هو أمر أساسي للقضاء على شبح تجدد الصراع. من أجل هذا الغرض، خصص المركز جزءًا كبيرًا من الموارد لتسجيل التاريخ اللبناني، ويشمل ذلك تشكيلة متنوعة من الوثائق التاريخية والأعمال الفنية، والحفاظ عليها.
بعد اغتيال سليم تتابع زوجته الألمانية مونيكا بروغمان المهمة بتوثيق وأرشفة تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية. تتضمن المحفوظات أيضًا مواد عن التاريخ الاجتماعي والثقافي للبلد. في ديسمبر، تم افتتاح معرض “طرابلس سكوب” في شكا، المدينة الساحلية الشمالية، المتاخمة لطرابلس.
ووثق المعرض الأرشيف الضخم الشركة السينمائية التجارية طرابلس (SCCTL) وهي الشركة التي كانت تدير الكثير من صالات السينما القديمة، الذي عملت أمم على حفظه وترتيبه لإقامة معرض طرابلس سكوب، بالشراكة مع المعهد الفرنسي في طرابلس والمؤسسة العربية للصورة، وذلك تحت إشراف الباحثة المستقلة ناتالي روزا بوخر، مسؤولة عن الأرشيف في “أمم” والتي أجرت أبحاثًا حول دور السينما في طرابلس لمدة 9 سنوات.
وعن بداية عملها في الأرشفة تقول بوخر لـ VICE عربية: “أعمل على مجموعتين: أرشيف بعلبك ستوديو وأرشيف الشركة السينمائية التجارية، طرابلس، لبنان. يتكون كلا الأرشيفيين بشكل أساسي من مستندات ورقية، ولكن أرشيف بعلبك ستوديو يحتوي أيضاً على بعض لقطات الأفلام التي تعمل أمم على الحفاظ عليها.”
وتضيف بوخر: “الأرشيفات غنية بشكل لا يصدق، وهي تمنحنا نظرة ثاقبة للسينما اللبنانية والعربية بشمل عام، كما أنها تناقش مجموعة من الموضوعات الأخرى كالمجتمع والسياسة، والتاريخ، والأزياء، والهندسة المعمارية في الستينيات من القرن الماضي. هناك ما أحب أن أسميه “المازة المكانية” حيث يتم استخدام نفس المواقع دائمًا في الأفلام وهي بعلبك، جبيل، الروشة. وهو مما يتيح لنا معرفة كيف تغيرت المواقع بمرور الوقت، لكنها بنفس الوقت تترك لنا القليل من التذكارات المرئية من أماكن أخرى في لبنان.”

مسرح وسينما البكاديللي في الحمرا، بيروت فتح أبوابه في عام ١٩٦١ ومع اندلاع الحرب الاهلية في لبنان اضطر إلى الإغلاق. في عام ٢٠٠٠، تعرض المبنى لحريق هائل، ما أدى إلى توقفه عن العمل، وكان هناك مبادرات لإعادة فتحه وترميمه.
وعن تاريخ صناعة السينما في لبنان تقول بوخر أن صناعة السينما بدأت تتشكل قبل الحرب الأهلية (١٩٧٥-١٩٩٠) حيث “كانت نسبة المشاهدة للفرد في لبنان أعلى منها في مصر،” ولكن تدريجياً قل الاهتمام بالسينما، وخاصة بسبب النقص المستمر في الهياكل المؤسسية والدعم الذي كان موجوداً في الستينيات من القرن الماضي، والذي اختفى تماماً في السبيعنات مع بداية الحرب.
وتتابع بوخر: “أنقذت أمم أرشيفات استوديوهات بعلبك، التي توفر نظرة ثاقبة لأكثر من مائة فيلم. لا يمكن الحديث عن تاريخ السينما اللبنانية بدون سجلات هذه الشركة وتاريخها. ومنذ عام 2018، تحتفظ أمم بأرشيف الشركة السينمائية التجارية طرابلس لبنان، الذي يفتح أيضًا نافذة على الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية لمدينة طرابلس، بالإضافة إلى توفير نظرة ثاقبة عن تاريخ دور السينما في طرابلس.”
هذا التاريخ الغني جعل السينما جزء لا يتجزأ من الثقافة اللبنانية، وربما كان انتشار عشرات الصالات في ساحة الشهداء وسط بيروت بكثافة كبيرة في مساحة محددة، أكبر دليل على نشاط الحركة الثقافية في البلد في فترة ما قبل الحرب.
“من الأسباب الرئيسية للانتشار الكثيف لصالات السينما ما قبل الحرب في لبنان هو غياب التلفزيون في تلك الفترة، كما أن السينما كانت جزء أساسي من الحياة الاجتماعية، كانت الأفلام المصرية مثلاً، تعرض في لبنان فوراً بعد عرضها في مصر،” يقول المخرج اللبناني أحمد غصين، 40 عاماً، في مقابلة مع VICE عربية.
ويضيف: “الأمور تغيرت كثيراً الآن. هناك محو ممنهج للذاكرة في لبنان، بدأ مع نهاية الحرب الأهلية، وما اختفاء صالات السينما إلا جزء منه، وربما كان تفجير مبنى الريفولي بحجة إعادة الإعمار بعد الحرب أكبر دليل على السياسة المتبعة حينها لتغيير شكل الحياة الاجتماعية والثقافية في لبنان.” وكانت شركة “سوليدير” التي أنشأها رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري لإعادة اعمار وسط بيروت بعد الحرب الأهلية، هدمت مبنى سينما الريفولي الشهير في عام 1995 وهو ما يعتبره البعض بداية تغيير ملامح المدينة.

يقول غصين أن الحرب الأهلية شكلت ضربة قاضية لصالات السينما، حيث تم تدمير بعضها، أو تحويلها لمحلات تجارية، ويضيف: “بعد الحرب، ومع انهيار جدار برلين، وصعود النيوليبرالية، وظهور نمط جديد من الاستهلاك في العالم اختفت صالات السينما من الأحياء، وتحولت دور السينما إلى مجرد مكان مظلم في مول كبير، وينحصر وجودها في المجمعات التجارية، ويختفي دورها الثقافي أمام الربح التجاري.” يعطي غصين مثالاً على مبنى الأوبرا في وسط بيروت، الذي تحول إلى متجر Virgin Megastore في عام ٢٠٠١ (تم إغلاق الفرع في ٢٠١٨) وغيره من السينمات التي تحولت إلى مقاهي.
في محاولة لإعادة إحياء هذا التاريخ الثقافي المهم بدأت عدة جهات بترميم صالات السينما المنسية. جمعية تيرو للفنون ومسرح إسطنبولي قامت بإعادة تأهيل وافتتاح دور السينما المقفلة في جنوب لبنان وتحويلها مساحات ثقافية مستقلة ومجانية، من بينها سينما الحمرا إلى مدينة صور بعد 30 عاماً على إقفالها، وسينما ستارز في مدينة النبطية بعد 27 عاماً من الإقفال، وسينما ريفولي في صور بعد 29 عاماً على إغلاقها- فرع لسينما ريفولي بيروت. كما قامت الجمعية بترميم “سينما أمبير” في طرابلس وتحويلها إلى المسرح الوطني اللبناني كمنصة ثقافية مستقلة، تُنظَّم فيها ورشات تدريبيّة ومهرجانات وعروض فنية ومكتبة عامة ومقهى فني.
وعن أهداف جمعية تيرو للفنون، يقول المخرج والممثل وعضو جمعية تيرو للفنون قاسم اسطنبولي، أن الجمعية التي يقودها الشباب والمتطوعين “تسعى إلى إنشاء مساحات ثقافية حرة ومستقلة في لبنان، وإعادة فتح وتأهيل المساحات الثقافية وتنظيم المهرجانات مثل مهرجان لبنان المسرحي الدولي، مهرجان شوف لبنان بالسينما الجوالة، مهرجان لبنان المسرحي لمونودراما المرأة، وغيرها من الأنشطة والمعارض الفنية.”

يمكن استعمال السينما أو الاستعانة بها لتوثيق تاريخ مدينة في زمن معين، وهذا ما قام به المخرج هادي زكاك، عندما زار طرابلس عام 2014 ووثق صالاتها المقفلة، ليصدر مؤخراً كتابه “العرض الأخير” الذي يوثق علاقة المدينة مع السينما، منذ الخمسينيات.
“هذا الكتاب هو نتيجة لسنوات من البحث في طرابلس لإعادة تكوين تاريخ المدينة من خلال صالات السينما، وبالأخص أن مدينة نموذجية كطرابلس كان فيها أكثر من 30 سينما موزعين في كل أرجاء المدينة في فترة الخمسينات،” يقول زكاك في مقابلة مع VICE عربية. ويضيف: “هذه السينمات كانت جزءاً لا يتجزأ من حياة المدينة ومن خلالهم نرى مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، ونرى كم كانت السينما ضرورة وحاجة. أنا أتكلم عن طرابلس، ولكنها تمثّل بقية المدن ليس فقط في لبنان، بل كمدينة نموذجية عربية.”
وعن انعكاس التغييرات السياسية والاجتماعية على اختفاء دور السينما، يقول زكاك: “إذا ما أخذنا طرابلس كمثال، فبعد اندلاع الحرب الأهلية عام 1975، تدهور وضع المدينة ككل، ولم تعد دور السينما مكاناً آمناً بسبب الحرب. ومع بداية التسعينيات وبعد وقف الحرب، لم تستطع الصالات استقطاب جميع أهل المدينة، بسبب تغير نمط الحياة الاستهلاكي، وأصبحت السينما مرتبطة بفكرة المجمع التجاري، وهذه الصيغة في النهاية قضت على صالات السينما التقليدية.”
كل شيء يتبدل مع مرور الوقت، حتى الجغرافيا تتبدل، وطريقة الإنتاج والاستهلاك والثقافة تتبدل أيضاً كما طرق تلقيها. الحرب الأهلية غيرت وجه لبنان الثقافي ودور السينما كانت أولى ضحايا هذا التغيير.
More
From VICE
-
WWE -
(Photo by Dilara Irem Sancar/Anadolu via Getty Images) -
SANTA MONICA, CALIFORNIA – JULY 13: (L-R) Bailee Ann DeFord, Jelly Roll, and Noah Buddy DeFord attend Nickelodeon Kids' Choice Awards 2024 at Barker Hangar on July 13, 2024 in Santa Monica, California. (Photo by Jon Kopaloff/Getty Images for Nickelodeon)