تخيل نفسك في وظيفة تحرمك من أبسط حقوقك كإنسان: ممنوع عليك تناول الطعام حين تشاء، وممنوع أن تخرج من المنزل حين ترغب، وممنوع عليك أن تحصل على يوم إجازة، وممنوع استخدام الهاتف وغيرها من ممنوعات متعددة ضمن لائحة تكاد لا تنتهي بنودها. للأسف، هذه الوظيفة غير الإنسانية موجودة، ويختبرها العمال الأجانب بشكل يومي في لبنان وغيره من الدول العربية، والسبب يعود إلى نظام الكفالة.
تتعرض عاملات المنازل المهاجرات لكثير من الانتهاكات تحت نظام الكفالة والذي يوصف بأنه “عبودية العصر الحديث” حيث يستثني هذا النظام العمال الأجانب من قوانين العمل في البلاد، ويربط إقامتهم في البلاد بأصحاب عملهم. وهذا يترك عاملات المنازل بشكل خاص عرضة للاستغلال وسوء المعاملة، حيث يتم مصادرة جوازات سفرهن وهواتفهن المحمولة وحبسهن في المنزل وحجب رواتبهن فضلاً عن تعريضهن للانتهاكات الجسدية. كما يعزز هذا النظام ديناميات، ما يعرف بعلاقة “الخادم والمخدوم” والتبعية واختلال توازن القوى بين أصحاب العمل والعاملات.
Videos by VICE
في واحد من أبرز اعماله الفنية – الفيلم القصير “Mekdes – When Will I Look Back at Now?” يسلّط المخرج اللبناني فراس الحلاق الضوء على هذا النظام الراسخ في النظام اللبناني، والذي مازال مشرّعاً في العديد من الدول العربية. درس الحلاق، الإخراج والفنون السمعية والبصرية في لبنان، ويعمل في مجال صناعة الأفلام والمحتوى البصري إعلاميًا، إذ يعتبره مجالًا يسمح له بايصال صوته وأصوات غيره بتناول العديد من القضايا والنزاعات. في هذه المقابلة القصيرة، نسأل فراس الحلاق، عن سبب اختياره نظام الكفالة كثيمة رئيسة لفيلمه، من بين مجموعة أخرى من الأسئلة.
VICE عربية: لماذا اخترت تسليط الضوء على العاملات المنزليات ونظام الكفالة في فيلمك؟
فراس الحلاق: هذا الموضوع شائك، وواحد من المسائل الكثيرة التي كنت أشعر أنه من الضروري تسليط الضوء عليها، خصوصاً بعد اندلاع ثورة أكتوبر 2019 في لبنان – تصوير الفيلم تم خلال الفترة الحساسة والمغايرة في لبنان وتزامن مع أحداثها. وأعتقد أن نظام الكفالة من أهم المواضيع التي كان يجب معالجتها لأن حياة عدد كبير من الناس ترتبط به بشكل مباشر، كثير من العمال الأجانب كانوا ولا يزالوا يعانون بسببه، ومعدلات الانتحار في ارتفاع.
بالنسبة لي، كان معالجة هذه المسألة بصريًا، أشبه بأمر طارئ، خصوصاً في زمن الثورة التي كانت تفتح النقاش حول مسائل حقوقية عدة، وتدعو إلى التغيير. وقبل أن نبدأ في عملية التغيير على صعيد البلد أجمع، يجب أن نركز على تغيير الوقائع من قلب منازلنا، وبالتوازي مع المطالبة بحقوقنا تجاه الدولة الفاسدة كان من الملح البحث والمطالبة بحقوق هؤلاء العمال المعرضين لشتى أنواع التمييز والعنف والقتل. لقد وصلنا إلى مرحلة خطيرة من “تطبيع” العنف تجاه العمال والعاملات الأجانب، بحيث أصبح “تابو” لا أحد يتكلم عنه أو يكترث له.
برأيك، هل بإمكان فيلم مثل فيلمك أن يترك أثراً أو يؤدي الى تغييرٍ ما؟ حاول الكثيرون تسليط الضوء على هذا الموضوع من قبل ولكن من دون الوصول الى نتيجة ملموسة.
بطبيعة الحال، لولا إيماني بأن الفن قادر على ترك أثر لدى الناس أو إحداث تغيير، لما كنت دخلت هذا المجال. لا أتكلم عن فيلمي فقط، فلا أظن أن فيلمي وحده قادر على إحداث أي تغيير، إلا أنه جزء من مجهود كبير وجماعي لتسليط الضوء على هذه المشكلة. في النهاية، أعتقد أن صناعة الأفلام هدفها إيجاد حلول لبعض النزاعات، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأفلام الوثائقية.
هل تعتقد أن نظام الكفالة هو الذي دفع اللبنانيين إلى ممارسة العنصرية ضد العمال الأجانب أم المشكلة أكبر من ذلك؟
المشكلة أكبر من ذلك، المشكلة في النظام التعليمي والثقافة، والتي هي جزء من نظام كبير شرّع نظام الكفالة من أجل تنظيم الأمور بين العمال الأجانب وأصحاب العمل. كان لنظام الكفالة هدف اقتصادي، يتمثل في خلق عمالة سهلة، ولكنه كان محدودًا للغاية من حيث رعايته بند حماية حقوق العمال. للأسف أدى ذلك إلى قيام البعض باستغلال هذا النظام من أجل فرض سلطتهم. بالمختصر، نظام الكفالة هو عبودية حديثة يرعاها النظام الطائفي والطبقي اللبناني.
كيف شعرت عندما انتهيت من الفيلم، هل تشعر بالرضى؟
نظام الكفالة ما زال موجود للأسف، وهذا الأمر لا يجعلني أشعر بالرضى. شخصياً، كنت ولا زلت أشعر بالذنب لأنني غير قادر على فعل أي شيء لمحاربة هذا النظام أو مساءلته. الفيلم قرّبني من الموضوع أكثر، تعرّفت واستمعت لحكايات الأشخاص الذين عانوا بسبب هذا النظام، وشعرت لأول مرة أنني قريب منهم. هناك الكثير من النقاط المشتركة بيني وبينهم، أنا أيضاً أعاني من نظام شبيه، وهو النظام الكبير الذي سمح أو شرّع نظام الكفالة، وهو النظام الذي يعيش كل اللبنانيين تحت مظلته. أنا سعيد لأنني قابلت مقداس (إسم العاملة الأجنبية التي ظهرت في الفيلم) وتعرفت عليها وتقربت من قصتها، وأشعر بالامتنان لأن الفيلم حفز البعض للتحرّك والعمل على أمور مختلفة تسلط الضوء على المسألة والقضية نفسها. بالنهاية، عمل واحد لا يكفي، العمل الجماعي هو الذي يترك الأثر الأكبر.
بالعودة للفيلم نفسه. لاحظت الكثير من المشاهد التي كانت خارج نقاط تركيز العدسة (Out of focus).
المشاهد خارج نقاط تركيز العدسة هي أسلوب أو طريقة أُظهر من خلالها أن هذا الفيلم ليس قصة مقداس فقط، بل قصة عدد كبير جداً من العمال؛ التفاصيل قد تتغير من شخص إلى آخر، ولكن كلهم يعيشون المأساة نفسها. الـ out of focus يمثل الشعور بالخدر أو الشعور بالخفّة أو الشعور بالإختفاء أو ضعف الوجود. هذه المشاعر والأحاسيس كانت موجودة بشدة في ذهني خلال التصوير، وأردت أن أًظهرها بشكل واضح، والـ out of focus ساعدني على ذلك لأنه يعطي بُعدًا بصريًا، وفَصَل الأمور الموجودة في نفس المكان عن بعضها البعض، مما يعد رمزيًا تمثيلاً لما يتعرض له العمال والعاملات من الفصل والعزل والتمييز الذي يشعرون به في مجتمعنا.
ما هي أكبر التحديات التي واجهتها أثناء تصوير الفيلم؟
للأسف، أكبر التحديات التي واجهناها أثناء التصوير كانت العنصرية وانتهاك الخصوصية، لأنه تم طرح الكثير من الأسئلة علينا عندما توجهنا لأخذ مقداس من منزلها. كان هناك الكثير من الفضولية لدى بعض سكان تلك المنطقة، وأسئلتهم كانت غريبة وتنتهك كل أنواع الخصوصية. المنطقة التي تسكن فيها مقداس تتبع لأحد الأحزاب، وتم توقيفي واستجوابي أيضاً من قبل عناصر هذا الحزب. إنها تحديات بسيطة نوعاً ما، إذا ما قورنت بما نعيشه في هذا البلد من صعوبات وانهيارات. التحدي الثاني والأكبر هو إنتاج فيلم يتناول موضوع كبير بميزانية محدودة جداً، ولذلك قررنا تصوير فيلم غير معقّد نوعاً ما، كي يتسنى للجميع فهم القضية بأبسط الأدوات والعناصر البصرية.
ماذا عن مقداس، هل مازلت على تواصل معها؟
نعم، مازلت على تواصل معها. مقداس ناشطة في لبنان في هذا المجال، وتعمل حالياً مع جمعية تكافح نظام الكفالة، كما تساعد عاملين آخرين تعرضوا أو تعرضن لانتهاكات أو طُردوا/ن من مكان عملهم، فهي تتطوع لتأمين الملجأ والطعام لهم/ن، كما تجمع التبرعات والأموال اللازمة لشراء تذاكر طائرات للعمال والعاملات الراغبين بالعودة إلى بلدهم.
يمكنكم مشاهدة الفيلم كاملاً هنا.