برنامج قعدة رجالة “بلوة جديد فوق بلاوينا” كنساء عربيات

vice (1)

كمرأة، لم يتركني شعوري بالفوبيا والإحباط يوماً واحداً، أشعر دائماً أنني محاطة بجماهير عريضة من الجاهلين والمتحرشين، الذين يرونني فقط كجسدٍ يمشي على الأرض. هواجس دائمة، تأتيني على هيئة سيناريوهات وتخيلات مفزعة، من أن يُمارس بإحدى صديقاتي أو بي جريمة اغتصاب أو هتك عرض وأظل حبيسة هذه الجريمة طوال حياتي، أو أن أتعرض للسحل بدافع التحرش أو السرقة مثلما حدث مع “مريم” فتاة المعادي التي دُهست تحت عجلات ميكروباص “دابة يركبها دواب” بعد أن حاول سائقها ومن معه بسرقة حقيبتها وسحلها إلى أن ماتت تحت العجلات بمشهد يمزق القلوب في الثالث عشر من هذا الشهر.

خوفي الدائم هذا جعلني آخذ احتياطاتي وكل حذري من أي رجل يدخل حياتي، أي رجل أتعامل معه، حتى  أنني فقدت الأمل بالارتباط برجل سوي والإنجاب منه. المشكلة كانت دائماً ليست بالرجال فقط، بل فيمن يعزز لديهم هذه الغرائز الهمجية، ومن يروج لهم أن المرأة هي “تبعك، ملكك” “اعمل فيها ما يحلالك” أنها سلعة، جسد، “ملهاش الا بيت جوزها”، “مهما كبرت مسيرها للمطبخ” أو مكانها البيت.

Videos by VICE

الكارثة الأكبر تتمثل بالإعلام الذي يقوم ببث أعمال وبرامج فنية تلقى متابعة كبيرة من الناس، تغرس في الشباب هذا الفكر الذكوري القائم على القمع والتسلط وتأييد أفعالاً معنفة للمرأة وكأننا “كنا ناقصين بلاوي” وتحديداً في الوقت الذي نخاف فيه من خيالنا بسبب ما نعيشه ونسمعه يومياً عن ما يتعرضن له النساء من عنف في كل مكان.  هذا ليس كلامي، بل هذا ما تثبته الأرقام، حيث يشير موقع هيئة الأمم المتحدة للمرأة في إحصائية لعام 2019 أنّ نسبة العنف ضدّ النساء في بعض البلدان تبلغ نحو 70%، و أنّ 37% من النساء في العالم العربي تعرّضن لعنف جسدي أو جنسي لمرّة واحدة في حياتهن على الأقلّ- النسبة قد تكون أعلى في الحقيقة.  كما أن أعداد الجرائم المرتكبة بحق النساء زادت في فترة الحجر المنزلي والعزل بعد تفشي وباء كورونا في العالم.

في ظل كل هذا الظلام، يأتينا برنامج “قعدة رجالة” كمثال بشع ومنفصل تماماً عن الواقع، هو برنامج تلفزيوني بثلاثة أجزاء يروج لكل ما قلته، إذ تقوم فكرته على استضافة فنانة أو ممثلة ويحاورها ثلاثة فنانين رجال “يقدمون أدوار تمثيلية لا تعبر عن حقيقتهم” يطرحون عليها أفكارهم الذكورية المعادية للمرأة حول مواضيع مختلفة في الحياة الزوجية أو عن حقوق المرأة في العمل والسفر والاستقلال المادي.

حلقات البرنامج ومقاطع منه لقيت ملايين المشاهدات على يوتيوب، في بداية متابعتك للبرنامج ومشاهدتك للحلقات تعرف بأنه برنامج فكاهي وتمثيلي، لكن إذا دققت قليلاً سترى سموم فكرية وجمل مهينة للمرأة فيه تجعلك تتسائل ما الهدف والمغزى من استمراره وعرضه لمدة سنوات على ثلاثة أجزاء؟

الحلقة الخامسة للموسم الثاني كانت مع الممثلة اللبنانية كارمن بصيبص، بعنوان”عقاب الست”  وكان المقدمون الرجال: باسل خياط، وكريم فهمي وأحمد فهمي الذين أجمعوا على قول وفعل كل ما يستفز الضيفة، وطلب أحمد من كارمن أن تقرأ ملاحظات كُتب عليها عبارات مستفزة مثل “من له بيت هادئ ليس له زوجة” وبدأت كارمن ملامح الانفعال تظهر على وجهها وتدافع عن وجود المرأة في البيت وأن الأسرة من دون الزوجة أو الأم لا معنى لها، وهي تحاول الحفاظ على الإيجابية والهدوء فيه، فيقاطعها أحمد ويقول “احساس الراجل بأنه معاه واحدة ست في البيت على طول.. احساس كده…” يسكت ويتأتأ ثم يطمأنها بكل فظاظة ويُكمل “اهدي اهدي وتعالي نشرب حاجة أنا معاكي مش ضدك، أنا في صفك” أما كريم وباسل بقيا يجادلاها حول فكرة الضرب كعقاب رادع للمرأة، ظل أحمد طوال الحلقة يتعامل معها بهذا الأسلوب، يزج لها عبارات وأفكار عن عقاب الست إذا أغضبت زوجها، بأن يترك الرجل لها البيت بالأيام “حتى تتربى” من ثم يعتذر ويقول لها عندما تنفعل أنا معاكي مش ضدك.

أشعر بالخيبة الكبيرة أن من أحبهم من فنانين لا يفهمون معنى معاناتنا كنساء، ولا يعرفون بأن أدوارهم التمثيلية تُشكل جزء من هذا العنف الموجه ضدنا

شعرتُ أنني عشت هذا من قبل فمثل هذه النقاشات أخوض فيها بواقعي كثيراً، تحديداً أسلوب الطمأنينة هذا الذي يأتي بنبرة هادئة وصوت دافئ “أنا معاكي وبفهم كلامك بس…” ويبدأ بعدها القائل بسرد مبررات لتصرفات الرجال بما فيها التحرش أو إساءته للمرأة مستعيناً بجملة ترددها النساء أحياناً “المرأة عدو المرأة” بشكلٍ يجعلني أشعر بالغثيان.

حلقة أخرى، مع الفنانة أروى جودة عن عمل المرأة، يروجون فيها لفكرة أن المرأة مكانها البيت وتربية الأطفال وتفعل ما يريده الزوج من دلال ودلع، وأن تترك العمل للرجل، فهو الكائن الفحل الذي يحمل لنا مصباح علاء الدين يلبي للمرأة كل احتياجاتها وما عليها إلا الجلوس بالبيت والتنازل عن أحلامها فهي ليست بحاجة للمال ولا بحاجة الشعور بكيانها إلا داخل حيطان المطبخ. يحاول باسل خياط في هذه الحلقة أن يمثل دور الرجل المسيطر الذي لا يعجبه ما تقوله أروى ويقاطعها كلما شعر أنها ستربح ورقة الحوار، ويقول لها “الزمن الفظيع اللي احنا عايشينه ده بسبب دماغكوا انتو عايزين تشتغلوا وتحققوا نفسكوا، ما تحققي نفسك في بيتك وتربية عيالك وتاخدي بالك من جوزك.”

فيما أكد المحاورون في بداية الحلقة أنهم “بيهرجوا وبيلعبوا” وأن ما يُعرض بالحلقة هو مجرد تمثيلية استفزازية وأنها ليست حقيقتهم. لكن ما الفائدة من عرض تمثيلية مغلفة بالضحك والسخرية من واقع النساء وما إن وضعناها تحت المجهر تجد أنها غارقة في النظرة الدونية للمرأة وتكريس الصورة النمطية التي رسمها الرجل لها وهي أن مكانها البيت، وعليها أن تتنازل عن أحلامها وطموحاتها من أجل الرجل والإنجاب منه والإتكال عليه، ليبقى شعوره بالفحولة والهيمنة قائم وفعّال. هذه البرامج تهدم كل ما تقوم به النسويات منذ عقود طويلة لمحاولاتهن بتحقيق العدل في الحقوق بين الرجل والمرأة وعدم التمييز على حسب النوع الاجتماعي.

الفنانات في مختلف الحلقات أخذن صف الدفاع عن المرأة وبيان مدى أهمية دورهن كنساء ملهمات لنساء أخريات مثل الفنانة يسرا، التي رأت أن المرأة العربية مقهورة ومظلومة وأن المجتمع يحرم عليها ما يحلله للرجل، وأن المرأة إن تعرضت للتحرش أو الاغتصاب تكون “مكسوفة تتكلم عن تجربتها” لشعورها بالعار أمام المجتمع وأنها ستُلام فوراً. في المقابل، اعتبرت الفنانة رانيا يوسف بأن دور الرجل  هو الصرف فقط “عليه يدفع وبس” وأنه يجب أن يلبي للست كل طلباتها وأن راتبها من حقها هي ولن تنفق على البيت منه إلا للضرورة. ما قالته رانيا يضرنا كنساء لأن وظيفة الرجل ليست كونه البنك المالي للبيت، أو للزوجة وإن كان هكذا فهو يعطيه الحق بشرعية سلطته علينا وتحكمه فينا. الحياة الزوجية يجب أن تكون بالشراكة والحُب والتعاون معاً وإن لم يقدر واحد من الطرفين على تحقيق ذلك عليه أن يعيش في كهف لوحده والأهم أن لا يستمر في زواجه وينجب أطفال.

الغريب أنه البرنامج مستمر، وبدأ عرض الموسم الثالث منه الذي أنتجته الشبكة التلفزيونية  OSN (المواسم الأخرى كانت من إنتاج cbc) هذا الشهر على موقعهم وبمقاطع قصيرة على قناتهم باليوتيوب، المحاورين هذا الموسم هم قيس الشيخ نجيب ونيقولا معوض وخالد سليم ويستضيفون عدد من النجمات منهن: نادين نسيب نجيم، وأصالة ونيللي كريم. في الحلقة الأولى من هذا الموسم مع نادين نجيم وصف قيس الزواج “بالعرض والطلب” وأنه يشتري ما يعجبه من النساء، ومن يتزوجها يجب أن تكون تحت جناحه تخدمه كيفما أراد. لترفض ذلك نادين: “ليش نحنا سلعة؟ هيك بتشوف اخواتك البنات؟ وإني كون تحت جناحك بيختلف عن كوني تحت مقصك وسكينتك.” كما ردت الفنانة الكويتية شمس على كلام قيس بأن “الست تبقى تحت جناح الرجل” بالقول: “لا هو مش نسر، هي تبقى جنبه.” وقالت بخصوص التحرش بالنساء بسبب “ملابسهن” بأن الرجل الذي يتحرش “لديه سعار جنسي إذا التيشيرت بيستفزك.”

خلال بحثي وقراءتي تقارير ومقالات كُتبت عن البرنامج استوقفني تعليق هؤلاء الفنانيين حين تم سؤالهم عن سبب موافقتهم على تقديم البرنامج بموسمه الثالث، في تقرير صحفي على موقع الإمارات اليوم، يقول الفنان قيس أنه يقدم وجهات نظر بعيدة كل البعد عن حقيقته، وأن الارتجال بالبرنامج أعاد به الذكريات إلى أوقات دراسته للمهنة وعلى الرغم من خوفه من التقديم إلا أنه اعتبره كدور من أدواره التي يؤديها في مسلسلاته. أما خالد سليم فاعتبره تحدي حقيقي إشارة لاعجابه بالقالب الجديد الذي يقدمه البرنامج، وأنه برنامج حواري  غير تقليدي، ويرى أنه “تدريب في التمثيل، ويعتمد على سرعة البديهة ورد الفعل الصحيح.”

في الواقع أنا أحُب باسل خياط، وقيس الشيخ نجيب وكريم فهمي وأتابع أخبارهم وما يقدمونه من أعمال، لكنني الآن أشعر بالخيبة الكبيرة أن من أحبهم من فنانين لا يفهمون معنى معاناتنا كنساء في الوطن العربي المليء بالجرائم والعنف ضدنا، وأنهم لا يعرفون بأن أدوارهم التمثيلية تُشكل جزء من هذا العنف الموجه ضد النساء، وأنهم يعتبرون قدوة ويحتلون مكانة المؤثرين لكثيرين من الرجال من متحرشين ومُعنفين، ومنهم من ينصّبون أنفسهم أولياء علينا.

من خلال عملي ودراستي الصحافة واهتمامي بالفن والسينما، أؤمن بأن إحدى أهم وظائف الفن -التي يفتقدها الإنتاج العربي- هو التغيير والخروج من التنميط، وليس استخدام الفكاهة والمتعة لتسخيف قضايا المرأة، وتمييع النضال النسوي على مر السنوات فقط لإنتاج أعمال مستفزة حتى تحقق نسب مشاهدات عالية وتجلب عدد كبير من المشتركين والمتابعين للقناة أو للفنانين.