لخمسة أيام متواصلة أستمع إلى حلقتين أو ثلاثٍ من بودكاست جسدي بينما أستمتع بكوب قهوتي الصباحية وألعب اللودو. “لذيذ! أخيرًا إذاعة عن الجسد باللغة العربية.” ربما لم أكُن مُطلعَة أن هناك إذاعات عن الجسد والجنسانية والهويات في المجتمعات العربية يقدمها شباب وشابات من نفس المجتمعات ويتحدثن/ون فيها بأريحية. لكنّ الأكيد أن هذه الإذاعة لفتت انتباهي وجعلتني أشعر بالانتماء للحكايات والقصص والنقاشات المطروحة.
بودكاست “جسدي” هو أحد البرامج التي تُنتجها شركة كيرنينج كلتشرز. انطلق الموسم الأول للبودكاست في ديسمبر ٢٠١٩ بحلقات إذاعيّة تتراوح مدّتها من ١٥ إلى ٣٠ دقيقة أحيانًا تتم بالتعاون مع منصّة موج وهي منصّة رقميّة تهتم بالصحة الجنسية والإنجابية. على مدار السنوات، أتاح البرنامج الإذاعيّ ثلاثة مواسم، بكل واحدٍ منهم ١٥ حلقة تتناول موضوعات مُتعلقة بالجسد وكيف تنشأ علاقاتنا بأنفسنا من خلاله وكيف أن هذا الجسد نفسه مُثقَل بمفاهيم وتسميّات ومحظورات تجعله أكبر من مجرد حيّز مادي للوجود البشري.
Videos by VICE
تبدأ الحلقات بجملة موحّدة: “تجارب وحكايات عن الجسد والذات ومابينهما.” وهي أول جملة أثارت انتباهي لإيماني أن الجسد والذات ليسا أمرًا واحدًا، وأن ما بينهما هو نحنُ وتجاربنا ومشاعرنا وحيواتنا اليومية وتعقيداتها. أن الجسد والذات يُعرّف كلًا منهما الآخر بثنائية غير محدودة. إن كنّا نعرفُ الجسد، فالذات باختصار هي تصوّراتنا عن أنفسنا وأفكارنا وهوياتنا سواء اخترناها أو فُرضت علينا. هي رحلة الاكتشاف المذهلة والمستمرة طالما نتنفَسُ. هي الفكرة المُتغيّرة عمّا نكون ومَن نكون. أما الجسد فلا يبتعد كثيرًا عن هذه الرحلة، ربما هو الأداة التي نستطيع من خلالها فعل هذا كلّه. لذلك هناك مُصطلحًا مُتعارف عليه ومُستخدم في الأكاديمية: “سياسات الجسد” أو (Body Politics).
بحرفيّة ومهارة وخفّة، قدّم برنامج “جسدي” هذا المُصطلح ببساطة وبطريقة تجعل المستمعات/ين يُبحرون بين الجسد والذات في القصص التي يسمعونها وفي قصصهن/م الشخصية أيضًا.
**الذات بين الجسد المعياري واللامعياري
**للجسد معيارية أو مقاييسًا أو سياسات (Politics) تتحكّم به ويُعرّف من خلالها. كلما طابق الجسد هذه المقاييس، كلما كان مقبولًا مُندمجًا اجتماعيًا. وكلما خالفها، كلما نُبذَ. قد تكون مقاييسًا مُتعلقة بالصفات الجسدية أو الجنس البيولوجي، وقد تكون مُتعلقة بالهوية الاجتماعية أو الميل الجنسي، أو بالصحّة، أو بالمظهر والتصرفات والسلوك. كل هذه المقاييس هي بُنى اجتماعية وسياسية مُحددة سلفًا.
لنأخذ مثالًا حلقة حديث رجال من الموسم الأول للبرنامج. في الحلقة يتحدّث الضيوف الرجال عن شكل الجسد الرجولي وكيف شكّل الضغط الاجتماعي عليهم كرجال علاقتهم بأنفسهم وبأجسامهم. يتحدّثون عن الوصم الجسدي الأبوي الذي يُلاحق الرجال ولو بنسبة أقل كما يُلاحق النساء والكويريين/ات. تحدثوا عن كيف يتربى الشخص ليصبح رجُلًا مُطابقًا للمواصفات: بناء عضلي مُعيّن، ميل للعنف والسيطرة، بُعد عن أفعال وصفات تُصنّف نسائية كالاهتمام بالجسد وإزالة شعر الجسم. تحدّث الضيوف كيف شكّل هذا الضغط علاقتهم بذواتهم، لنصل في نهاية الحلقة: أن الجسد اللامعياري يُشكّل ذاتًا غير معيارية. قد تتصالح مع عدم معياريتها، وقد لا تتصالح. لكن النتيجة واحدة: أن تشكّل الذات لا يحدث منفصلًا عن معيارية ولامعيارية الجسد.
أما حلقة سطوّة التسميّات من الموسم الثالث، فتأخذنا في رحلة اكتشاف معنى الحب والصداقة وعلاقتهم بالميل الجنسي للأُفراد. تحكي الضيفة أن تسميّة انجذابها لصديقات طفولتها وصباها كان محكومًا بتسميّة “الصداقة” حتى اكتشفت أنها تميل وتنجذب عاطفيًا وجنسيًا للنساء. في رحلة اكتشافها تحكي مراحل التساؤل بسبب التسميّات وكيف أن تسميّة مثل صديقة مُقربة أو أنتيم، لم تسمح لها باكتشاف ذاتها أو ميلها الجنسي بل تسببت في تشوّش وتخبّط حتى أدركت أنها ثنائية الميول الجنسيّة.
هذه المعيارية تتعلق بالميل الجنسي وكيف أننا كأشخاص نتربى في قوالب جامدة تصرف نظرنا عن جوانب هامة في أنفسنا. أحدها هو الاعتقاد أن العلاقات بين الأشخاص من نفس الجنس مقتصرة على الصداقة ولا يجب أن نُسميها حُبًا أو انجذابًا عاطفيًا أو جنسيًا. الهوية الاجتماعية (الجندر) كان لها نصيبًا من حلقة الهوية: رمادي والتي تحتوي جرعة مكثفة عن كيف تتشكل هوياتنا الاجتماعية بناء على الجنس البيولوجي. في الحلقتين، تم تسليط الضوء على بعض إشكاليات داخلية بمجتمعات الكويريات/ين، منها مثلًا اعتبار ثنائية الميول الجنسية خجلًا من الاعتراف بالمثليّة أو محاولة لإرضاء المجتمعات المُغايرة. ومنها محاولة فرض الوصاية على أجسام وتصرفات الأشخاص الكويريين/ات من أشخاص كويريات/ين أيضًا.
أما عن الجسد الصحّي، فحلقة مُسلّم به من الموسم الأول تتناول معيارية الصحّة وكيف تتغير علاقاتنا بأجسامنا بعد فقدان دائم أو مؤقت لجزء منها كالبتر أو الأمراض المزمنة والنادرة. يتحدث الضيوف عن علاقتهم بأنفسهم/ن كأشخاص بأجساد غير معيارية وكيف أعاد ذلك تشكيل علاقتهم بالمحيط الاجتماعي وصورتهم عن أنفسهن/م.
هذه الحلقة أثرت فيّ بشكل شخصي، فبعد تشخيصي بأني مُتعايشة مع اضطراب القلق المزمن أصبحت علاقتي بذاتي وبالناس مختلفة. أدركتُ لماذا يتعامل معي البعض أني “غير طبيعية” أو لماذا يختلف استقبالي للأمور عن غيري. زادت حلقة صوت في رأسي من شعوري بأني لستُ وحدي في هذا التعريف. فالحلقة تُقدم الاضطرابات العقلية والنفسية من خلال أصوات الضيوف الذين/اللاتي يشبهونني في علاقتهن/م بأجسامهن/م من خلال هذا الخط الواصل بين الجسد والعقل. في حلقة أنا ومثلي الملايين من الموسم الثالث، كنتُ أنا من ضمن الملايين اللواتي تعرضن للختان كالراواية. أسمع وأستحضر تلك الصور من ختاني أنا.
أما حلقة لستُ أمًا من نفس الموسم، فشاركتني الراوية أفكاري عن الأمومة وأعبائها وكيف يتم تقديمها اجتماعيًا كوجهة حتميّة للنساء. لكن الراوية تعترض، وأنا كذلك، على هذه الحتميّة. فنُرجع سويًا حقّنا في تقرير مصائر أجسامنا، هي بالحكي، وأنا بالاستماع والابتسامة مرسومة على وجهي: نحنُ كثيرات.
لم تُعجبني زاوية النقاش في حلقة كيس أسود من الموسم الأول والتي تتحدث عن الوصم والتكتّم عن الحَيض ومحاولات طمس كل ما يتعلّق به أما بوسمه أنه قرفًا أو أنه أمر نسائي خاص. حكى أحد الضيوف عن اختباره لهذا الوصم عندما كان يذهب لشراء فوط صحيّة لأمِه. لم يكُن ذلك ما أود سماعه كمُستمعة وكامرأة. وددتُ لو غاص الحديث حول لماذا يعتبر الرجال الدورة الشهرية قرفًا أو لماذا يعتبرون دمائه ملوثة ونجسة. وودتُ لو أن هناك رجلًا يُحدثنا عن شعوره هوّ لو أنه رأى بُقع الدم على السرير أو طقم الجلوس مثلًا.
**الحكي كأداة تضامن
**بصفتي الأكاديمية أميلُ دائمًا لقراءة المواد البحثيّة والتحليلية، لكني بالاستماع لهذا البودكاست أدركتُ أني أميلُ كذلك لسماع حكايات الأشخاص وليس بهدف التحليل والتنظير، بل بأهداف خصّت المشاعر وكان على رأسها التضامن. يُمكنني كتابة ألف مقال وبحث، ويُمكن لحلقة واحدة إيصال نفس الفكرة بسلاسة لا تعهدها الأكاديمية للأسف.
اللغة المُستخدمة والتقديم وبراعة الرواة/الراويات جعلتني أتوق للمزيد. كان الاستماع مُمتعًا حتى لو تضمّن صورًا سابقة (Flashbacks) مرتبطة بصدمات مررتُ بها كحلقة سوف تلعنك الملائكة والتي كان محتواها عن العنف الجنسي مؤلمًا. وكان ذلك يخلّق فيّ شعورًا بأننا نحتاج هذا النوع من المحتوى الذكي والحسّاس للنوع الاجتماعي باللغة العربية. أنني أحتاجُ لذلك كامرأة عربيّة تعيش هذه التجارب بنفسها ومع صديقاتها وأصدقائها وترى نفسها وتراهن/م في القصص المرويّة. وأن الاستماع للحكايات أداة فعّالة لإظهار ما بين الجسد والذات- إظهارنا نحنُ كأشخاص غير معياريات/معياريين. البودكاست مثّل لي مساحة وجود.
More
From VICE
-
Milena Magazin/Getty Images -
Marie LaFauci/Getty Images -
CRIS BOURONCLE/AFP via Getty Images -