بين البوتوكس والنفايات: كتاب مصوّر يوثق غرق لبنان بالبلاستيك

بلاستيك

لنفكر سويًا، ما هو أول ما يتبادر إلى الذهن لدى التفكير بصورة لبنان في السنوات الأخيرة؟ حسنًا. هناك أولًا عقود من الانقسام السياسي والطائفي، وهناك كذلك الحياة الليلة المنتعشة التي تشتهر بها البلاد. الأمر مختلف بالنسبة لـ ماري مورغان (29 عاماً)، المصورة والناشطة البصرية المولودة في نيويورك، والتي تعيش بين بيروت ولندن، فهناك جواب واحد أساسي يلّخص المجتمع اللبناني المعاصر بالنسبة لها: البلاستيك.

بلاستيك” هو عنوان كتاب التصوير الأول من نوعه الذي أطلقته ماري والذي يحاول توثيق مساري البلاستيك في لبنان: عمليات التجميل، وأزمة النفايات. عبر هذا الكتاب تمنت مورجان أن تشعل نقاشًا أكبر حول النسوية، وحماية البيئة، والآثار الدائمة للحرب، فهي تؤمن أن هذه القضايا التي يناقشها “بلاستيك” تهم القارىء بالفعل، كما تشرح لـ VICE عربية في مقابلة عبر الايميل:” إنه يبحث في ميزتين أساسيتين ولكن متعارضتين –على نحو مثير للسخرية- للمجتمع اللبناني الحديث.”

Videos by VICE

1550399055030-plastic-interior

بالرغم من عملها سابقًا على مشروع تصوير يدعى (‘PRIVACY’) وإنتاجها مطبوعات فنون جميلة، إلا أن “بلاستيك” هو تجربة ماري الأولى مع كتب التصوير، والمرة الأولى التي تعمل فيها على مشروع يتركز في منطقة الشرق الأوسط. في بداية عمل مورغان مع فريق التواصل لدى UK Foreign & Commonwealth office في بيروت من شهر أغسطس 2016 وحتى يناير 2018، لم تكن المصورة الشابة تعي الانتشار الهائل لعمليات التجميل فيما سبق وصولها. كانت هذه زيارتها الأولى لبيروت رغم أنها كانت قد زارت المنطقة ضمن سفرها المكثف سابقًا عبر الشرق الأوسط: “الأمر الذي لاحظته في أيامي الأولى هنا كان الانتشار الكبير لعمليات التجميل، والضغط المفروض للتقيد بمعايير الجمال العالية” تقول ماري وتضيف: “من الصعب ألا تنتبه إلى هوس لبنان بالكمال الجسدي. لقد تفاجأت بما رأيت. ليس فقط لأن عمليات التجميل هي ببساطة ثقافة سائدة، بل لأن هناك تركيز على تحقيق (الكمال).”

1550398973452-mary-m
ماري مورغان

اللامبالاة التي طورها اللبنانيون تجاه القمامة المنتشرة على خلاف جهودهم المبذولة لتحقيق الجمال الكامل، مكشوفة بحذق في كتاب بلاستيك. تترافق صور لجبال من القمامة المنثورة في المدينة وشواطئها وبحرها جنبًا إلى جانب صور نساء يخضن جراحة تجميلية، بأسلوب تفصيلي: بدءًا من المناديل الملطخة بالدماء وانتهاءً بالضمادات. “لم يتم تعديل أو تبديل هذه الصور ولا بالحد الأدنى. هذا هو الواقع القاسي للجراحات التجميلية،” تقول ماري.

يتناقص هذا الأمر إلى حد كبير مع ما لمسته ماري من لامبالاة لدى السكان تجاه حماية البيئة، ولا سيما معالجة أزمة النفايات المستمرة التي ابتلي بها لبنان منذ العام 2015. حتى أن منظمة هيومن رايتس ووتش سمتها “أزمة صحية وطنية” عام 2017. “كنت مصدومةً كذلك من كمية القمامة في كل مكان. تتكدس القمامة في الشوارع، وتتناثر على الشواطئ، وتطوف في البحر وتحترق في الهواء،” تضيف ماري.

1550399236339-mary-morgan-06
1550399221504-mary-morgan-13

تسليط الضوء على الدور الهائل الذي تلعبه عمليات التجميل في لبنان كان أساسيًا في “بلاستيك” في البلد الذي سُجلت فيه أعلى نسبة نمو في عمليات التجميل عالمياً. وفي ظل هذا الإقبال الهائل على الجراحات التجميلية، توفر البنوك في لبنان قروضًا لتمويل النساء الذين يحاولون الخضوع للجراحة. “من الطبيعي أن ترى فتيات وفتيان من المراهقين يتمشون وهم يضعون ضمادة أنف وكأنها علامة شرف مميزة، وطريقة للتفاخر بمكانتهم الاجتماعية الاقتصادية وجمالهم المرتقب،” تقول ماري.

على الجهة الأخرى، وبالرغم من جهود الناشطين البيئيين والمجموعات النسوية على حد سواء، تنسب ماري اللامبالاة تجاه البيئة إلى إرث الاحتلال التاريخي والحرب الأهلية والصراع الطائفي، ما جعل اللبنانيين يتبنون عقلية “عش وكأن الغد لن يأتي أبداً.” ربما هذه هي العقلية ذاتها التي أدت إلى ولادة وازدهار مشهد الحياة الليلية في البلاد، سمحت كذلك “بازدهار الجراحات التجميلية على حساب البيئة.” تذكر ماري أن أحد جراحي التجميل قال لها بأن الكثيرين من مرضاه “يؤمنون بوجوب صرف أموالهم اليوم لأنهم لا يعرفون إن كانوا سيعيشون للغد.”

تطلّب وضع كتاب “بلاستيك” عدة شهور تضمنت الكثير من التفكير والبحث والرصد والملاحظة ونسج خيوط نظريات عن النسوية والتجميل وذهنية ما بعد الحرب. تكلمت ماري كذلك مع السكان المحليين، ومجتمعات المغتربين في بلدان أخرى، وعمال وافدين في بيروت، لتتناقش معهم أثر الانتقال إلى هذا البلد على علاقتهم مع أنفسهم وصورتهم الخارجية. كما أجرت مقابلات مع أربعة جراحي تجميل.

1550399929324-mary-morgan-15
1550399938491-mary-morgan-12

مع ذلك، لم يكن إطلاق كتاب بلاستيك خاليًا من التحديات. في البداية، قوبلت ماري بتردد من الشخصيات حيال كشفهم عن وجوههم. أما التحدي الأكثر مفاجأة بالنسبة لها، فكان التفحص الذي واجهته هي بالمقابل من المرضى، كما تخبرني: “في واحدة من اللقاءات مع جراح تجميل من أجل الكتاب، دخلت امرأة أكبر عمرًا إلى العيادة، قالت لي أنها تحقن البوتوكس كل ثلاثة أشهر لأكثر من ثلاثين سنة. وفيما كنت في الغرفة أشارت إلي وسألت الجراح: لم لا تخضع هذه الفتاة لعملية تجميل أنف؟ لم لا تضع مساحيق التجميل؟ يبدو أنها لا تهتم بنفسها.”

هناك طيف واسع من الأسباب التي تحفز النساء على إجراء الجراحة في لبنان، بدءًا من كون تكلفة العملية أرخص من الولايات المتحدة. (إحدى النساء في نيويورك، من أصول لبنانية، كشفت أنها قد وفرت ما يقارب سبعة آلاف دولار بإجراء عملية تجميل للأنف في لبنان) ووصولًا إلى ترويج للبنان لنفسها كوجهة “للسياحة التجميلية” أسوة بالمكسيك مثلًأ. أرجع آخرون الانتشار الكبير للجراحات التجميلية إلى حاجة لبنان لإرساء هوية بعيدة عن الصور النمطية التي جلبتها الحرب، والنزاع، وعقود من اللاستقرار السياسي الذي لطالما ربطه الغرب بصورة هذا البلد.

بكل الأحوال فإن ماري تعتقد أن هناك سبب آخر، وهو التحيز الجنسي المبطن، والضغط الذي تتعرض إليه النساء اللبنانيات لاعتبار الجمال أولوية. طبعاً، يمكن ربط رأي ماري بوجهة النظر الغربية الاستشراقية، التي تسلب النساء اللبنانيات أي قوة وتهمل خياراتهن وكأنها بأكملها نتاج للسلطة الذكورية بالضرورة. فالكتاب لا يرفق أصوات النساء وآراءهن. ولكن على الجانب الآخر، لا يمكن بسهولة تجاهل معدلات الطلاق المتزايدة في لبنان التي تضاعفت خلال السنوات الماضية، حيث ينسب أحد الجراحين الأمر لما سماه ربط انخفاض جمال المرأة بالانخفاض المحتوم لفرصة زواجها كما تدعي ماري: “قال لي هذا الجراح إنه مؤمن بأن ارتفاع معدلات الطلاق يعود إلى أن الناس يتزوجون من أجل الجمال وليس من أجل الحب. حين يزول جمال المرأة، سينتهي هذا الزواج.”

1550400675878-mary-morgan-05
1550400685966-mary-morgan-10

في السنوات الأخيرة، أنزلت السعودية والإمارات العربية المتحدة لبنان عن العرش كعاصمة الجراحات التجميلية في الشرق الأوسط، فيما تدفق الجراحون إلى دول مجلس التعاون الخليجي. رغم ذلك تؤكد ماري أن ملاحقة المعايير الجمالية للحد الأقصى لا يقتصر على لبنان: “الضغط الممارس على النساء ليظهرن ويتصرفن بطريقة معينة هو قضية عالمية. ليس الأمر مقصورًا على لبنان.” وتشدد ماري على دور الجراحين أنفسهم مسؤولون عن تعزيز مكانة معايير جمالية محددة، وتضيف: “قال لي الجراحون أنفسهم أنهم لا يؤمنون بوجود الوجه المثالي، ولكن ذلك لا يمنعهم من تشجيع النساء على تصديق ذلك.” الأمر ذاته ينطبق على البيئة: “البلاستيك يتدفق نحو البحر الأبيض المتوسط، ويرسو على شواطئ بلدان أخرى مثل قبرص. أزمة البلاستيك في لبنان لا تقتصر على حدود هذا البلد، إنها قضية عالمية.”

رغم أن ماري تأمل أن يكون كتاب “بلاستيك” حافزًا لالتزام عالمي أكبر بإزالة المعايير الجمالية المتطرفة وآثار ذلك على النساء، ليس في لبنان فقط بل حول العالم، إلا أنه في النهاية يؤسس لحوار حول أسلوب تعاملنا مع الكوكب: “نحتاج لإعادة تقييم مبادئنا. يجب ألا نسمح للشركات، والأفراد بتحقيق الأرباح من خلال إشعار النساء بأنهن أقل. نحتاج كذلك، لأن ندرك عواقب أفعالنا ولا نستطيع أن نتعامل مع كوكبنا بهذه اللامبالاة. يجب أن نتحمل مع بعضنا مسؤولية الحفاظ عليه للمستقبل.”

جميع الصور مقدمة من ماري مورغان.