جدتي هي أول نسوية قابلتها في حياتي

نسوية لبنان جدتي

أجلس على الشرفة مع جدتي في صباح يوم أحد -عادي كئيب- فيدخل عليها رجل تعرفه منذ سنوات ولم تره منذ فترة. جدتي الحشرية تسأل الرجل عن مستجداته وتقول له “كم ولد صار عندك؟” ليُجيب “ثلاث شباب” فتسأله جدتي “ما صار عندك بنات؟” فيجيب الرجل “لا.” تبتسم جدتي نصف ابتسامة وتقول ساخرة “الحمد الله” فتتغير ملامح الرجل ويتملك وجهه الحيرة، لتريحه جدتي بعبارة ساخرة تفسّر كل شيء “الحمد الله عشانهم. ارتاحوا.” جدتي تعلم جيداً ما يعني أن تولدي امرأة في هذه المنطقة من العالم.

تذكرت حينها مسرحية “بيت برناردا ألبا” للمسرحي والشاعر فدريكو لوركا، والتي بطلتها برناردا ألبا المرأة القوية التي تقمع نساء منزلها بجميع الأشكال، فبعد وفاة زوجها تقول برناردا لبناتها الخمس”إن الحداد لدينا ثماني سنوات، ينبغي ألا يدخل خلالها من أبواب هذا المنزل ونوافذه حتى الهواء.”

Videos by VICE

قد تجسد الجدة العربية بالعادة سلطة برناردا ولكن جدتي ليست كذلك أبداً، فهي تفتح نوافذها من الخامسة فجراً وتفتح أبوابها لصديقاتها كي تحل مشاكلهن. هي امرأة أسطورية من العصر الذهبي، صوتها لطيف، كلماتها متهكمة وساخرة وصادقة بشكل مطلق. قضيت معظم طفولتي في منزل جدتي الأرضي حيث لعبت واحتفلت وسعدت وذرفت الدموع في مطبخها الصغير وعلى شرفتها الشهيرة.

لم تقرأ جدتي كتب سيمون دي بفوار أو كتب نوال السعداوي، لكنها أكثر النساء التي علمتني ما يعني أن أكون إمرأة قوية. للأسف والدتي لم تكن القدوة المثالية بالنسبة إلي فلم أستمد منها قوتي بل تعلمت منها كيف تكون المرأة عاطفية بتعلقها بزوجها المعنف ومضحية من أجل عائلتها. ما لم تعلمني إياه والدتي علمتني اياه جدتي على الرغم من أنني ممتنة لكل لحظة قررت فيها أمي أن تبقى معنا.

كنت في الثانية عشر من عمري عندما عاد والدي، الذي يعاني من الإدمان، من السعودية بعد 4 سنوات من السفر. وكانت المرة الأولى منذ سنوات التي أشهد فيها على والدي يقوم بتعنيف والدتي، التي اختارت أن تهرب من ضرباته إلى غرفتنا. عندما اتجهت لمنزل جدتي في صباح اليوم الثاني، استطاعت أن تقرأ وجهي الشاحب وعيناي المتعبة من البكاء فسألتني”بيّك ضرب إمك؟” جدتي كانت تعلم جيداً مشكلة والدي وكانت تنصح أمي بالرحيل وبالطلاق منذ أيام الخطوبة على حد قولها، لكن خوف والدتي من أخذ حضانتنا منها لم يدفعها إلى الرحيل. جدتي على عكس والدتي اختارت الرحيل.

“في هذا العالم لن يبقى لكِ رجل أو أولاد…المرأة يبقى لها أمران الأول مصرياتها وشوي من رفقاتها.” كانت جدتي تقول وهي تذكرني بأن أدخر لشراء منزل أو “شقفة أرض”

تخبرني جدتي عن حروبها التي بدأت هي وقاصر بزواج فُرض عليها: “كان عمري 13 سنة، بالصف الخامس، وكنت ألعب مع أصدقائي في الشارع، عندما جاء جدكِ لمنزلنا وقالوا لي أنهم سيكتبون كتابي عليه”. تقدّم جدي الذي كبر جدتي بـ 25 عاماً للزواج من أختها الكبرى في بداية الأمر لكن أختها لم توافق لأنه “سكّير.” والدة جدتي التي تشبه برناردا ألبا بقراراتها لم ترد أن تفوّت فرصة كهذه، فجدي هو العريس الغني الذي يمتلك الحقول الواسعة والذي يعمل كمدرس في مدرسة رسمية، لذا قررت أن تمارس بطشها على جدتي وتستغل صغر سنها لتجبرها على الزواج منه.

حملت جدتي بطفلتها الأولى سناء في سن الـ14 واضطرت أن تتسلم حياةً أكبر منها في عمر تمنت فيه أن تكون على مقاعد الدراسة وأن تلعب في شوارع الحي. أنجبت من جدي 7 أولاد، 4 نساء وثلاثة شباب وقد أُصيب اثنان من أولادها بشلل الأطفال. وما كان أصعب لجدتي هو طبع جدي فهو لم يحبها أبداً وهي لم تحبه. “كان يشرب كثيراً حتى مع صحن اللبنة، وعندما أقول له أي كلمة بسيطة يغضب ويضربني، وفي بعض الأحيان كان يُجبرني على النوم خارج المنزل. الله يسامحو.”

تخبرني جدتي التي تعرضت هي أيضاً لتعنيف متكرر من قبل جدي. وعلى الرغم من ذلك لم تخسر جدتي رونقها، فكانت ترتدي أجمل الثياب من البالة، وتضع أحمر شفاه غامق وتقابل صديقاتها ومعارفها يومياً، وتعمل في أرض جدي وتنزل من الضاحية الجنوبية لبيروت وتتصوّر عند المصوّر في الإستديو وتحاول أن تتعايش مع وضعها بكل الطرق. الإستسلام بالنسبة إليها لم يكن خياراً. “كان عندي كتير أمل…كنت كتير شاطرة بالمدرسة،” تقول لي جدتي التي توقفت عن الدراسة بعد الزواج، إلا أنها لم تتوقف عن قراءة الروايات والكتابة كي لا تنسى ما تعلمته. تقول جدتي أنها انتظرت اللحظة المناسبة كي تطلق جدي، لذلك وبعد انجاب والدتي بفترة – وهي آخر العنقود- طفح كيلها وبعد مشكلة عنيفة بينها وبين جدي أمسكت جدتي حجر كبير وهددته قائلة “منروح منطلّق هلق.”

علمتني أنني يجب أن آخذ حقي بنفسي وألا أستهين بقيمتي كإمرأة مع أي رجلٍ كان وألا ألوم نفسي أبداً. علمتني كذلك، أن الحياة دون أصدقاء لا تعني شيئاً، وعلمتني ألا أحكم على أحد

وافق جدي وتحررت جدتي منه للأبد. اضطرت جدتي أن تعود لمنزل والدتها التي استمرت بلعب دور برناردا فرفضت استقبالها وقالوا لها “ما الك محل تنامي… بعنا تختك.” عادت جدتي إلى منزل زوجها محبطة ضائعة، فرد لها جدي الصاع صاعين وقرر أن يطردها من المنزل، لكن جدتي لم تستجيب..”هيدا بيتي وهولي ولادي.” في النهاية، حصل ما أرادته جدتي فقد بقيت مطلقة ومتحررة منه لكنها عاشت في المنزل نفسه معه منفصلة تماماً عنه هي في الطابق السفلي، وجدي في الطابق العلوي من المنزل.

قررت جدتي بأن تعمل في مستشفى كي تؤمن ما تحتاجه من مال وكي تستقر تماماً. وهذا هو درس آخر تعلمته من جدتي وهو أن على المرأة الإستقرار مادياً تماماً. فأثناء طفولتي كانت تقوم بجمع مصروفي منها وتقدمه لي كمبلغ كبير بعد شهور كي أعتاد على شراء أغراضي بنفسي وكي أستقل فكانت تقول لي: “في هذا العالم لن يبقى لكِ رجل أو أولاد…المرأة يبقى لها أمران الأول مصرياتها وشوي من رفقاتها.” كانت وما زالت تذكرني بأن أدخر وتحثني على جمع المال لشراء منزل أو “شقفة أرض.”

علمتني جدتي كذلك بأن أرحل عن الرجال السامين في حياتي، مع أنني كنت أعاني من انقسام بين عواطفي التي أخذتها من والدتي وبين عقلي الذي أخته من جدتي. فعندما كنت في السادسة عشر من عمري تعرفت على شاب عشريني وقد كان لدي “كراش” كبيرة عليه، ولكنه كان شخصً مستغلاً، كانت تلك أول تجربتي مع الخذلان وانفطار القلب. في أحد الأيام ذهبت عند جدتي كالعادة وسألتني “انتي منيحة؟” فانفجرت بالبكاء وقلت لها عن تحرشه بي. لم تلمني جدتي أبداً بل قالت لي أنني يجب أن أنتبه لنفسي أكثر. وفجأة، ارتدت ثيابها وذهبت إلى محلّ هذا الشاب الذي كان في نفس حينا، و”شرشحته” قدّام الناس كلهن وبصقت في وجهه. علمتني أنني يجب أن آخذ حقي بنفسي وألا أستهين بقيمتي كإمرأة مع أي رجلٍ كان وألا ألوم نفسي أبداً.

علمتني كذلك، أن الحياة دون أصدقاء لا تعني شيئاً، وعلمتني ألا أحكم على أحد. علمتني أن أختار أصدقاء يصغروني سناً كي لا يموت جميع أصدقائي وأعيش وحيدة. علمتني أن أقول لا، وأنه ليس لدي خيار الاستسلام، فالقوة هي الخيار الوحيد. علمتني أن أرتدي من البالة وأن أضع أحمر شفاهٍ فاقع دون أي جهد إضافي، وعلمتني ألا أتصنع بل أكون نفسي دائماً.

اسم جدتي هو نورا. نورا لا تشبه برناردا ولا تشبه والدتها، ولا تشبه والدتي، بل تشبه نورا التي تحب الناس ولا يسعها أن تبقى يوم السبت دون أن تسهر خارج المنزل والتي عاشت جميع الحروب التي مرت على لبنان، منذ أن كان عمرها 13 عاماُ. نورا التي لم تحب يوماً كما تخبرني “ما بحياتي عرفتو للحب” ولكنها أحبت أولادها ونفسها، وعلمتني أن أحب نفسي. أسأل جدتي إن ندمت على حياتها فتقول لي: “لا أندم على شيء في حياتي، أعرف كيف أكون سعيدة. الحمد لله، أنا سعيدة بكل شيء قمت به في حياتي. جدكِ أنا سامحته، أما والدتي فقد كانت قاسية جداً علي، وما فعلته بي كانت جريمة، وربما لكانت حياتي مختلفة لو أن قرارها كان غير..بلومها بس بسامحها.”

تتمنى جدتي نورا أن تلقي ندوة أمام تلاميذ الجامعة على حد قولها “أنا أحسن من كل أساتذة الجامعة” أما عن حال المرأة الآن فتقول: “اسمعي المرأة خلقت مضطهدة. من زمان وهي هيك وضلّت مفكرة حالها ضعيفة، بس هلق الأشياء عم تتغيّر وتتطور. انا راحت عليي. حتى بناتي راحت علين. بس هلق وقتكن.”