لقد لعبت كورونا دورًا محوريًا في اهتمامنا أكثر بصحتنا النفسية وتقديسها فوق كل اعتبار. فقد جعلتنا فترة الحجر الصحي نعيد ترتيب أوراقنا وأولوياتنا لتتماشى مع أكثر شيء كنا نفتقده خلال نفس الفترة: راحتنا الذهنية بعيدًا عن القلق والتوتر. من هنا ولدت حركة GreatResignation -أو الاستقالة العظيمة التي دفعت ٤.٣ مليون شخص أمريكي للاستقالة من مناصبهم. تعددت أسباب هذه الاستقالات بين ضعف الأجور، وظروف العمل المزرية، والموازنة بين الحياة الشخصية والحياة العملية. إلًا أن السبب الوحيد الأكبر يبقى وعي الناس أكثر بحقوقهم وراحتهم النفسية ووضعها فوق كل اعتبار.
وبحسب إحصاءات منظمة العمل الدولية، فإن ساعات العمل الإجمالية قد نقصت بنسبة ٢.٥٪ في كل من أوروبا وآسيا الوسطى، فيما سجلت القارة الأمريكية وأفريقيا وبلدان الوطن العربي أكثر نسب انخفاض وصلت، على التوالي، إلى ٥.٤٪ و٥.٦٪ و٦.٥٪. ما الذي جعل من منطقتنا العربية واحدة من أكثر الأماكن التي تضررت من عقبات موجة الاستقالات خلال الفترة بين سنتي ٢٠٢٠ و٢٠٢١؟ سألنا مجموعة من الشباب العرب عن الأسباب التي جعلتهم يقررون الاستقالة على الرغم من كل التحديات في ظل أزمة صحية واقتصادية خانقة.
Videos by VICE
عائلتي فوق كل اعتبار
“لقد مرت استقالتي في ظروف خاصة بعض الشيء. كنت أعمل مع شركة أجنبية في فرنسا بعيدًا عن بلدي المغرب، وقد كنت مستقرًا في منصبي وسعيدًا فيما كنت أقوم به. ولكن ما حصل أنه قبل بداية فصل الصيف الماضي، ألمت بوالدي -رحمة الله عليه- وعكة صحية استلزمته دخول المستشفى. أخذت أجازة من العمل للبقاء بقربه والاعتناء به برفقة عائلتي، لكن مكوثي طال أكثر من المتوقع، وأصرت عليّ الشركة للعودة بشكل عاجل ولم يكن العمل من المنزل حلًا متاحًا. لكن كان من المستحيل أن أترك والدي. وضعتني الشركة أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الرجوع في أقرب أجل لاستئناف عملي أو الاستقالة بشكل ودّي والبقاء في بلدي. طبعًا لم أفكر كثيرًا قبل الرضوخ للخيار الثاني، لم يكن في الموضوع حتى مجال للمناقشة. أعلم أن الفرصة لم تكن مواتية ابدًا للتخلي عن عملي بالنظر إلى الامتيازات التي كنت أتمتع بها، ونسب البطالة العالية بعد أزمة كورونا، لكنني في الوقت نفسه لم أندم للحظة على هذا القرار الذي مكنني من البقاء بجانب والدي في أيامه الأخيرة والبقاء مع العائلة وتعويض سنوات الغربة الطويلة بعيدًا عنهم. الحمد لله أنني وجدت أخيرًا عملًا جديدًا ومستعد مغامرة جديدة.” –خليل بنيحود، ٢٨، مصمم منتجات
مديري المباشر كان سبب تعاستي
“السبب الذي جعلني أقدم استقالتي بداية هذا العام بدون أي تفكير وبدون أي فرصة عمل أخرى، هو باختصار وبكلمة واحدة مديري المباشر. كنت أعمل في مشروع هندسي ضخم يتشعب في عدة مناطق من السعودية. وكنت أنا ومديري المسؤولان عن منطقة معينة، ولم يكن بيننا وبين باقي أعضاء المشروع احتكاك مباشر. المشكلة أن مديري كان يمنعني من التواصل مع الإدارة العليا، ويصر أن يتم التواصل من خلاله فقط، بل وينسب العمل لنفسه في أحيان كثيرة. هو لم يكن فقط يهدر وقتي ومجهودي، بل كان أيضًا يدير الموارد بشكل سيء جدًا. صبرت على كل هذا لمدة سنتين، وحاولت الحفاظ على مهنيتي، لكن تبين لي أن هذا المدير كان ينقل عني صورة سيئة إلى الإدارة العليا ويتهمني بتأخير المشروع وتعطيل العمل، وهو ما أوصل أحد المديرين للحديث معي وإهانته لي هاتفيًا مما جعلني أستقيل في اليوم نفسه. صراحة لم أفكر في المستقبل الوظيفي أو ما سأفعله بعد ذلك، كل ما فكرت فيه وقتها هو إيقاف الضغط النفسي الذي تسبب لي بأمراض مثل ارتفاع ضغط الدم والنزيف من الأنف. لم أتخذ خطوة جديدة بعد الاستقالة، لكنني لست نادمًا على هذا القرار لأنني أنقذت به حياتي .. أو هذا ما أظنه.” – أحمد علي، ٣٢، مهندس مشاريع
الجبل الجليدي الذي لا يراه الجميع
“كنت أعمل كمسؤول موارد بشرية في إحدى الشركات، وبالرغم من أن الفترة التي قضيتها معهم لم تتجاوز الـ ٨ أشهر، إلا أنها كانت مدة كافية لأرى حجم المشاكل في الشركة. لقد كان المنصب الذي شغلته مميزًا، لأنني كنت على دراية بكل صغيرة وكبيرة، وما اطلعت عليه من أسرار لم يكن سارًا أبدًا: تمييز بين أعضاء الفريق، فساد في عمليات التوظيف، عدم احترام لجهود الموظفين، وسياسة التمييز في الرواتب والمناصب. أنا شخص أقوم بعملي بكل أمانة وحيادية، وما شهدته عيناي خلال فترة عملي معهم، كان يتعارض بشكل قاطع مع مبادئي والقيم التي أؤمن بها، فأنا لا يمكن أبدًا أن أخون ثقة الموظفين زملائي أو أسلبهم حقوقهم من أجل إرضاء مدرائي. لهذا قررت الاستقالة بشكل ودي في شهر أكتوبر. وصراحة لم أندم أبدًا على هذا القرار ولم أفكر حينها في خطة بديلة، لأن لدي مجموعة من الخبرات والمهارات، ولأن الله عندما يغلق بابًا يفتح أبوابًا أخرى، فقد تم استقطابي من طرف منظمة أخرى مباشرة بعد مغادرتي لعملي السابق.” – مصطفى، اسم مستعار، ٣٥، مسؤول موارد بشرية
إدارة تتعامل بمنطلق “فرّق تسد”
“بعد أربع سنوات قضيتها في خدمة الشركة التي كنت أعمل معها سابقًا بكل تفانٍ وإخلاص، قررت تقديم استقالتي مطلع العام الماضي، بدون أي فرصة بديلة. لقد كانت شركة متعددة الجنسيات وكنت مديرًا لفريق عمل مختص في تحليل الصورة الذهنية للمؤسسة وإدارة الأزمات المالية. ولكن الإدارة الرئيسية كانت تتعامل بمنطق فرق تسد، وقامت بزرع أعضاء تابعين لها وسط الفريق، وهنا بدأت المشاكل الحقيقية. هؤلاء الأفراد كانوا يتعاملون بشكل متعالٍ ومهين. تراكمت الحوادث مع هذا الفريق الجديد دون تدخل من طرف الإدارة الرئيسية، لهذا قررت الاستقالة. أهم شيء في أي عمل هي علاقة احترام بين الرئيس والمرؤوس، واعتماد الكفاءة كمعيار أساسي لكافة الموظفين وعدم التفرقة بينهم على أساس الصداقات والمصالح. استقلت دون وجود بديل، لكنني أخذت وقتي لترتيب أموري المالية بشكل كامل حتى استطيع الصمود لعدة أشهر قبل إيجاد عمل جديد.”- إبراهيم أبو هيف، ٣٢، مدير علاقات عامة وإعلام
ملاحقة شغفي جعلتني أتنازل عن استقراري المهني
“أنا خريجة صيدلة وعملت في مجال المبيعات لمدة عشر سنين في واحدة من أكبر شركات الأدوية العالمية، ووصلت لأعلى المراتب. ولكن شغفي الأساسي هو التدريب. في أكتوبر ٢٠٢٠، قررت الاستقالة من عملي والتفرغ تمامًا للمجال الذي أهواه. لقد كان من الصعب جدًا التخلي عن منصبي وراتبي العالي، والأصعب كان مواجهة زوجي وعائلتي الذين عارضوا بشكل قاطع هذا القرار خصوصًا في عز أزمة كورونا والأزمة الاقتصادية الخانقة. لكن خوفي من عدم التجربة والندم لاحقًا جعلني أصر على قراري. والحمد لله أن الله لم يخيب ظني. بعد سنة من هذا القرار، أنا فخورة جدًا بما وصلت إليه من إنجازات في مجال التدريب، استطعت تدريب أكثر من ٢٥٠ موظفًا ليجدوا وظيفة أو ليترقوا في عملهم. أنا واعية بأنني كنت أتمتع برفاهية خاصة بسبب وجود استقرار مالي سمح لي بخوض غمار هذه المجازفة. هذا كرم من عند ربنا وأنا جد ممتنة لذلك.” – نورهان مجدي، ٣٢، مدربة مهارات شخصية
بيئة العمل والتجربة والمرتب هي أهم الأشياء
“بدأت مسيرتي المهنية منذ أول سنة لي بالجامعة اشتغلت فيها في أماكن كثيرة. أنا دائمًا أؤمن بمبدأ أنه مثلما لمكان العمل الحق في اختبارك لمدة ثلاثة أشهر والاستغناء عن خدماتك خلال هذه الفترة إذا رأى ضرورة ذلك، فأنت أيضًا يحق لك اختبار هذا المكان والانسحاب أيضًا إذا لم تقتنع بالعمل. شخصيًا، أرى أن أي عمل يجب أن يضيف نقطتين على الأقل من الثلاث نقاط التالية: راتب جيد وخبرة جيدة وبيئة عمل مريحة. إذا كان مكان العمل لا يلبي لي هذه الاحتياجات، أقدم استقالتي على الفور. في آخر وظيفة، قضيت شهرين فقط في الشركة قبل أن أغادرها في شهر سبتمبر. لم أحس أبدًا بالاستقرار والراحة في ذلك العمل. لهذا عندما عرض علي العمل في مكان ثانٍ لم أتردد للحظة. لم أندم أبدًا على هذا القرار وأنا سعيد في عملي الحالي، برغم بُعد المسافة عن بيتي، إلا أن بيئة العمل والمرتب يجعلانني أنسى تعب رحلة الذهاب والإياب اليومية.” – عبد الرحمـن عصام، ٢٣، متخصص في جمع التبرعات
أطلق العنان لإبداعك، لكن لا تبدع كثيرًا
“كنت أعمل كمصمم غرافيك في إحدى وكالات التسويق التي كانت تفتقر لأدنى مقومات النجاح. مديرة الشركة تخصصها صيدلة وبعيدة كل البعد عن مجال التسويق، وكانت تطلب مني مشاريع دون المرور بالمسؤول عن قسم التصميم أو القسم الإبداعي. في أحد الأيام طلبت مني العمل على تصميم معين بدون وجود موجز بالتعليمات أو إرشادات استعمال العلامة التجارية أو الفكرة وراء هذا التصميم أصلًا، وكأنهم رموني في منتصف البحر وطلبوا مني إيجاد حل للخروج منه لوحدي دون تقديم أدنى مساعدة. بطبيعة الحال، أطلقت العنان لإبداعي وأخرجت تصميمًا رأيته الأنسب. ولكن مديرتي لم يعجبها التصميم وقامت بالتقليل من أعمالي وتصميماتي بحجة أنها لا ترقى لما هو مطلوب، وأنني أتحجج بعدم وجود موجز للعمل. لم أدخل في جدالات معها، بل اكتفيت بتقديم استقالتي في صباح اليوم التالي دون التفكير في خطوتي القادمة. وصلتني بعض طلبات العمل، لكنني أفضل الانتظار قليلًا من أجل إراحة أعصابي، ودراسة كافة العروض بتأنٍ حتى لا أسقط في نفس الفخ مرة أخرى.” – أحمد الشهابي، ٢٢ عامًا، مصمم غرافيك
الروتين اليومي القاتل جعلني أبحث عن حريتي في العمل الحر
“منذ شهر فبراير وأنا أفكر في الاستقالة إلى أن تحقق الأمر في شهر يونيو. كنت أحس بملل لا يطاق في عملي. لا أتعلم مهارة جديدة ولا أضيف مكتسبات جديدة إلى رصيدي، كل مهمة كانت تستنزف مني طاقة كبيرة، لأنني أصبحت أقوم بكل مهمة بشكل ميكانيكي تمامًا. في البداية، مجرد التفكير في الاستقالة كان يشعرني بالقلق والخوف من مستقبل مجهول في ظل الجائحة الصحية التي تركتنا نتخبط في أزمة مالية واقتصادية، بالأخص أنني كنت مستقرة نوعًا ما في عملي لمدة عامين. لكنني لم أعد أحتمل ذلك الروتين، قدمت استقالتي، وأخذت فترة لترتيب أفكاري والدراسة أونلاين قبل البحث عن عمل جديد. أنا الآن أعمل في مجال تسيير الحملات الإعلانية على شبكات التواصل الاجتماعي لمجموعة من الشركات بشكل حر، في انتظار إيجاد فرصة العمل المناسبة.” – جيوفانا علاء، ٢٧، مسؤولة عن إعداد وتنفيذ الحملات الاعلانية على شبكات التواصل الاجتماعي