لا يبدأ معرض الأرمني الفلسطيني كيغام من صالة جاليري “Access Art Space” للفنون في وسط البلد في العاصمة المصرية القاهرة، الطريق نفسه الذي يقودك إلى الصالة الكائنة في الطابق الثاني لأحد المباني العتيقة، والمطل على واحد من القصور المدهشة في عمارتها، يعد جزءًا من رحلة معرض حفيد المصور كيغام جيغاليان، المعروف بـ مصور غزة، ذلك أن أبناء المصوّر استقروا في القاهرة بعد نكسة 1967 -عيادة أب كيغام “أفديس جيغاليان” تبعد عدة شوارع من صالة العرض.
يستقبلك المعرض، الذي ينظم ضمن أسبوع القاهرة للصورة، ببابه الخشبي المفتوح يفضي إلى صالة بيضاء بسقف شديد العلوّ، وثمة نص تعريفي على حائط بعنوان “مصوّر غزة كيغام: فتح الصندوق” ثم تتفرع الممرات التي تقودك إلى حوائط فرشت عليها بذكاء صور لوجوه كثيرة وأشخاص في أماكن مختلفة في مدينة غزّة، يشعرك بأنك دخلت بين دفتي ألبوم صور، سرعان ما تكتشف أنه ألبوم شخصي جدًا لـ غزّة كما لا يعرفها أحد، ربما يصّح أن نقول ” لم يعرفها أحد سوى “كيغام” الأرمني الفلسطيني، الذي اتبع نصيحة أستاذه في التصوير في القدس، والذي نصحه بتأبط كاميراته والرحيل إلى غزّة، ليصنع من موهبته مهنة ومعنى، وهذا ما كان.
Videos by VICE
وتمتد جذور الطائفة الأرمينية في فلسطين إلى ألف وسبعمائة عام مضت، حيث جاءوا في القرن الثالث الميلادي إلى القدس واستقروا فيها مشيدين لاحقاً (في القرن السابع الميلادي) بطريركية خاصة بهم أصبحت على مر العصور مقصداً للحجاج الأرمن وأصبحت المنطقة معروفة بحارة الأرمن في القدس. ويعود أكبر توافد للأرمن إلى القدس إلى الهجرات الأرمينية التي شملت بلاد الشام عام 1915 في أعقاب الحرب العالمية الأولى وعلى اثر المذبحة التي قامت بها الدولة العثمانية والتي راح ضحيتها مليون ونصف المليون أرمني خلال الحرب العالمية الأولى.
في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، ترك كيغام القدس وحطّ كاميراته في شارع سيعرف بعد بضع سنوات باسم “شارع عمر المختار” في غزّة. الكاميرات التي التقطت تفاصيل “غزة” كمدينة على البحر المتوسط، ووثقت بـ”النيجاتيف” هوية مختلفة عن غزة المحتلة والمحاصرة.
التقيت الحفيد كيغام، 36 عامًا، الذي كان يتوسط مجموعة من الزوار، يجيب على أسئلتهم عن الصور التي تقوده للحديث عن جده، وهو ما يقود إلى الحديث عن نفسه، قبل أن ينتهي الكلام دائمًا بالحديث عن غزّة. يقيم كيغام في فرنسا وهو صانع صورة، مدير فني، فنان تشكيلي، وأستاذ في الثقافة في البصرية وصناعة الصورة في الأزياء. تعيش أسرته في القاهرة، التي أصبحت مدينتهم بداعي الدراسة أولًا، فأبيه جاء إلى القاهرة ليدرس الطبّ، لكن حرب 1967 جعلته مقيمًا في “المحروسة” ولم يستطع العودة إلى فلسطين.
VICE عربية: سلام كيغام. بداية، ماذا يعني لك هذا المعرض لك على الصعيد الشخصي؟ كيغام جيغاليان: هذا المعرض تجربة خاصة وحساسة بالنسبة إلي، يمكن لي أن أشبهه بالعلاج الروحي، منذ أن عثرت على هذا الأرشيف، المخبئ في ثلاثة صناديق عند أبي، منذ أن وقعت يداي على أشرطة “النيجاتيف” والصور المهترئة بفعل الزمن، شعرت بطوفان من الأحاسيس، الأمر أشبه بمهمة “الأركيولوجي” – عالم الآثار – الذي يجد وثيقة تاريخيّة هامة، لم يكن واضحًا ما أهميته فهي مجرد أشرطة نيجاتيف بحالة سيئة نتيجة عقود من النسيان، إضافة إلى أوراق وصور متفرقة مهترئة، لكني علمت بأنها شيء مهم إضافة إلى فضولي لمعرفة جدي الذي ورثته عنه عشق الصورة. هذا ما دفعني لمواصلة “الحفر” وما تبين لاحقًا – كما ترين هنا – أن صور جدي “كيغام” ليست بعيدة عن الكشف التاريخي، فهي توثيق لغزة المغايرة تمامًا للصورة النمطية السائدة عنها حاليًا.
**ما هي الصعوبات التي واجهتك في طريق إجراء أول معرض فني لجدك بعد ما يزيد عن 40 عامًا على وفاته؟
**عثرت على الصندوق في عام 2018، ومن وقتها وأنا أواجه تحديات كثيرة الحقيقة، أولها أنه بالرغم من تخصصي الأكاديمي في مجال الفنون البصرية والتشكيلية ونظريات الصورة، إلا أنه لا خبرة لدي في عالم الترميم، والحالة الصعبة التي وجدت عليها شرائط النيجاتيف والصور، دفعتني لتعلم أشياء جديدة بدءًا من كيفية حمل الصور، ونقلها إلى بيئة أفضل والحفاظ عليها، مرورًا بالصراع بين رغبتي في توثيق سيرة جدي بطريقة أكاديمية وبين الجانب الفني الذي ظل يصرّ على خروجه من الأطر النظرية وتقديمه للناس، خاصة أن مع رحلة الترميم والحصول على صور بـ”كوالتي” جيدة تبين أننا نتحدث عن تاريخ غزة منذ الأربعينيات وحتى السبعينيات من القرن الماضي. من أشد الصعوبات التي تعترضني اليوم، هو محاولة ضم أرشيف جدي المتواجد في غزة إلى أرشيفه الموجود في القاهرة، وأتمنى أن تسعفني الأيام بذلك قريبًا.
كيف بدأت علاقتك مع جدك؟ لم أعرف جدي في حياتي، فهو ظل في غزة وتوفي فيها مطلع الثمانينيات، لكن ما دفعني إلى معرفته فعلًا، إضافة إلى مشاركتي له عشقه للفنون البصرية، هو رد فعل الغزيين ممن عرفتهم سواء في القاهرة أو باريس حيث أقيم حاليًا، عندما يعرفون أني حفيده. طوفان من الذكريات المختلطة بالدموع بالمحبة، حتى بشيء من الوفاء جميع ذلك دفعني للبحث عن هوية جدي، وتساءلت حينها، من هو “كيغام” صاحب أول وأقدم أستوديو تصوير في غزة؟ لماذا يحدث ذكر اسمه هذا التأثير لدى ذاكرة الغزيين ممن تتجاوز أعمارهم الخمسين عامًا؟ أو الذين عاصروه عمومًا. وقتها أبي لم يذكر شيئًا عن هذه الصناديق الثلاثة، لأنه ببساطة كان قد نسيها حتى وجدناها عام 2018، وعندها تغيرت حياتي كثيرًا، بت مطلعًا على تاريخ عائلتي، على شخصية جدي، وأعطتني فكرة أعمق عن هويتي، والأهم من ذلك هو رد الاعتبار لغزة التي تستحق أن تروى حكايتها بشكل مغاير.
**ما هي الأشياء التي اكتشفتها عن جدك من خلال الصور؟
**الصور قادتني إلى أسئلة عن جدي، وليس عن إجابات في الحقيقة، أنظر إلى الصور وأسأل: كيف لمهاجر أرمني، أن يقرر أن يستقر في غزّة عوضًا عن القدس حيث للأرمن حيًا كاملًا هناك؟ وكيف لرجل مثله بالكاد يتكلم العربية، أن يكتسب ثقة الناس ومحبتهم بهذا الشكل؟ وكيف قرر أن تصبح غزة مدينته؟ وثقافته وهويته؟ جدي مثلاً لم يدخل أحدًا من أبناءه مدارس أجنبية، ادخلهم مدارس عربية تعلم الدين الإسلامي والقرآن الكريم، وهو المسيحي لم يجد غضاضة بأن يذبح العقيقة عند ولادة أولاده تقليدًا لطقس الإسلامي في تكريم المولود. جدي بما تبوح به الصور، أحب غزة وأهلها وأنتمى لها ولهم، ووثق بكاميراته تفاصيل حياتهم داخل الاستديو وخارجه.
كنت قد أشرت سابقًا إلى أن أباك نسي موضوع الصناديق الثلاثة التي تحوي أرث جدك؟ هل نسي أم أنه تجنب فتح صناديق الماضي؟ أستطيع أن أقيمّ هذا النسيان بأنه شيء من “التروما.” عائلتي تتجنب هذا النوع من الذكريات، الموضوع ليس بسيطًا بالنسبة لأبي الأرمني الذي يحمل حتى يومنا هذا وثيقة سفر فلسطينية خاصة بقطاع غزة. جدي “كيغام” نفسه كان الناجين من مذابح السلطنة العثمانية، فوفقُا لمرويات العائلة فقد جرى تهريب جدي متنكرًا بثياب فتاة، ذلك أنه أشيع في تلك الفترة عن قتل الفتيان الذكور على يد العسكر العثمانيين، في مطلع شبابه قرر أن يذهب إلى غزة ويفتتح أستوديو تصوير هناك، بعد أن تدرب على المهنة على يد أرمني آخر من مصوري القدس.
قرر أن تكون غزة مدينته، أحبها وانتمى إليها، ووثق بكاميراته النكبة، ثم النكسة، وخيام اللاجئين، وجميع المآسي التي ذاقها أهلها. ثمة ذكريات مريرة مرتبطة بغزة، فبعد النكسة كانت جدتي في القاهرة لزيارة أبي وعمتي وعمي الذين جاؤوا هنا للدراسة، ولم يستطيعوا رؤية جدي لمدة ثلاث سنوات، وبعدها كانت الزيارات متقطعة وقليلة، تكرار سيناريو الشتات شيء مؤلم. إضافة إلى ذلك، فإن أبي تعرض لمضايقات دفعته إلى البكاء لدى عودته إلى مصر من معبر رفح في مطلع الثمانينيات، فقد تعرض للتنمّر من جندي إسرائيلي، ما دفعه إلى أن يقسم بأن لا يعود إلى غزة ثانية، وهو ما كان، ويبدو أنه لم يعد إليها وجدانيًا بصورة علنية وربما ترجم ذلك نفسه بعدم تذكر الصناديق تلك على الإطلاق.
هل تعلّقت عاطفيًا بالصور؟ بالتأكيد. استطعت أن أفرز ما يزيد عن ألف صورة من الصور التي التقطها جدي، وكنت أصحو يوميًا في السادسة صباحًا، وأبدأ في تأملها، شيء من الحنين يربطني بها، شيء من الإعجاب، شيء من الدهشة، مشاعر مختلطة ما جعل عملية اختيار الصور التي سيشملها المعرض أمر صعب ومعقد.
**ما هي ردود الفعل على المعرض في القاهرة؟
**لطالما كات غزة مثيرة للفضول، بالنسبة للعرب والأجانب، بالأخص الأجانب – ومن بينهم عاملون في البعثات الدبلوماسية في مصر- الذين تلوح على ملامحهم دهشة واستغراب، وكأنهم يسألون هل هذه حقًا غزة. لكن، أيضًا أود التنويه إلى ردود الأفعال على الصور التي يتم تناقلها عن المعرض على وسائل التواصل الاجتماعي، فبفضل ذلك وجد كثير من الغزيين صورهم وصور أقارب لهم، وأرسلوا لي رسائل تتحدث عن مناسبة هذه الصور، والشخصيات وأسمائهم، شيء أشبه بلم الشمل.
هل سيقف المعرض عند محطة القاهرة؟ القاهرة هي البداية فقط، فقد تلقيت عدة دعوات لإجراء المعرض في عدد من العواصم في العالم، وأنا أدرسها لأقرر المحطات المقبلة، كما أنني أعكف على جمع الأرشيف بطريقة فني، عن حكاية الصور بعيدًا عن الروح الأكاديمية، وأتمنى أن أنجزه في أسرع وقت ممكن.
**ما هي أقرب الصور إلى قلبك؟
**تعمدت أن أزيل التواريخ من كل الصور الموجودة، لم أرغب أن ترتبط الصور بالسنوات، أريد أن أقدم غزة مجردة من الزمن، وهذه الصورة الأقرب إلى قلبي – يشير إلى صورة بالأبيض والأوسط لشابين من الخلف يبدوان عاشقان يتمشيان على شاطئ البحر.
**لماذا؟
**(يصمت قليلاً) هذا ظل جدي على الرمال، وهذه عمتي تضع يدها كتف أبي وتحمل بيدها الأخرى حذائها، ويمشيان على مهل، بسلام، بمرح بأقدام حافية يداعبها الموج على شاطئ غزة.
مزيد من صور معرض “مصوّر غزة كيغام: فتح الصندوق.”