صور وتساؤلات عن الهوية البصرية وثنائية الذكورة والأنوثة

25768ismail0038 (1)

التقيت أحمد عمر للمرة الأولى في حفل موسيقي هادئ في القاهرة. عمر – كما سأعرف فيما بعد – فنان بصري سوداني-نرويجي متعدد التعابير التشكيلية. استوقفني مظهره عن بعد، ابتسامته الواسعة وطربه وانفعاله الظاهران بالموسيقى. التقت نظراتنا لنتفاجأ بأننا نرتدي أقراطاً متشابهه: أقراط “القمر بوبا” الذهبية ذات الشكل الهلالي، ليبدأ حديث شيق عن وَلَعِنا المشترك بجمال هذه الحليّ، وحضورها الذي لا يضاهى بريقاً و جمالاً.

تُصنع أقراط “القمر بوبا” من ألواح ذهبية دائرية كبيرة مفرغة على شكل هلالي متصل. تُنقش على ذلك الهلال نقوش هندسية مبسطة، أو زوج من الطيور التي تتغزل ببعضها من فوق الأغصان. يتوّج من يرتدي أقراط “القمر بوبا” بحضور بصري جريء فاتن مميز وهادئ في نفس الوقت، يصعب تفادي أثره على النفس قبل الأعين. بحسب ما قرأت، “القمر بوبا” تعني ضوء القمر في اللغة النوبية القديمة. يشع ذلك القمر ضياءه في مناطق النوبة في مصر وشمال السودان، حيث تتحلّى النساء يافعات و كباراً بتلك الأقراط، كما تعتبر جزءًا لا يتجزأ من جدلة العروس، وهي حلية الرأس التقليدية عند العديد من قبائل وسط وشمال السودان. 

Videos by VICE

135768ismail0038.jpg
أحمد عمر – جميع الصور: اسماعيل ثابت.

أحمد عمر هو فنان بصري متعدد التعابير التشكيلية من مواليد ١٩٨٨. يستلهم عمر أعماله من ذكريات نشأته المحافظة بين السودان ومكّة المكرّمة، ويستخدم واقع تجربته الشخصية لمناقشة الضغوط الاجتماعية التي تهدف لإسكات كل من يوصم بالاختلاف، مسلّطًا الضوء على تداعيات عدمُ رضوخه لقيود الأعراف والنظم الاجتماعية والثقافية. تتحدّى اختيارات عمر في هويته البصرية، سواء في الملابس أو الخامات أو الحليّ، وحتى في الزينة، القواعد الجندرية الصارمة للجمال الشكلي في ثقافة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. تفرّ من الحدود المألوفة وغير المفهومة، إلى مساحة أكثر رحابة ومرونة وخفّة. يستخدم عمر كلّ مكونات الجمال الشكلي بجرأة تنتصر للبهجة، وتحتفي بالجسم البشري بكل الطرق الممكنة. 

55768ismail0041.jpg

دفعتني هوية عمر البصرية الجريئة إلى تساؤلات عدّة عن الجماليات الشكلية، وعلاقاتها المتشابكة بالأدوار الجندرية، وبخاصة في المجتمعات التي لا تزال محصورة داخلياً في حلقات مفرغة من الأحادية الفكرية تجاه الهوية الجمالية البصرية، وثنائية الذكورة والأنوثة.

التصنيف الجندري لمفاهيم الجمال والهوية البصرية يبدو على درجة من الارتباك في مجتمعات الشرق الأوسط العربية والإفريقية. فبالرغم من الجمود الشديد فيما يتعلّق بالأدوار الجندرية، وتأثيرها على الاختيارات المظهرية، تبدو بعض القطع الأساسية في الأزياء التقليدية الشرقية على قدر لافت من السيولة الجندرية، ربما بشكل يناقض هذا الجمود الفكري نفسه. 

45768ismail0037.jpg

لنأخذ الغترة على سبيل المثال، فهي بالأساس غطاء للرأس، يشبه في المبدأ والتصميم شرشف الرأس النسائي. الثوب الخليجي مثال آخر، فهو قطعة واحدة تغطي الجسد كاملًا، وتشبه الثوب النسائي في انسيابيته وخطوطه المغلفة للجسد. مع ذلك، ولسبب ما تصنّف، الغترة والثوب الخليجي كقطع “ذكورية”. على أيّ أساس؟ ما المحددات التي يستند عليها التصنيف الجندري لتلك القطع؟ لا أحد يعلم على وجه الدقة. ما الفرق الجوهري أو الوظيفي بينها وبين نظائرها المخصصة للإناث؟ في الواقع لا فرق على الإطلاق.

145768ismail00399.jpg

في الموضة المعاصرة، وبعيدًا عن الأزياء الشعبية التقليدية، تبدو المجتمعات العربية أكثر تقبلًا لفكرة السيولة الجندرية في معايير الجمال والهوية البصرية فقط حين ترتدي النساء زيّا يصنّف في العرف السائد بوصفه “ذكوريًا”. ظهر هذا بقوة مع انتشار الموضة الغربية في المجتمعات العربية، مع دخول قطع من الملابس تتسم بالبساطة والعملية، وتناسب الإيقاع السريع للحياة المعاصرة. مع ذلك فإن تلك المرونة لا تسير في الاتجاه المعاكس أبدًا. فكّر في امرأة عربية معاصرة ترتدي الجينز أو السويت شيرت أو الحذاء الرياضي (وهي قطع تحمل طابعًا ذكوريًا في التعاريف الجندرية العربية)، ثم فكّر في رجل عربي معاصر يرتدي تنوّرة أو فستان أو حذاء ذا كعب عالٍ. بالطبع لا مجال للمقارنة.

25768ismail0041.jpg

حتى القطع المحايدة جندريًا – القمصان مثلًا – تخضع لطبقة أخرى من التمييز الجندري، تتعلّق بالأقمشة والألوان والنقوش التي تصنّف في المجتمعات الشرقية والعربية كـ “أنثوية” أو “ذكورية”، ومجددًا يظهر التساهل مع ارتداء النساء للقطع ذات الطابع الذكوري وليس العكس. فكّر في رجل يرتدي قميصًا ورديًا من الشيفون المطرّز بالأزهار مثلًا.

85768ismail0041.jpg

هل المسألة هنا مسألة اختيارات وظيفية وعملية أكثر ملاءمة لطبيعة الحياة المعاصرة؟ أم أن هناك بعد آخر، يطوي احترامًا راسخًا ومتجذّرًا لكل ما هو مذكّر، واحتقار خفي لكل ما هو مؤنث، حتى أنه يتساهل مع الحدود الجندرية الصارمة ويسمح بقلب الآية، طالما أنها في النهاية ستنقلب ذكرًا؟ 

تستمر التساؤلات حين نتأمل في اختيارات الزينة والحليّ، والتصوّرات الجندرية التي تصاحب تلك الاختيارات – أو بالأحرى تقيّدها. في النهاية، يتراجع هنا الجانب العملي أو الوظيفي من عملية إخفاء الجسد أو حمايته، أو إبراز مفاتنه الجنسية أو مداراتها، ليفسح المجال للبحث عن الجمال في التفاصيل الصغيرة، وربما إبراز المكانة المادية أو الاجتماعية: “هذا أنا، وهذا هو تعريفي للجمال، وتلك هي قدرتي على اقتناء هذا الجمال” – تقول اختياراتنا في الحليّ والزينة. 

115768ismail0040.jpg

مجددًا، تبدو القواعد الجندرية الشرقية والعربية هنا صارمة، وفي الوقت نفسه عشوائية تمامًا. الخواتم على سبيل المثال قطعة لاجندرية، تمامًا كالأساور المصنوعة من الجلود والأحجار، ربما السلاسل أيضًا، لكن لسبب ما، تتجاوز الأقراط خطًا أحمر من نوع ما، فتصنّف كقطعة أنثوية بالأساس، والأمر نفسه ينطبق على الخلاخيل.

ترى هل ستظل الهوية البصرية الجمالية محكومة جندرياً في مجتمعات بعينها وموحدة في مجتمعات أخرى؟ هل ستظل المجتمعات المحكومة جندرياً محصورة في تلك الأحادية الفكرية التي في كينونتها الشكلية تنفي الحكم الجندري بشكل غير مباشر؟ وهل سيرتقي التعبير البصري الجمالي في مجتمعات بعينها ليصبح لغة مقروئة، سلسة، مقبولة ومفسرة بلا قيود؟

لا يسعني إلا التساؤل، ولا يسعني إلا أن أبدي إمتناني إلى القمر بوبا، وإلى، أحمد عمر.