في كتابها “Men explain things to me” تروي الكاتبة الأمريكية ريبيكا سولنِت أنها أثناء تواجدها في إحدى الحفلات تحدث معها أحد الأثرياء. وخلال كلامها عن أحد الكتب الصادرة حديثــًا، قاطعها الرجل وقال: هل سمعتِ عن الكتاب المهم جدًا الذي صدر هذا العام؟
الطريف في هذه المحادثة أن الرجل العارف كان يتحدث عن نفس الكتاب الذي ذكرته ريبيكا منذ ثوانٍ، والأطرف أن هذا الكتاب من تأليفها. لكنه بالطبع يعرف أكثر. بُهت الرجل عندما عرف مَنْ مؤلفة الكتاب، وهنا تقول ريبيكا إن الرجل غالبًا لم يقرأ الكتاب لكنه قرأ ملخصًا عنه في صحيفة نيويورك تايمز. ورغم جهله الواضح، صمت الرجل للحظات من الحرج، لكنه عاد واستكمل حديثه ورحل الحرج إلى غير رجعة.
Videos by VICE
ذلك الموقف يلخص لنا مصطلح الـ Mansplaining، والذي تعود قصته لعام ٢٠٠٨، عندما كتبت سولنِت مقالًا بنفس عنوان الكتاب المذكور أعلاه. ويبدو -حينها- أن حديث ريبيكا عن موقفها مع الرجل نكأ جُرحًا غائرًا عند نساءٍ كثيرات عانين من سلطة الرجل المعرفية فوق المرأة، فانتشر المصطلح الذي يعني أن الرجل يفسر أو يشرح، حيث اُستبدل مقطع Ex من كلمة Explaining، ووُضع مكانه كلمة Man. والرجل هنا يشرح أشياءً لا تحتاج للشرح أو التوضيح.
ورغم حداثة المصطلح، إلا أن الممارسة تاريخها طويل فالرجال منذ بدء الشكل النظامي أو المؤسسي للعلاقة بين الرجل والمرأة، أصبح من البديهي أن يضعوا أنفسهم في مكانة أعلى؛ لأن التاريخ في صالحه. فالرجل مثلًا في القبائل البدائية والعصور القديمة مثل العصر الحجري “كان على استعداد أن يحمل على عاتقه الواجبات الاجتماعية للأبوة، بأن يصير مرشدًا ناصحًا، وأن يوفر الغذاء لأطفال المرأة أو النساء التي تربطه بها علاقة جنسية.” وتطور الأمر حتى صار طبيعيًا أن يعرف الرجل أكثر في السياسة والأدب والأكاديميا وشؤون المنزل والتربية حتى لو لم يختبر هذه الأمور مطلقـًا.
والسؤال المهم هنا: هل ندرك نحن الرجال أننا نشرح البديهيات للنساء عندما نتعامل معهن؟
ظني أن الإجابة تكمن في كلمة السُلطة، فقد اعتاد الرجال امتلاك السلطة على مدار التاريخ الإنساني، وبالتالي فإدراك ممارسة الـ Mansplaining ليس موجودًا لدى غالب الرجال، نحن نتعامل أنه حق طبيعي، مع الإحساس باستحقاقنا الدائم للأشياء، وأننا -الرجال- لا نقع في الخطأ، خاصة عندما نخبركِ عبارات مثل: انتي مش فاهمة .. هافهمك، انتي عارفة إن ..، انا هاقول لك الخلاصة.
مساحات الشك لا تتسلل إلى قلوبنا أو عقولنا، لأننا مُنحنا سلطة معرفية تحتقر المرأة، وتشكَّل تاريخها مع فلاسفة العصور القديمة، مثل أرسطو الذي كان يرى أن خضوع المرأة للرجل طبيعي، وبالتالي فحكمه لها لا يحتاج نقاش، لأن المرأة بطبيعتها لا تمتلك القدرة على السيادة. وامتدت السلطة مع رجال الدين والكهنوت، حتى وصلت للطفل الصغير الذي قد نراه يُوجِّه أمه أو أخته التي تكبره بسنوات.
إذًا، كيف يفكر ويشعر الرجل عندما يشرح ما هو بديهي؟
لدى كثير من الرجال إدراك أن النساء ناقصات عقل ودين، وأن كيدهن عظيم وأنهن مصدر الشرور، فقد كان منهن الساحرات اللاتي عُوقبن بالحرق، وأنهن جئن من ضلع أعوج. صور نمطية محفورة في أذهان الرجال، وامتدت للأدب العالمي الذي يعج باستعلاء الرجل ونظرته الدونية للمرأة، مثل مسرحية ترويض الشرسة/النمرة لشكسبير وبجماليون لجورج برنارد شو. وقصة إيلايزا، بائعة الورد في شوارع لندن، والتي تتحدث الإنجليزية بلكنة شعبية غير راقية (لكنة الكوكني)، يمكن أن تصبح أميرة أو دوقة على يد أستاذ علم اللغة والصوتيات، البروفيسور هيجنز.
والمثير للتفكير أن المرأة عندما وقفت أمام الرجل في الأدب، كانت نتيجة المواجهة ضد المرأة، فكان مصير أنا كارنينا الموت بعد أن ألقت بنفسها أمام القطار، ومدام بوفاري ماتت بعد أن تجرعت الزرنيخ، ونورا في مسرحية بيت الدمية رحلت دون رجعة .. لماذا؟ لأنهن قررن ماذا يريدن لأنفسهن في مجتمع يحكمه الرجل!
هذه الأعمال الفنية لعبت دورًا جوهريًا في تنميط العلاقة بين الرجل والمرأة، فهو يروضها كمدرب، أي أنه بشر، أما هي فليست بشرًا، بل أقل مكانة، غير عاقلة. وبالتالي فالجهل وقلة المعرفة ضمن طبائع الأنثى. نحن هنا نتحدث عن سردية تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، ويتم التعامل معها مثل بديهية الشمس التي تأتي من الشرق وترحل من الغرب.
لذلك لن يكون غريبًا أن نجد جرائم قتل النساء متكررة وعادية، لأن المرأة حاولت الوقوف في وجه سلطة الرجل المتغطرس. وقد لاحظنا هذا العام تكرار جرائم القتل التي ارتكبها رجال في حق النساء، فكثير من هؤلاء الرجال صاروا واقفين على أرض مهزوزة، بعد أن كانت مستقرة لقرون.
تقول سولنِت في كتابها إن “القتل هو النسخة المتطرفة من السُلطوية، حيث يرى القاتل أنه يمتلك حق القرار إن كنتِ ستعيشين أو تموتين، الوسيلة الأعتى للتحكم في شخص ما.” وتفسر سولنِت أن الرغبة في السيطرة ناتجة عن غضب سببه أن طاعة الأفراد للمستبدين – وهنا نقصد بالأفراد النساء- ليست كافية أو مُرضية للمستبد أو القاهر.
ولعل هذه السيطرة تتجلى في مواقف يومية بسيطة، لعل معظمنا شاهدناها في حياتنا. فمن منا لم يسمع رجل البيت يوبخ ست البيت لأنها لا تعرف كيف تُربي أولادها، وأنه لو كان موجودًا في البيت لعلّمّها كيف تكون التربية!
هل أمارس الـ Mansplaining؟
في مواقف عديدة أجد نفسي أتحدث بهذه الطريقة، أنني أعرف أكثر من زميلتي في العمل أو صديقتي أو المرأة التي أحب، دون وعي أنني أمارس الـ Mansplaining. وفي أكثر من مرة أتوقف وأسأل نفسي: هل كان موقفي طبيعيًا؟ هل كان من الطبيعي أن أقول لها ماذا عليها أن تفعل؟ ألا تعلم هي ماذا يمكنها فعله؟ هل طلبت استشارتي؟ ولماذا تطوعتُ من البداية؟
قد أظن أحيانًا أن المرأة التي أمامي تحتاج مساعدتي، وأننا الرجال دومًا ما نمتلك الحلول، فنشرح البديهيات لأننا نحب دور المنقذ وارتداء ثوب البطولة كثيرًا. وربما نريد أن يكون كل شيء مكتملًا ومثاليـًا، والمرأة -في نظرنا- لن تتمكن من الوصول لهذه المثالية. وحال وصلت لها، فالتشكيك في قدراتها يكون أسهل الطرق لدغدغة مشاعرها، وما حدث مؤخرًا مع رئيستي وزراء فنلندا ونيوزيلندا يدلل على هذا. فأثناء لقائهما في نيوزيلندا، سألهما أحد المراسلين في المؤتمر الصحفي: “هل اجتماعكما بسبب السن المتقارب والأشياء المشتركة -كنساء- أكثر من القضايا والعلاقات السياسية؟”
فإجابت رئيسة حكومة نيوزيلندا: “هل سأل أحد من قبل أن الاجتماع بين أوباما وجون كاي -رئيس حكومة سابق لنيوزيلندا- بسبب تقارب العمر؟ بالطبع هناك رجال أكثر في عالم السياسة، هذا واقع، لكن اجتماع امرأتين في لقاء سياسي لا علاقة له بنوعهما الاجتماعي/الجندر.”
الموقف المذكور وقع منذ أقل من شهر وعلى مرأى ومسمع الكثيرين، والسؤال جاء من شخص يُفترض أنه واعٍ ومثقف -كما نردد دومـًا- لكن الواقع يؤكد أن الأمر لا علاقة له بالوعي أو الثقافة، لكن متعلق بالسلطة المعرفية.
فالرجال -كثير منهم- يرون أنفسهم ظلًا لله على الأرض، يؤدون مهام الإله الذي وكلَّهم عنه لأدائها، وقد أوضحت الآراء في الطب النفسي أن الرجال لديهم نزعة قوية نحو السلطة، وأن ردود أفعالهم قد تصل حد البكاء والانهيار عندما يفقدون السلطة. وهناك بعض التحليلات التي ترى أن الذكر البشري هو حيوان تراتبي تشكلت معرفته خلال الهيراركية السلطوية في المؤسسات العسكرية والدينية، وبالتالي فطريقة تفكيرنا كرجال تتأسس اجتماعيًا وفق منطق رأسي، فكيف يمكننا أن نرى النساء في نفس مستوانا؟
وهنا لا يمكن أن نختم الحديث عن الرجل والسلطة والـ Mansplaining دون ذكر فريدريش نيتشه ورؤيته للمرأة في كتابه ماوراء الخير والشر: “لا شيء أغرب عن المرأة من الحقيقة، لا شيء تمقته وتعافه أكثر من الحقيقة، فنها الكبير هو الكذب وغرضها الأعلى هو الظاهر والجمال.. نحن الرجال، نتمنى ألا تستمر المرأة في فضح نفسها بالتنوير.. فلتخرس المرأة في الكنيسة.. فلتخرس المرأة في السياسة وأظن أن من ينادي بهن اليوم: فلتخرس المرأة حول المرأة، إنما هو صديق حقيقي للنساء.”
More
From VICE
-
Screenshot: Team Ninja -
Brian A. Jackson/Getty Images -
(Photo by Edward Berthelot/GC Images) -
Science Photo Library / Getty Images