عن مهرجان أيام فلسطين السينمائية، وأن تكون فلسطينياً، بدون أي خيارات

فلسطين

لمدة ثمانية ايّام من مهرجان ايّام فلسطين السينمائية تصبح فلسطين حرة. قد تكون مبالغة قليلًا لا أعني أن الإحتلال انتهى، ولكن خلال هذه الأيام تتشارك الضفة وغزة والقدس ومناطق الـ 48 بجدول عروض مشترك، عرض فيلم في غزة وآخر في نابلس وغيره بالناصرة، تصبح لهذه الفترة كل تلك الحدود والجدران التي بناها الاحتلال الإسرائيلي لتفريق الفلسطينيين جامعة لهم.

تلتقي ممثلين ومخرجين وفنانين فلسطينيين وعرب وأجانب من الخارج والداخل، فلسطينيون لم يسافروا بحياتهم خارج فلسطين، وآخرين يزورونها للمرة الأولى في حياتهم. تسمع نقاشات حادة بكل اللهجات الفلسطينية، وتشاهد أفلام عنا وُتشبهنا صنعها فلسطينيون لجمهور فلسطيني. للحظة قد تتخيل شكل فلسطين حرة، ولكن في تلك اللحظة نفسها تسمع همسات بين الجمهور بأن الجيش الإسرائيلي قد دخل رام الله الآن واعتقل عدة شباب. في فلسطين، الواقع دائماً حاضر، حتى عندما تحاول أن تقنع نفسك برفاهية أن تذهب لحضور فيلم هو أيضاً عن الاحتلال.

Videos by VICE

افتتاح واختتام مهرجان ايّام فلسطين السينمائية كان فلسطينياً، الأول فيلم” كما في السماء” للمخرج العبقري إيليا سليمان والنهاية كانت مع فيلم “مفك” لبسام الجرباوي. فيما تنوعت باقي العروض وجاءت من بلدان مختلفة بمشاركة أكثر من 60 فيلـماً دوليًا، عربيًا ومحليًا.

عرض الإفتتاح كان سريالياً والفرحة بوجود إيليا بين الجمهور جلب بعض الدفء كفيلمه. فيلم إيليا الذي فاز بجائزة الذكر الخاص وجائزة الاتحاد الدولي للنقاد لأفضل فيلم في مهرجان كان السينمائي، والذي سيمثل فلسطين في جوائز الأوسكار 2020، يحكي عن عبثية العالم وتناقضه بدون حكي.

الفيلم الذي يدور في ثلاث مدن، باريس ونيويورك والناصرة، جاء بلغة سينمائية بصرية ذكية ومدهشة ببساطتها وسخريتها. عالم مجنون نشاهده من خلال عيني إيليا الذي يراقب ما حوله بصمت. هو باختصار “تحفة سينمائية” كما وصفه الكاتب والروائي سليم البيك.

الجميل في المهرجان هذا العام كان التنوع الكبير في الأفلام وإن كانت فلسطين بطلتها الرئيسية. الأفلام القصيرة كانت بمعظمها جيدة جداً. فيلم “اجرين مارادونا” للمخرج الفلسطيني فراس خوري والذي استحق بجدارة جائزة المهرجان للفيلم القصير، تحدث عن فلسطين عام 1990 قبل توقيع اتفاق أوسلو للسلام، وتتغير للأبد. تدور أحداث الفيلم ضمن رحلة بحث طفلين عن “اجرين مارادونا” الملصق الأخير في ألبوم لاعبي منتخبات كأس العالم للحصول على أتاري مجاني. ويمثل الفيلم هوس جيل بأكمله في كرة القدم في مشاهد تم كتابتها بتمكن كبير وتمثيل مدهش. الفيلم بسيط وعذب والصورة رائعة.

أما “وقعت على عريضة” للمخرج الفلسطيني الدنماركي مهدي فليفل فيسجل مكالمة تلفونية بين المخرج وصديقه وشعوره بالندم بعد توقيعه على عريضة لمقاطعة فرقة “راديوهيد” بسبب زيارتهم لإسرائيل خوفاً من أي يتم منعه من زيارة فلسطين في المستقبل. الحديث الهاتفي الذي يجري بين صديقين عاشا بعيداً عن وطنهما الأصلي فلسطين، المخرج وصديقه فارس المحامي الفلسطيني الذي يعيش في إنجلترا يأتيك بكل الحجج لكل ما يعني أن تكون فلسطينياً وأن تكون خياراتك جميعها ليست ملكا لك.

المكالمة التي لا تزيد عن عشرة دقائق والتي تظهر خلالها بعض الصور المرتبطة بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يأتي حقيقياً عفوياً وكاملاً، فيلم قصير ولكنك تشعر أنه “حكى عن كل شي” عالم غير عادل تحكمه الرأسمالية وأنك كما يقول المحامي “a loser” يجعلك تشعر أن توقيعك على عريضة من عدمه قد لا يغير شيئاً من واقع شديد السواد.

من الدنمارك ننتقل إلى سوريا. الفيلم الوثائقي “إبراهيم لأجل غير مسمى” يلقي الضوء على القضية الفلسطينية من خلال حياة المخرجة الفلسطينية لينا العبد التي تعيش في سوريا تحاول تتبع آثار والدها ابراهيم العبد المختفي من أكثر من عشرين عاماً.

هل قتل، هل سُجن؟ هل قتله تنظيمه (كان والد المخرجة عضواً في منظمة أبو نضال، جماعة مسلحة فلسطينية منشقة عن حركة فتح) أم سيعود لحياتها فجأة؟ فقد الأب ومعنى الوطن وخيارات الحياة التي اختارها كل فرد من العائلة بسبب عدم وجود أب. أسئلة كثيرة تطرحها دينا عن خيارات والدها، هل كان بطلاً فلسطينياً ضحى بنفسه أم عميلاً تم قتله وإخفاء جثته؟

“التصالح مع غيابك غير حقيقي، الحل هو أن أطاردك بدلاً من أن أترك لغيابك أن يطاردني” تقول المخرجة وهي تحاول لملمة كل ما يمكن أن تحصل عليه من معلومات من أصدقائه وأهله لمعرفة ماذا حدث له. ماذا تعني فلسطين بالنسبة لهذه العائلة، تسأل لينا، وكيف كانت حياتهم ستتغير لو كان والدهم لا يزال حياً؟ هل كانوا سيبقون في سوريا مثلاً؟ أسئلة تبقى معلقة في الهواء.

“أنا ما بموت من أجل فلسطين، بموت علشانك، علشان أمي، علشان ابني بس مش علشان فلسطين،” يقول شقيق المخرجة، الذي اضطر أن يترك دراسته والعمل لاعالة عائلته ويعيش في برلين مع إبنه إبراهيم. معنى الوطن بالنسبة لعائلة هو سوريا، يأتي الجواب سريعاً وبدون الحاجة للكثير من التفكير. ولكن عندما تسأل لينا، إبراهيم الذي لا يزيد عمره عّن ثمانية سنوات، عن الوطن يأتي جوابه واثقاً وطبيعياً “الوطن.. فلسطين.”

فيلم الختام “مفك” يحكي في النهاية عن معاناة أسير محرر بعد 15 عاماً في الأسر الاسرائيلي، فيلم روائي طويل يأخذك إلى الصراع الذي يعيشه الأسرى المحررين ومحاولة التأقلم مع حياة كاملة استمرت بدونهم. المرة الأولى التي يتعامل بها مع شاشة الموبايل باللمس، أو يفتح حساباً بنكياً، أو ملفاً طبياً. كل شي تغير بالنسبة لزياد (الذي قام بدوره بشكل متقن الممثل زياد بكري) وهو لا يزال يعيش الصراع بين العمر الذي انقضى سجناً، وبين صورته لنفسه كشاب في أوائل العشرينات يعيش في مخيم ويحب كرة السلة.

محاولة التأقلم مع الحياة، كرهه للضوء، عدم القدرة على النوم، الصداع الذي لا يفارقه وعدم قدرته على التبول، والذي يخبره طبيبه بأنها مشكلة نفسية وليست جسدية، والخيالات التي تلاحقه لصورة صديقه الذي قتل أمامه برصاصة فيما كان زياد وأصدقاءه يشربون البيرة في سيارة إسرائيلية مسروقة. فيلم محبوك في بداياته ونهايته، ولكنه يصبح مسطحاً في المنتصف.

الفيلم الوثائقي “عباس 36” للمخرجتيين نضال رافع ومروة جبارة طيبي، فيتحدث عن عائلة تعيش في شارع عباس 36 في حيفا، في بناية امتلكها فلسطينيون قبل النكبة، وتروي المخرجة شعور العائلة بالذنب الذي لا يفارقهم كونهم يعيشون في منزل ليس لهم، وأن أهله الأصليين سيعودون له يوما ماً.

أسئلة الهوية، المنفى والوطن والعودة تتكرر في الفيلم، فيما تحاول نضال تتبع آثار عائلة أبو غيدا المالكة الأصلية للمنزل والتي تفرقت في العالم بعد نكبة عام 48. وفي حين أن فكرة الفيلم تتطرق لقضية مهمة جداً لم يتم الحديث عنها كثيراً في السينما فيما يتعلق بأملاك الغائبين الذين تم تهجيرهم من منازلهم بعد النكبة (غائبين اختارت اسرائيل تسميتهم، وهم في الواقع مُغيبين) إلا أن الفيلم جاء ضعيفاً مفتعلاً. وكان حضور دينا أبو غيدا التي تنتمي إلى العائلة التي هُجرت عائلتها من منزلها في حيفا باهتاً وسلبياً، وخاصة عندما حددت عاصمة فلسطين بأنها القدس الشرقية -وهو ما هدم فكرة الفيلم الذي يتحدث عن فلسطين التاريخية من أصله.

هذه الأفلام نجحت بجمع القليل عمّا يعنيه أن تكون فلسطينياً في “عالم ليس لنا،” لأقتبس عنوان فيلم مهدي فليفل السابق. سواء كنت فلسطينياً يعيش في المخيمات في سوريا أو رام الله، في برلين، أو حيفا، كل له قصته. فلسطين هي كل من أنت، سواء أردت ذلك أم لا.