فلترة المعارف واللجوء للعلاج النفسي.. أبرز ما تعلمته من 2022 

2022 Recap English copy

“لقد كان عامًا مليئًا بـ…”

تتوالى منشورات أصدقائنا على مواقع التواصل الاجتماعي، كل منهم يتحدث عن الحدث الأهم الذي شغل عامه وشكّله. كان عامًا مزدحمًا حقًّا على الجميع، أزمات اقتصادية عديدة، اندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا، جريمة اغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، والمندبة العجيبة لوفاة الملكة إليزابيث، والكثير من النضال النسوي في قضايا العنف ضد المرأة، وكأس عالم لكرة القدم في منتهى الغرابة والسيريالية، وصل فيه المغرب إلى نصف النهائي.

Videos by VICE

الأحداث العالمية كانت ثرية للغاية ومفاجئة، أغلبها مزعج وبعضها لطيف، لكن في حياتنا الشخصية تعددت الدروس الجديدة، والتي ستؤثر على قادم الأعوام. بالنسبة إليَّ كانت أبرز الخبرات ٢٠٢٢ كالآتي:

**اللجوء للعلاج النفسي ضرورة عاجلة
**مثل كثيرين لم يمر عليَّ عام الجائحة بسلام، خرجت منه وكأنني تلقيت علقة ساخنة، ورغم محاولتي للمقاومة واستعادة حياتي الطبيعية في ٢٠٢١، إلا أن الانهيار الحقيقي حدث في بداية السنة الحالية.

في فبراير الماضي كنت قد بلغت ذروة المعاناة.. إرهاق مستمر، وفقدان تركيز تام، عدم قدرة على فعل أي شيء باستثناء ألعاب الموبايل، تضييع الوقت والشعور بالذنب، لكنني لا أتوقف أبدًا عن تضييعه، وفترات نوم غير عادية تقل حتى ساعتين في اليوم، وتزيد حتى عشرين ساعة. كنت أؤجل خطوة العلاج النفسي لأنني لا أملك تكاليفه، لكن وصلت حياتي لمستوى حرج عندما عجزت عن العمل تمامًا رغم إفلاسي التام، فاضطررت للذهاب إلى مستشفى العباسية للصحة النفسية حيث شُخصت باضطراب الاكتئاب. لحسن الحظ كانت الرعاية التي تلقيتها جيدة جدًّا رغم مجانيتها.

كان هذا الدرس الأول والأهم لي في ٢٠٢٢، قد نهرب لفترة من متاعبنا النفسية لكنها بالتأكيد ستلحق بنا، لهذا يجب أن نعالجها قبل أن تتفاقم، ولا ننتظر توافر الظروف المثالية لبدء العلاج، لأنها لن تتوفر أبدًا. يجب أيضًا ألا نصغي لمن يحاول إخافتنا من الأدوية بأنها “تسبب الإدمان” وهي شائعة منتشرة جدًّا تحرم الناس من إسعاف أنفسهم. العلاج النفسي الدوائي يغير كيمياء المخ المضطربة ويعيدها لحالتها الطبيعية، ومن المذهل حقًّا كيف ينعكس هذا على شعورك بالحيوية والحياة، والقدرة على التواصل والإنجاز.

بعد شهور من العلاج الدوائي والمتابعة، وتغيير روتين يومي والسلوكيات غير الصحية، عدت لنفسي وحياتي، وعدت للعمل بكفاءة لا بأس بها، وبدأت أستعيد إحساسي بنفسي لأصلح ما خربه الاكتئاب في العامين الماضيين، ثم توقفت عن الأدوية في الوقت المناسب لي. شكرًا للطب النفسي والأدوية، وأتمنى عن نتوقف عن وصمهم، وأن نعتني بصحتنا النفسية مثل الجسدية وأكثر في الأعوام القادمة.

**الأنشطة الخارجية مهمة جدًّا
**للتعامل مع حالة الاكتئاب التي سجنتني بين أربعة جدران دون أي تواصل مع العالم الخارجي، كانت أولى تعليمات الطبيب هي أن أخرج من البيت ثلاث مرات أسبوعيًّا على الأقل لمدة نصف ساعة، حتى ولو لوحدي. فعلت هذا وواظبت على التمشية صباحًا مهما كنت غير قادرة، وكان لنور الشمس والهواء النقي مفعول السحر.

لقد أصبح كثيرون من أبناء جيلنا ضحايا لهذه العزلة المؤذية، التي تهدد بالاكتئاب أو تزيد من تأثيره، خصوصًا الأشخاص الذين يعملون من المنزل لساعات طويلة، وعندما ينتهون يتهربون من الخروج مع أصدقائهم، ويفرون من الأنشطة الاجتماعية مفضلين البقاء أمام شاشات نتفليكس. بالتأكيد هذه المنطقة المريحة comfort zone جميلة، لكن الأنشطة الخارجية مهمة جدًّا لتوازننا النفسي. تمشية صباحية قبل الزحام أو اشتراك في الجيم أو المكتبة يجبرك على الخروج أسبوعيًّا، كفيل بكسر شعورنا بالاحتجاز المستمر في البيت بكل سلبياته. اخرجوا باستمرار ولو وحدكم ولا تبقوا محبوسين طويلاً في فقاعتكم المريحة.

**فلترة المعارف.. ليس الجميع “بيست فريند”
**رغم أنني أصنف نفسي كإنسانة انطوائية تحب الانعزال والهدوء، فإنني أستمتع بحياة اجتماعية صاخبة وثرية، لدي أصدقاء أعزاء كثيرين، وشلة للمقهى، ومعارف افتراضيين، وزملاء عمل، وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي تجعل فتح هاتفي صباحًا أشبه بدخول سيرك صاخب كله أحداث ومناقشات و”صياح” على أي حدث أو تريند، بجانب ضرورات العمل الصحفي التي تقتضي متابعة الأخبار باستمرار.

أفضل ما حدث لي في ٢٠٢٢ هو أنني رحمت نفسي من هذا الصخب أخيرًا، بعدما أغلقت حساباتي على السوشيال ميديا لعدة أشهر حتى أستقر نفسيًّا. كانت تجربة مريحة للأعصاب وضرورية، ومنحتني صفاءً ذهنيًّا كنت بحاجة إليه للغاية. لقد جعلتنا كثرة وسائل الاتصال نتعامل بخفة مع كلمة “صديق” من أصدقاء فيسبوك، ودوائر تويتر، والمقربون على إنستغرام.. الخ، وأصبح الكل أصدقاء لهم حقوق في حياتنا حتى في أوقات عجزنا وتعبنا، بعكس ما يحدث في الصداقات الحقيقية العميقة التي تتفهم احتياجنا للمساحة، وتساندنا.

علمتني ٢٠٢٢ أن أفلتر “الصداقات السطحية” فلا يمكن أن يكون في حياتي ألف “بيست فريند”، أو أكون أنا البيست فريند لألف شخص، كلهم ينتظر أن أكون متاحة دائمًا ولا يتفهم مساحتي الخاصة، ويعاتبني إذا تغيبت. هكذا فلترت المعارف والزمالات والعلاقات الافتراضية، وكنت قاطعة في تحديد مسافة التعامل. بالتأكيد خسرت أشخاص لم يتقبلوا فكرة أني غير متاحة للتواصل، وبعضهم أشخاص أعزاء عليَّ، لكنني لم أندم بصراحة، فسلامتي النفسية فوق أي شيء، وهو أمر أتمنى أن يقدّره الجميع دون اهتمام بأي عواقب. خذوا مساحتكم النفسية بأي شكل تحتاجونه دون أي تردد.

انتبااااه: أجسامنا تخوننا في واحدة من حلقات مسلسل How I met your mother، يتحدث الأصدقاء عن أن بلوغهم الثلاثين جعل أجسادهم تتغير، وكثير من أنشطة العشرينيات العادية أصبحت مغامرة مكلفة جدًّا صحيًّا، فيتحداهم بارني أنه ما زال في عز شبابه وسيفعل كل هذه الأنشطة المتهورة، وتكون النتيجة أنه كاد يقتل نفسه، وأخيرًا يعترف أن الثلاثينيات مرحلة مختلفة تمامًا عن العشرينيات.

منذ بداية الثلاثينيات وأنا أشعر بتبدلات في صحتي، لكن ٢٠٢٢ منحتني تجربة تشبه ما حدث مع بارني. عندما جاءت صديقتي لتبيت عندي تركت لها فراشي وقضيت ليلتي في الصالة راقدة على الأرض.. شيء كان عاديًّا جدًّا في حياتي زمان، لكنني استيقظت في الصباح بصداع رهيب استمر لأكثر من ثلاثين ساعة رغم المسكنات، وبآلام ظهر رافقتني لأكثر من أسبوع. السهر الطويل يجعلني مثل الزومبي طوال اليوم، وأصبح من المستحيل أن “أَطَبَّق” مثلما كنت أفعل لأيام قديمًا، و”التطبيق” مصطلح مصري يصف ذلك الوضع عندما يتأخر بنا وقت النوم فنقرر ألا ننام، وننهض لعملنا صباحًا بنشاط، ثم نعود لننام في موعدنا الطبيعي ليلاً لنضبط مواعيد نومنا.

في الجامعة كنت أقضي اليوم كله متغذية بكيس إندومي واحد وأتحرك بمنتهى الحيوية، الآن أكاد أفقد الوعي لو تأخرت عن موعد الغداء ساعة. الطعام الجاهز الذي كان تجربة رفاهية أصبح الآن إصابة تسمم شبه مؤكدة. في عام ٢٠٢٢ وجدت أن كل نصائح الأمهات التي كنت أسخر منها أصبحت أفعلها وأكثر، لتجنب “بهدلة” بلا داعي، لأن أجسادنا تبدأ بخيانتنا في الثلاثينات ولا بد من صيانتها بعناية.

**فلنأخذ استراحة عاطفية
**في نفس اليوم الذي بدأت فيه العلاج النفسي، عدت إلى بيتي لأنفصل عن شريكي العاطفي. كان انفصالاً هادئًا مهذبًا لحسن الحظ، لكن الأسباب الحمقاء التي قادتنا إليه جعلتني راغبة في استراحة عاطفية طويلة، وقررت أن تكون ٢٠٢٢ سنة العزوبية بلا منازع.

رغم هذا مررت بمرحلة إعجاب “كراش” نحو شخص ما، تقول كل العلامات والدلائل أن لا مستقبل لنا، والتوافق بيننا يقف عند خط الصداقة ولا يمكن أن يتعداه، وهكذا، للمرة الأولى في حياتي، انتزعت نفسي من مشاعر الإعجاب هذه بمنتهى العقلانية خلال أسبوعين أو ثلاثة، لأعود للاستمتاع بالعزوبية دون منغصات. منحتني هذه الإستراحة العاطفية الهدوء والسلام، وصفّت أفكاري، وجعلتني أشد تمسكًا باحتياجاتي التي أبحث عنها في العلاقات، ولن أخاطر بها أبدًا.

انتهى عهد الاستسلام الأعمى للمشاعر و”امشي ورا قلبك” لتنتهي الرحلة بمقلب عاطفي، انتهى عهد التغاضي عن اختلافات الطرف الآخر التي لا يمكن التغاضي عنها، وإغراقه بالمشاعر على أمل أن يتغير ويحبني بالطريقة التي أريدها واحتاجها، انتهى عهد I can fix him، وانتهى عهد أن أقبل بأقل مما أستحق. لم أعد مهتمة بالعلاقات العاطفية مثل كنت سابقًا، كل اهتمامي الآن منصب على أن أحيا بهدوء وسلام وانسجامٍ مع العالم، فلو وجدت شخصًا ينضم إليَّ في تلك الرحلة اللطيفة ويكون إضافةً مريحة ومبهجة لها، خير، ولو لم أجد، فحياتي مستقرة وثرية كما هي، وأستمتع بها كثيرًا.

**الدفاع خير وسيلة للهجوم.. أحيانًا
**خلال متابعتنا لكأس العالم، كنت وأغلب أصدقائي نشجع منتخب المغرب، مع هذا كان البعض ينتقد أدائه بسبب لجوئهم للتركيز على الدفاع في بعض المباريات، وقد جعلني هذا أتأمل ثقافة “الهجوم خير وسيلة للدفاع” التي ترسخت في وعينا وجعلتنا نرى فكرة الدفاع فقط ضعفًا وقلة حيلة، وأننا لا نُعد ناجحين ومؤثرين ما لم نهاجم باستمرار. لقد غيرت وجهة نظري في هذا، وبدأت أحترم فكرة الدفاع في حد ذاتها، وأنه لا بأس أن نقضي فتراتٍ من حياتنا نحاول التماسك وإبقاء عالمنا سليمًا ومتزنًا في وجه التغيرات الحادة والأحداث الكبرى التي تعصف بنا، دون خطوات هجومية كبيرة وإنجازات ونجاحات وكؤوس تميّز.

لقد أثرت علينا ثقافة العمل والإنجازات والتأثير والاحتفاء والاحتفاء بالنجاح فقط، وعلى السوشيال ميديا الكل يشارك نجاحاته فقط، فنجد أننا محاطين بالناجحين والمتميزين والمتحققين في كل اتجاه، ما يجعلنا نسأل أنفسنا عن لحظات التوقف وهبوط المنحنى، ونتهم أنفسنا بالفشل والثبات في مكاننا دون خطوة إلى الأمام.

تعلمت في ٢٠٢٢ أن لا بأس من الثبات في مكاني، لا بأس حتى في التراجع إلى الوراء، لا بأس في أي تعثر، وعلينا أن نرحم أنفسنا من هوس الكمالية والتوقعات العالية. فلنأخذ ما نحتاج إليه من وقت لنتماسك ونتعافى ونبقي عالمنا قائمًا، ونشحن طاقتنا، ولا داعي للعجلة والضغط على أنفسنا، وهذا يعني أنه حين تأتي لحظة الهجوم سنعرف تماماً كيف نرد.