قل لهم كيف تنطق القاف، يقولون لك من أنت

IMG-20221208-WA0013

خلال نشأتي في مدينة اللاذقية على الساحل السوري اعتدت نطق القاف مشبعة كما يقتضي النطق السليم للغة العربية ومخارج حروفها. انتبهت حينها لاختلاف نطق ذلك الحرف بين أصدقائي في المدرسة الابتدائية، فتراوح نطقه بين التشديد المثقل عند البعض والتحويل إلى همزة عند البعض الآخر. 

لم أعر الكثير من الاهتمام لذلك، لأنني لم أدرك حينها ما يكشفه نطق القاف عن الشخص من أمور عزلني والدي عنها في ذلك السن، ثم مع انتقالي إلى المدرسة الإعدادية، كان ذوي الخلفيات الطائفية من زملائي قد نضجوا ليصبحوا نسخ مصغرة من أهاليهم وأمثلة حية عن الطائفية المتوارثة، بدأوا حينها مبادرتي  بسؤال “أنت شو؟” في محاولات للاستفسار عن طائفتي انتهت باعتقادهم  شبه الجازم  -عند رفضي للإجابة-  بانتمائي للطائفة العلوية بحكم نطقي للقاف قافاً.

Videos by VICE

بدأت حينها أن تغلبني حالة من الوعي المجتمعي المنهك، عند استيعابي لقدرة القاف على تحفيز نظرة الناس إلي، فمن الطريقة التي ينطق بها أحدهم القاف، من الممكن تأويل الكثير عنه ابتداءً من طائفته انتقالاً إلى الشريحة المجتمعية التي يحتمل انتماؤه إليها.  

عند انتقالي مع عائلتي إلى صنعاء في أوائل مراهقتي، ظننت أن اللعنة ستكسر وأن القاف حينها ستتخذ موضعها كحرف لا أكثر، وأن نطقي لها – ولو كان مختلفًا- لن يقحمني في متاهات التصنيفات النمطية. ولكن، بحكم التاريخ الانفصالي لليمن وانقسامها سابقا لدولتين – شمالية وجنوبية- فهنالك أيضًا وجدت الناس يعتمدون اللهجة لتحديد ما  قدا ينسبونه إليك. استطاعت القاف الاحتفاظ في اللهجة اليمنية بخاصيتها الفاصلة بين الخلفيات المجتمعية والكاشفة لها، اذ يستدل عمن يحولها عند النطق إلى جيم غير معطشة أنه شمالي، في حين ينطقها معظم أهل الجنوب ومحافظات الوسط قافا سليمة.

ولأن اللهجة اليمنية لم تكن لهجتي الأصل، تشكلت قافي عبر سنين إقامتي في صنعاء لتتخذ وجوها عدة حتى غدت قافًا منسوخة عمن أخاطبه، فإن خاطبت شماليًا لفظتها جيمًا غير معطشة وإذا خاطبت جنوبيًا نطقتها قافا مشبعة. فتخلصت بذلك من شبح القاف، أو هكذا ظننت.

قبل أربع سنوات، غادرت صنعاء متجها إلى بيروت، حيث أخذ المجتمع حصته من التصنيفات الملصقة بناطق القاف وخلفيته الطائفية. خلال سنيني الأولى  في لبنان، أقمت في سكن طلابي يملأه خليط من الجنسيات واللهجات العربية المختلفة. بقيت قافي على خاصيتها الناسخة، إذا استمريت في تحويل نطقها تبعا للهجة من أخاطبه. لم أقم بذلك عن وعي، بل كان تقلب نطقي للقاف آنذاك عادة ترسخت فِي ولم أدقق في مسبباتها. 

مع استمرار إقامتي في بيروت، ولأن قافي كانت متميزة بطابع سوري لا يخدمني في المجتمع اللبناني، أخذت قافي المنطوقة بالتحول تدريجيًا إلى همزة حتى بت أجد نطقها سليمة ثقيل وغريب. وهكذا، انعدمت قافي الأصلية من كلامي، وانحصر نطقي لها في مكالماتي مع أهلي وأصدقائي.

كثيرون من ناطقو القاف أخضعوا لهجتهم للتغيير في سبيل الاندماج والتهرب من الأحكام التي قد تؤثر على تقدمهم المهني وانخراطهم في الكتلة المجتمعية

دفعني اختفاء قافي الأصلية إلى البحث في مسببات ذلك، ومراجعة قراراتي فيما يخص التعديلات التي أجريتها للهجتي. عندها، واجهت العار الذاتي المصحوب بفكرة تغيير نفسي للتماهي مع الكتل المجتمعية والتهرب من أحكام الآخرين السطحية المسبقة. وضح لي ذلك أن استعادة عصمة نطقي للقاف ضرورة أساسية لكي لا يستنبط وعيي بأن لا خلل يذكر في تشكيل ذاتي لإرضاء الآخر. 

لم أعد أتهرب من نطق القاف ما أن خرجت مني طبيعية، وتصالحت مع أحكام الآخر باعتبارها ملكية تخصه وليس لي فيها غرض. وجدت الكثيرين في بيروت يستغربون من نطقي للقاف مثقلة منذ قراري هذا؛ منهم من كان استغرابه مباشر وأفصح عنه عبر سؤالي عن الطائفة التي أنتمي إليها -كأحد ملاك العقارات الذي تواصلت معه لاستئجار شقة- بينما اكتفى آخرون بالتعبير عن استغرابهم بفكاهة يرغمون أنفسهم إليها في محاولة لإخفاء نظرتهم الحاكمة- كأن يعيدوا ترديد نطقي للقاف في كلمة معينة يتبعها بضحكة ودودة مبتذلة.

لم تهم الطريقة التي عبروا بها عن استهجانهم، فالحقيقة هي أن النوعين كلاهما بحاجة للنظر في النطق السليم للغة أولاً، ثم مفهوم الحدود واحترامه ثانياً؛ لأنهم كما أنا، غير مستعدين لإجابة أسئلة شخصية يمنعني ذوقي من سؤالهم إياها.

لا تكمن المشكلة الكبرى في هذه المواقف الفردية التي قد لا تبطن العدائية، بل في الثقافة المجتمعية التي تحفز هذه التفاعلات الإقصائية. في الواقع، كثيرون من ناطقو القاف أمثالي سبق وأن أخضعوا لهجتهم للتغيير في سبيل الاندماج والتهرب من الأحكام التي قد تؤثر على تقدمهم المهني وانخراطهم في الكتلة المجتمعية. في نقاش وقع مؤخراً، سألت أحد أصدقائي عن رأيه بإحدى حلقات بودكاست بدأت بنشره، وكان رده “أعجبني. لكن، ألا تجد أنه من الأفضل ألا تنطق القاف إذا أردت اجتذاب كم أكبر من المستمعين؟؟) أجبته: لا. بالطبع لا أظن ذلك بل وأعتقد أنني سأكون بحال أفضل إن تجنبت هذا النوع من المستمعين، فهم بالتأكيد ليسوا جمهوري المستهدف.

خضنا بعد ذلك جدال طويل سيطر عليه الانفعال والغضب. من منظور واقعي، لم يكن صديقي بعيداً عن الحقيقة، فنطقي للقاف قد يسبب فعلا النفور للكثير من المستمعين، ولكن من منظور يتبنى الكرامة الشخصية، من السيء فعلاً أن نعيش في مجتمع يضطرنا إلى تعديل حقيقتنا للتماهي.

يقتصر اليوم تحريفي المتعمد لنطق القاف على بعض البيئات المهنية، كمقابلات العمل  التي لا يظهر أحد فيها كامل حقيقته علي أي حال. ففي سبيل التوظيف، لا زلت أفضل ألا يكون قرار مسؤول الموارد البشرية متأثراً بنطقي للقاف بدلًا من الخبرة، وخاصة في ظل غزارة التصنيفات العنصرية المكتسبة مسبقًا عن ناطقي القاف.

أما في أوساطي الشخصية والإجتماعية، فإن قافي ولو أنها لا تخلو من التنكيه الذي ترسخ في لهجتي بعد سنين من التقلبات، أصبحت تخرج مني عفوية إلى حد كبير، حيث أنطقها دون تفكير، وأدع الآخر يستنبط ما يشاء.