يقف محمد خضر، 26 عاماً، أمام المرآة، ويمرر العود الصغير تحت عينيه بحذر، تاركاً أصابع يده تعبر بخفر تحت الرمش السفلي. بدقة يرسم محمد خطاً من رماد حجر الأثمد الآتي من الشام، وهو نوع من أنواع مختلفة متواجدة اليوم في أسواق مدينته طرابلس اللبنانية، وتحديدًا في سوق العطارين، أحد أقدم أسواق المدينة التي يزداد بين شبابها، كل وفق أسبابه، رسم العينين بالكحل العربي.
يشعر محمد بالغبطة عند مشاهدة النتيجة النهائية، وشكل عينيه المرسومين بخط أسود بارز، يضيف على ملامح وجهه “الرجولة والهيبة والوقار” كما يخبرني. محمد، الشاب اللبناني الذي عاش طفولته ومراهقته في جبل محسن (شمال لبنان) المحافظ، كان من أوائل المراهقين الذين تفاخروا بوضع الكحل كإضافة جمالية، عكس أقرانه في “باب التبانة” الذين يقومون بتكحيل عينيهم عادة تيمنًا بسنّة الرسول.
Videos by VICE
بالنسبة لمحمد، الأمر عائلي، فقد بدأت أمه بتزيين عينيه كعادة اجتماعية موروثة في أسرته: “كانت أمي تضع الكحل وتزين به عينّي في طفولتي، مثل ما تفعل جاراتنا وخالاتي وهي عادة محببة تعطي للطفل صورة جمالية وتحميه من الرمد. لكن هذه العادة مع الكبر عادت إليّ بعد انقطاع، حين وجدت صورًا من طفولتي، وأحسست برغبة خفية في العودة إليها رغم معرفتي أن ما سأقدم عليه سيجلب لي المتاعب بعض الشيء، لا سيما أن المجتمع لا يتقبل وضع الكحل عند الرجال ويعتبرها تشبهاً بالنساء وتقليلاً من الرجولة وهو اعتقاد خاطىء جدًا.”
اعتقاد خاطئ اذ من الذي يحدد أصلاً ما تعريف الرجولة، فالكلمة مائعة ومتغيرة من بلد لآخر. تاريخياً، وضع الرجال العرب الكحل لعصور مضت، حيث كان من المعروض عن النبي محمد إنه اعتاد وضع الكحل في عينيه لأنه يحمي العين من أشعة الشمس القوية في المناطق الصحراوية. وبقيت عادة التكحيل منتشرة عند الرجال العرب إلى اليوم الذي خرجت فيه بعض الفتاوى تحرم الكحل للرجال للزينة باعتباره تشبهاً بالنساء، خصوصًا بعد فتوى على المذهب المالكي لابن رجب في كتابه “جامع الأمهات” حين قال: “ويكره الاكتحال بالإثمد للرجال لأنه من زينة النساء.”
لا أجد أن الكحل يتناقض مع هويتي الجنسية أو يعززها، الموضوع أبسط من ذلك
ولكن لا يزال هناك العديد من الدول العربية والإسلامية التي يتزين فيها رجالها بالكحل خاصة في المناسبات الرسمية. كما أن الكحل لا يزال موجودًا في أعراف القبائل العربية في الإمارات والسعودية وغيرها مثل عادات أخرى خاصة بالتجميل الرجالي عندهم، من التطيب بالعود والعنبر. الشاب اليمني خالد، 22 عاماً، يقول في مقابلة عبر فيسبوك أن وضع الكحل للرجال هي من العادات الخاصة بشهر رمضان، حيث يتجمع كبار وصغار السن في السوق وبالقرب من الجوامع لتكحيل أعينهم، بإعتبار أن الكحل يحمي العين. ولكن خالد يشير الى أن وضع الكحل لسبب جمالي لا يزال اشكالياً: “الهدف ليس تكحيل العين كي تبدو أجمل، الهدف طبي شعبي بحت.”
في السنوات الماضية، عاد حضور الكحل بين الرجال، وخاصة في مجتمع الميم كنوع من الماكياج الذي يتم استخدامه تعبيرًا عن هوياتهم الجنسية وحضورهم الاجتماعي والفني وتمرداً على الأعراف الجندرية. وقد تميز الراقص الشرقي اللبناني ألكسندر بوليكيفيتش بوضع الكحل أثناء تمايله الرشيق، وأيضًا مغني الروك اللبناني من فرقة مشروع ليلى حامد سنو في حفلاته.
ولكن محمد، الشاب الذي عانى من مجاهرته بمثليته المبكرة بين أهله، لا يجد أي مقاربة بين وضع الكحل العربي وهويته الجنسية، كما يقول: “لا أجد أن الكحل يتناقض مع هويتي الجنسية أو يعززها، الموضوع أبسط من ذلك. ربما في البداية كان نوعًا من التعبير عن هذه الهوية لكن اليوم وبفضل تطور شخصيتي أعتقد أنه مجرد إضافة جمالية.”
المخرج والمصور الفلسطيني هشام معتوق، 29 عامًا، الذي ولد في إمارة أبوظبي وعاش حياته هناك قبل انتقاله إلى لبنان، يقول أنه واظب على وضع الكحل لأسباب “جمالية” ولكنه لم يسلم في لبنان من انتقادات المحيط فتوقف عن وضعه حاليًا: “في الإمارات الأمر عادي ومعايير الجمال لديهم مختلفة عن لبنان. في لبنان الشباب لا يتكحلون خصوصًا في المنطقة التي أعيش فيها، قيل لي مرة هنا لا تتكحل من يتكحل هن فقط النساء.”
كلام هشام، يتقاطع مع ما نقله الرسام والفنان التشكيلي أحمد السيد، 30 عامًا، في حديثه معي. فبالنسبة لأحمد، صار الكحل جزءًا من شخصيته الفنية وعلامة فارقة تميز أسلوب لباسه بين الفنانين “الأندرغراوند” في العاصمة اللبنانية بيروت. يروي الفنان الذي ينفذ مشاريع فنية مستقلة في الرسم والتخطيط والتشكيل، إضافة الى الرقص الشرقي والأداء الحركي، سيرته الأولى مع الكحل: “وضعت الكحل لأول مرة لسبب صحي. وحين بلغت السادسة عشرة من عمري قررت أن أضعه كونه ساعدني على التعبير عن شخصية خاصة بي في محيطي.” ويُصنع الكحل الطبيعي بالعادة من حجر الأثمد، ويقال أن زرقاء اليمامة التي عرفت بقوة بصرها كان بسبب اكتحالها بالأثمد. والمتعارف عليه أن للأثمد فوائد صحية للعين فهو يساعد على قتل الجراثيم ويخفف من حدوث الاحتقانات المرضية.
أحمد لا يزال يعاني من الاضطهاد والأحكام المعلبة حول وضعه للكحل: “مفهوم وضع الكحل عند الرجال له نظرة تشوبها بعض الذكورية في بعض الدول، كدت أخسر حياتي بسبب الكحل، حيث تعرضت للخطف من قبل شباب متشددين قاموا بضربي بسبب وضعي للكحل ولأن لباسي لم يعجبهم، نجوت باعجوبة.”
معاناة الرسام لم تنته عند هذا الحد، ففي الفترة التي برزت فيها قصة “عبدة الشيطان” في لبنان في العام 1997، وكانت الظاهرة – الحدث في البلاد تحولت حياة الشاب الى مخاطرة حيث تعرض لملاحقات من مجهولين يتهمونه بأنه واحد من عصابات “عبدة الشيطان.” ويربط كثيرون تكحل بعض الشباب العربي بظاهرة “عبدة الشيطان” وهي أحكام مغلوطة تساوي أيضًا بين مستمعي “الهيفي ميتال” وعبادة الشيطان، لا سيما أن مستمعي هذا النوع الموسيقي يحبون وضع الماسكرا والكحل تحت العينين واسدال شعورهم ووضع قلادات من الجماجم حول رقابهم.
لكن كل هذه الأحكام والإتهامات لم تردع أحمد، فهو يحب الشعر الطويل واللباس المتحرر من تقاليد الجندرة، وهذا الشيء جعله عرضة لانتقادات أيضاً في الأوساط الثقافية لاحقاً وبعد انتقاله مع زوجته للعيش في بيروت: “البعض يقول لي انت فنان ولديك هذا الستيل؟ قد لا يقبضونك جد؟”
المسرحي والفنان الفلسطيني غنطوس وائل، 30 عامًا، الذي يعيش في القدس، بدأت قصة وضعه للكحل لأسباب مهنية في شغله المسرحي ثم قرأ بعض المراجع ووجد أن الرجال العرب لديهم تاريخ في التكحل، فصارت عادته اليوم، لكنه عانى من نظرة دونية له: “كان الأمر يوترني في البداية، ولم يكن من السهل مواجهة المجتمع الذي كان لديه احكاماً مسبقة،” يقول غنطوس ويضيف: “البعض كان يعتبرني اجنبيًا وحين يعرفوني أنني فلسطيني يبدأون بطرح الكثير من الأسئلة واشعاري كم هو الأمر غريب وغير مقبول، وأنه الأمر برمته غلطة وفيه تقصير في درجات الذكورة والرجولة.”
والحال، أن معظم الشباب العرب اليوم يجدون في الكحل العربي نوعاً من التجميل، بعضها عادات نقلت جيلاً بعد جيل فمثلاً في فرنسا، يضع بعض الشباب الجزائريين الكحل من باب الحفاظ على الإرث الثقافي الخاص بهم وبأجدادهم من الأمازيغ. مهما اختلفت الأسباب خلف استخدام الكحل الرجالي، يستمر الكحل العربي في فرض نفسه اليوم بين الرجال كواحد من أدوات التجميل التي تقفز فوق حدود النوع الجندري والهويات الجنسية.
الصور مقدمة من الشباب الذين تحدثنا معهم.