تعلّقت في المرحلة الثانوية بمسلسل Friends الأمريكي ذائع الصيت، كنت اعتبره ملجًأ لي من ضغط الدروس الخصوصية ومذاكرة وتحصيل هذه الدروس بصعوبة شديدة، كراهيتي للدراسة أتاحت لي فرصة اكتشاف مسلسل أصبح المُفضّل بالنسبة لي طيلة سنوات، وفاق عدد مشاهداته مجموع جميع المسلسلات الأجنبية التي شاهدتها في حياتي، إذ أنني أعدت مشاهدته ما يقرب من 35 مرة، وكنت أحفظ مشاهد الـ 10 مواسم بترتيبها، ولم يكن لي ملاحظات على المسلسل ولم أنتبه إلى نقطة هامة أثارها كاتب القصص المصورة الأمريكي ديفيد هوبكنز.
فريندز وقيم الحضارة الغربية
ناقش “هوبكنز” في مقاله على موقع Medium كيف شارك مسلسل فريندز في هدم قيم الحضارة الغربية. يمكن أن يظهر هذا الكلام مُبالغًا فيه بشكل كبير، لكنه يدلل على رأيه ببعض الأمثلة. يحكي المقال عن “روس جيلر” أحد الشخصيات الرئيسية في المسلسل والذي لعب دوره الممثل الأمريكي ديفيد شومير. يتحدث هوبكنز عن روس باعتباره رجل العلم في المسلسل، والذي يُمثّل العلم والعلماء في مجموعة مكونة من 6 أصدقاء بين الساذج والساخر والمُتسلطة والحالمة والمُستهلكة.
Videos by VICE
ورغم كونه رجل علم ذكي، إلا أنه كان مثارًا للسخرية بين أصدقائه دائمًا، ليس فقط بسبب المواقف الغريبة التي تحدث في حياته، والتي تقوده إلى جنون الارتياب واليأس، كبطل مأساوي – بحد تعبير هوبكنز – فقد عقله المستنير تدريجيًا، لكن هوبكنز يُشير بالأساس إلى سخرية الأصدقاء من علمه، فكلما تحدث روس عن ما يحدث داخل عمله أو تحدث عن نظريات علمية نال الكثير من السخرية منهم جميعًا، حتى أن “فيبي” التي لعبت دورها الممثلة الأمريكية ليزا كودرو الحاصلة – في الواقع – على بكالورويس في الأحياء من جامعة فاسار الأمريكية، تناقشت معه في كون نظرية التطوير غير حقيقية ولم يتمكن روس “العالِم” من رد حُجّتها.
حكى هوبكنز في مقاله عن فترة عمله مدرسًا في إحدى المدارس الابتدائية عام 2004، حيث كان أيضًا مدرب فريق الشطرنج، ووجد وقتها أن الأطفال المهتمين بالعُلوم يتعرضون للتنمّر من زملائهم، ورغم أن هذا الأمر يحدث دائمًا، إلا أنه لاحظ ازدياده وبعد عام 2004، العام الذي انتهى فيه مسلسل فريندز، وأصبحت فيه برامج أمريكان أيدول وعائلة الكاردشيان وأصدقاء باريس هيلتون هي البرامج الأعلى مشاهدة، وهو العام الذي اختير فيه جورج بوش الابن رئيسًا للمرة الثانية للولايات المتحدة، وهو ما اعتبره هوبكنز تتويجًا للمرحلة الرديئة الغبية التي تعيشها أمريكا على كافة المستويات، بسبب ما يرسيه مسلسل فريندز وغيرهم من قواعد في العقل الجمعي للمواطنين.
ما يحكيه هوبكنز يبدو مشابهًا لما يحدث في عالمنا العربي منذ وقتٍ طويل، من سخرية السينما والتليفزيون من العلماء، واعتبارهم مادة جيدة للسخرية، وهو ما رأيته منذ كنت صغيرًا في السينما والتليفزيون المصري، وهو أيضًا ما أحاول تذكره حاليًا حتى أتمكن من نسج سرد جيد عن العلاقة بين السينما وبين الابتعاد عن العلم، مما أثّر في النهاية على كل شيء، حتى صناعة السينما ذاتها.
العالِم في السينما المصرية.. كاريكاتيري غريب الأطوار
أول فيلم تذكرته كان “شنبو في المصيدة” سيناريو صبري عزت وقصة وحوار أحمد رجب ومن إخراج حسام الدين مصطفى وعُرض عام 1968، يتحدث عن “شنبو” الذي يلعب دوره الفنان فؤاد المهندس، ويعمل موظفًا بسيطًا للحسابات في مخبز، يعرض قصصه على الصحفية الشابة “درية سالم” التي تلعب دورها الفنانة شويكار، وعندما يراه عمّها العالِم “درويش” الذي يلعب دوره الفنان يوسف وهبي يجد فيه خامة جيدة يمكنه أن يجري عليها أبحاثه المعملية.
ظهور العالِم درويش كان مبالغًا فيه كعادة أداء يوسف وهبي الكوميدي، لكن المشكلة أن شخصية العالِم ظهرت منفصلة عن العالم وتُعاني من جنون ما، وهو ما انطبع على العلماء بشكلٍ أو بآخر، رغم أن الطرح نفسه يبدو غير منطقي، حيث أن الكوميديا تطال كل شيء، وهي مؤثرة بالطبع في تفكيك الأفكار وطرح أفكار بديلة، لكنني لا أظن أن هذا ما يفكر به السيناريست قبل كتابة شخصية العالِم بشكلٍ كوميدي، وأظن – على قدر علمي – أن كل ما يفكّر به هو أن تكون الشخصية مُضحكة للمُشاهدين.
لكن المشكلة الأكبر أن شخصية العالِم تحديدًا لا تظهر إلا في فيلم كوميدي وبشكل سطحي ومُكرر، حيث غرابة الأطوار وطريقة التحدّث المميزة والألفاظ العجيبة غير المستخدمة مثل كلمة البروفيسور درويش (يوسف وهبي) “إنسان آنوي نادر” أو جملة شخصية الدكتور ناصف التي لعبها الفنان يونس شلبي في مسلسل “مطلوب عروسة” الذي عُرض عام 1990 من تأليف محسن الجلاد وإخراج محمد أباظة، حيث كان يقول دائمًا “عايز عروسة عقلية معملية فذة”.
في المقابل، لا توجد أفلام أو مسلسلات جادة تتناول فكرة العلماء والعلوم بشكلٍ جيد بعيد عن السطحية، اللهم إلا مسلسل “الأصدقاء” الذي عُرض عام 2002 من تأليف كرم النجار وإخراج إسماعيل عبد الحافظ، ولعب دور عالم الذرة فيه (عزيز محفوظ) الفنان صلاح السعدني، في دور لم يخل من المبالغة لكنه لم يُظهر العالِم بشكلٍ كوميدي هزلي أقرب للكاريكاتير كما يظهر دائمًا.
أثر شكل العالِم في السينما تقبّل العلوم
ظهر أثر ذلك في دائرتي الصغيرة، بشكلٍ واضح في زملائي وأصدقائي سواء في المدرسة أو العمل، في فترة المدرسة كان كل من يحاول الاهتمام بالعلوم يُقابل بسخرية كبيرة مِن جميع مَن حوله بما في ذلك أنا، بعدما بدأت القراءة شبه المنتظمة في المرحلة الجامعية، أدركت، على قدر قراءتي البسيطة، أن المعرفة والعلم مُهمّان ليس فقط للعلماء وإنما لنا جميعًا كبشر نعيش حياتنا اليومية دون أن نعلم عن الكثير من حولنا شيء.
يمكنني أن أسرد الكثير من المواقف التي رأيت فيها تعامل غير صحيح مع الصحة تحديدًا، حيث يتناول بعض الأشخاص من دائرتي الخاصة المضادات الحيوية بلا إشراف طبي، وهو ما يؤدي في النهاية إلى انعدام أثر المضادات الحيوية بسبب تطوير البكتيريا والفيروسات لأجسام مضادة لا تتأثر بالمضادات الحيوية، وهذا المثال هو نقطة في بحر من الممارسات الخاطئة الخاصة بالطب والعلوم بشكلٍ عام، فهل يمكننا أن نقول أن السينما أثّرت في ممارسات الناس الخاطئة؟
بشكلٍ أو بآخر نعم، أعلم تمامًا أن السينما ليست قناة تعليمية ولا برنامجًا تثقيفيًا، لذلك لا أقول أن أثر السينما مباشر في تغيير الوعي، وإنما تؤثر على اللاوعي الخاص بالمُشاهدين، هل أقصد أن المؤلفين والمخرجين قرروا التأثير عمدًا على اللاوعي الجمعي في عدم تقبّل أغلب من أقابلهم في حياتي -على الأقل- للعلوم؟ لا أظن، وإنما فقط هذا ما حدث عبر تراكم الكثير من التهكّم على شخصية العالِم دون أن يكون هناك ما يوازن ذلك في السينما أو الواقع حتى.
يمكننا بسهولة أن نرى أن الواقع لم يقدم الكثير من النماذج العلمية السليمة، أو بمعنى أدق يمكننا أن نقول أن التليفزيون والبرامج لا تريد تقديم النماذج العلمية السليمة (وهم موجودون بالفعل) لأنها لا تعود عليهم بالمشاهدات، لكننا يمكن أن نرى العديد من القنوات يُفردون المساحات للمخترع الصغير الذي هزم نيوتن وفك أسرار الذرّة وهو لم يحصل على شهادته الإبتدائية بعد، أو يمكننا أن نرى العالِم الذي استطاع توليد الكهرباء من الرمل أو حتى تمكن من توليدها دون طاقة كما كان يفعل “الحاوي” في السيرك والشوارع والميادين قديمًا.
محاولات حميدة في طريق زيادة الوعي بالعلم
كل تلك الكوارث التي نقابلها يوميًا على شاشات التليفزيون، جعلت من قراءة العلوم أمرًا شاقًا أو مثيرًا للسخرية، مما أدى في النهاية إلى صعوبة تقبّل فكرة البحث عن العلوم، ومن خلال تجربتي في العمل بموقع متخصص في تبسيط العلوم، يمكنني القول أن العلوم (بلغة السوق) تعتبر بضاعة غير رائجة، لكنها أصبحت ذات أهمية بعد ظهور نماذج جيدة من البرامج العلمية المُهتمة بتبسيط العلوم مثل الدحيح” والاسبتالية وغيرهم، وجميعهم يُعرضون على الإنترنت عبر يوتيوب أو على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
يُمكننا رؤية أثر ذلك في زيادة وعي الكثيرين فيما يخص تحديدًا الطب النفسي وأهميته، حيث تتشابه الكثير من أعراض الأمراض النفسية مع أعراض العضوية من إرهاق والشعور بالغثيان والألم في مواضع الجسد المختلفة. لذلك أتوقع أن تكون العلوم جزءًا هامًا من المعرفة الخاصة بالجيل القادم الجديد، واتمنى ألا يتأثّروا بالمبهرين الذين لا يُفارقون استديوهات الإنتاج الإعلامي.