مضى أكثر من شهر على بدء الحرب في قطاع غزة المحاصر، بعد عملية طوفان الأقصى التي شنتها حركة حماس يشكل مفاجئ للدفاع عن الأراضي الفلسطينية. يومًا بعد يوم تزداد حدة الحرب ويتزايد عدد الضحايا، مع نقص دخول المساعدات إلى القطاع. وبحسب المكتب الإعلامي في القطاع المحاصر، ارتفع عدد القتلى إلى ١٣ ألف شهيد حتى الآن. لكن ماذا عن الغزيون خارج القطاع، ممن لهم أقارب وأهل في غزة، ولديهم بيوت وحياة ربما هدمت بالفعل؟
مالك قريقع، ٣١ سنة، فلسطيني من حي الشجاعية في غزة، مقيم في بلجيكا منذ ٨ سنوات. فقد قريقع التركيز في حياته منذ بدء الحرب ويشعر بالخوف مما يحدث، في بداية العملية ونتائجها الإيجابية. شعر ببعض الفرحة باسترداد حماس جزءاً من الأرضي الفلسطينية ولو لوقت بسيط، لكنه في نفس الوقت، قلق، فقد عاش ثلاثة حروب في غزة سابقًا، وهو يدرك تمامًا رد الفعل الصهيوني الذي لا يتسامح مع أي إسرائيلي جريح. يقول قريقع: “توقفت عن الذهاب إلى العمل لأسبوع لأن أفكاري مشلولة، لأنني أخاف على أهلي، خاصة أني من حي الشجاعية المعروف بتضحياته وشهدائه الكثيرين.”
Videos by VICE
يشرح قريقع وضعه النفسي بعد غيابه أسبوع من العمل :”عدت إلى عملي بجسمي، لكن أدائي تراجع و حياتي توقفت وكل الأصوات اللي بسمعها من ٤٦ يوم هي أصوات القصف وبكاء الاطفال وصراخ الامهات واستغاثات الاباء. ما بشوف غير دموع و دماء، وللحظات بخاف أنزل من البيت لشعور بينتابني أنه في قصف خارج منزلي الموجود في ببلجيكا. أنا جسديًا في بلجيكا، لكن روحي في غزة، وأعاني الآن من ويلات الحرب.”
مالك ليس بمفرده من يشعر بالألم. سجى عليان، ٢٦ عامًا، مقيمة في الإمارات منذ ٤ سنوات، تلقت أخبار قصف المقاومة بفرحة في البداية لكنها، مثل الجميع، شعرت بقلق عارم بعد ذلك، وانتابتها الألم النفسي. تشعر سجى الآن بالغضب الشديد، حيث فقدت في بداية الحرب ٢٠ شخصًا من معارفها ليس ليهم أي توجه سياسي، وازداد الأمر سوءًا حين هدم منزلها ومقر عملها السابق في غزة. تحكي سجى:”كل يوم استيقظ وأسمع نبأ استشهاد شخص جديد وأشعر بالمرارة، فأنا غير قادرة على تحمل كل هذ الألم، حتى أريد أن أحزن على كل شخص وكل شيء كما ينبغي وأعطيهم حقهم، لكن الوضع الحالي لا يعطيني رفاهية الحزن على كل ما فقدت.”
أعيش في رعب منذ عرفت بتفاصيل القصف اليومي، وأخاف جدًا عليهم وأشعر بعقدة ذنب لأني لست معهم
بالإضافة إلى كم الألم الذي يشعر به مالك وسجى، هناك مشكلة في التواصل مع أقاربهما في فلسطين. تفاقم الوضع نتيجة تعمد شل الاتصالات لأول مرة، وذلك من خلال قطع الاتصالات والإنترنت لتخفيف التواصل عن العالم الخارجي ونقل الأخبار. تقول سجى أنها تتواصل مع أقاربها في غزة عن طريق الهاتف فقط، كلما سمحت الفرصة، لعدم توفر الإنترنت في مكان تواجد أقاربها، وتشعر بعقدة ذنب لعدم قدرتها على المساعدة. تحكي سجى: “أعيش في رعب منذ أن علمت بتفاصيل القصف اليومي. أخاف جدًا عليهم وأشعر بعقدة ذنب لأني لست معهم.”
تختلف هذه الحرب عن الحروب السابقة على غزة حيث يوجد هناك تهديد باجتياح بري ودعم عالمي مبالغ فيه من المنصات الإعلامية الكبرى في العالم مقابل الترهيب وشيطنة الرواية الفلسطينية. وتؤكد سجى ذلك قائلة: “أن يتحدث ويناقش الإعلام الغربي وربما العربي فكرة التهجير، لأول مرة، بهذه الوقاحة، هذا أمر فج.” وتضيف: “لقد شهدنا مقتل صحفيين، ومحاولات إسكات صوت الصحافة، أكثر من أي وقت مضى، ونحن غير قادرين على فعل أي شيء. كما يتم حذف ما نقوله في السوشيال ميديا مقابل المحتوى الاسرائيلي المنتشر بقوة. والآن يتم تزوير التاريخ أمام أعيننا، لذا ثقتنا كشباب اهتزت بكتابة التاريخ.”
ويضيف قريقع على كلام سجى أن هذه الحرب مختلفة عن أي حرب شهدتها غزة، حيث أن الأماكن التي لم يتخيل الغزيون يومًا أن يتم قصفها، مثل المناطق التي تقيم فيها عائلته بالقرب من المستشفى المعمداني، معتقدين أن الاحتلال لن يستهدف مستشفى أو كنيسة. ومع ذلك، تم القصف رغم هذه التوقعات، مما أسفر عن استشهاد أقاربه، بما في ذلك أبناء ابن عمه وزوجته ووالدته.
لا يعيش كل الفلسطينيين المغتربين في نفس الوضع الذي يفترض أن يكون آمنًا وطبيعيًا. فألمانيا، على سبيل المثال، تمنع المظاهرات المنددة بالاحتلال وتهدد كل من يدعم فلسطين بأي شكل من الأشكال، بل وتريد ترحيله. وهذا هو الحال بالنسبة لعلي بخيت، ٣٨ عامًا، يعيش في ألمانيا، الذي استقبل أخبار العدوان على غزة بصدمة ورعب، ولديه زوجة وثلاثة أطفال في غزة، ويتواصل معهم عبر تطبيق واتساب، كلما سنحت له الفرصة للاتصال بالإنترنت. ففي غزة، لا توجد شبكة هاتفية، مما يجعل التواصل صعبًا للغاية.
علي، مثل غيره من الفلسطينيين الذين يعيشون خارج غزة، يشعر بالذنب من أقل الأشياء. يقضي يومه في متابعة الأخبار، ومحاولة التواصل مع أسرته وأصدقائه، والتفكير فيهم. ويسعى جاهدًا لجمع عائلته الصغيرة في ألمانيا، على الرغم من صعوبة ذلك. بالإضافة إلى ما سبق، يشارك علي وأصدقاؤه في الفعاليات الفلسطينية في ألمانيا، ويحاولون شرح القضية الفلسطينية للألمان. ورغم التضييقات الألمانية على النشر في القضية، يؤمن علي بأن الوعي العام هو السبيل الوحيد لتغيير الوضع.
وقتنا كله بنتابع فيه الجوال والتلفزيون بنخاف يجينا خبر حبيب وغالي على قلوبنا بأي وقت
إحدى الخطط التي طرحت بقوة خلال الحرب على غزة كانت تهجير فلسطينيي غزة إلى سيناء المصرية، بحجة أن ذلك سيتم لفترة مؤقتة لإعادة بناء غزة ثم يعودون مرة أخرى كما حدث في نكبة عام ١٩٤٨. تقول سجى أنها وكل أهلها يرفضون اللجوء خارج أرضنا، على الرغم من أن أغلب سكان غزة مهجرين من مناطق فلسطينية أخرى منذ النكبة.
تؤكد ذلك ابتهال أم عكرمة، ٣٤ عامًا، من سكان الضفة الغربية التي جائت إلى غزة عام ٢٠١١، بعد اتمام صفقة لتبادل الأسرى التي تم فيها إبعاد زوجها، وهو من سكان الضفة الغربية أيضًا.
تحكي ابتهال: “عشنا في غزة تسعة أعوام، وأنا أشعر أني أعيش بين أهلي، وشهدنا فيها من حرب ٢٠١٤، التي أعتقدنا أنها الأصعب.” خرجت ابتهال من غزة وعاشت في تركيا هي وعائلتها الصغيرة منذ ٢٠٢٠، وتشعر حاليًا بصعوبة الموقف، وتخشى على كل من عاشرتهم وصادقتهم من غزة، فهي تعتبر غزة وطنها وبيتها الذي لا تتخيل أنها يمكن أن تعيش خارجه إلى الأبد.
وتضيف: “كل حرب أتمنى لو كنت في غزة، فلنا أهل وأحبة بنخاف عليهم متل ما بنخاف على ولادنا. الكم ساعة اللي بنامهم بنعتبرها خيانه بحقهم، مش عارفين نوكل ولا نشرب ولا حتى نتعامل مع ولادنا طبيعي. عدا عن العصبية والتوتر الدائم، أتمنى أقدر اشيلهم وأحطهم بقلبي.”
وتستكمل قائلة: “وقتنا كله بنتابع فيه الجوال والتلفزيون بنخاف يجينا خبر حبيب وغالي على قلوبنا بأي وقت. بننام ماسكين التلفون وبنصحى ماسكينو. كلامنا في البيت كله ذكرياتنا عن شهدائنا وأقاربنا، وهل هما جيعانين أو عطشانين؟ كيف مقضين يومهم مع ولادهم والخوف اللي بعيونهم؟ هل هم بخير فعلًا أو استشهدو؟ لأنه ما في تواصل بينا وبينهم نهائي نظرًا للوضع.”