لماذا كل هذه المناحة على وفاة الملكة إليزابيث؟

1662733979318-00032hz8t6

“على روحها السلام والرحمة. لترقدي بسلام يا ملكتي على روحك الرحمة…. “الراحة الابدية اعطيها يا رب ومن نورك فليشرق عليها“… “يشهد أن الملكة إليزابيث كانت صاحبة دور اجتماعي وخيري على مستوى العالم قريبة من أخلاق المسلمين والعرب…” “أسكن الله الملكة فسيح الجنات وتجاوز عن سيئاتها… “فلترقدي في سلام، كنتِ المعنى الحقيقي للقوة والقيادة، حزنتُ بشدة للخبر.”

صور نادرة لطفولة إليزابيث .. جلالتها تركت إرثًا عظيمًا من حب الجماهير… ماتت دون معرفة الحقيقة.. هل يعود نسب الملكة إليزابيث إلى بيت الرسول؟ أين تذهب ملابس الملكة إليزابيث بعد رحيلها؟ ما هو سر “حقيبة يد” الملكة اليزابيث التي حملتها 50 عاماً وماذا كان بداخلها؟ محمد رمضان يؤجل طرح أغنيته ٣ أيام حدادًا على روح الملكة.

Videos by VICE

هذه بعض التغريدات والعناوين الصحفية في العالم العربي بعد الإعلان عن وفاة ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية عن عمر ٩٦ عامًا.

تلقيتُ الخبر مثل ملايين البشر عن طريق منصات الصحافة على السوشيال ميديا، وبدأت متابعة ما يحدث من إجراءات لتجهيز مراسم العزاء الملكية، وتولي تشارلز الثالث العرش. لكنني وجدتُ أثناء ذلك نحيبًا غير مفهوم وحزناً غير مبرر من الجمهور العربي على رحيل ملكة بريطانيا ودول الكومنولث. المنصات العربية على مدار يومين لم تقدم لنا أخبارًا سوى عن الملكة الراحلة: كيف كانت تنام الملكة؟ ماذا تأكل؟ الملكة تحب اللون البنفسجي .. بساطة أحلام الملكة رغم مهام عملها الشاقة.

مشاهير عرب كادوا يكتبون قصائد شعر في الملكة، ولا أعلم حقًا ما هي صلة القرابة بينهم وبين الجدة إليزابيث؟ هل كانت الملكة تلعب معهم في الشارع مثلًا؟ هل كانت تزورهم في الأعياد وتعطيهم بعض الجنيهات الإسترليني؟ هل كانوا يتبادلون مشاكل الحياة الزوجية ومصروفات الأولاد المدرسية؟ لماذا كل هذه المناحة؟ 

صرنا ملكيين أكثر من الملكة نفسها، لدرجة أن أحد المراسلين التلفزيونيين العرب قرر أن يشارك الجمهور قصة عن إنسانية الملكة، وحكى في تأثر أمام الكاميرا أن ابنته ذات الأربع سنوات بعثت رسالة حب للجدة إليزابيث، والمفاجأة أن مكتب جلالة الجدة رد على الطفلة وأخبرها أن الملكة لو كانت تملك وقت فراغ لردت بنفسها على ابنته.. يا إلهي.

الملكيات بطبيعتها تحمل للجمهور حساً رومانسيًا يبدأ مع فخامة القصور والإتيكيت والملابس المطرزة والتيجان المثبتة على الرؤوس. حنين لم نعشه، وبحث عن زمن ضائع نتمنى أن ندخل أحداثه. حلم روجت له الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس منذ سنوات، فصارت قصص الملكية شبيهة بقصص الفرسان القادمين على جيادهم لينقذوا الفتاة المسكينة. وكأننا نشاهد قصة سندريلا التي تتزوج من الأمير، لكن الواقع ليس كذلك، فالفارس قطع الرؤوس وسفك الدماء، وسندريلا هنا كانت ملكة متوجة على عرش إمبراطورية احتلت مساحات شاسعة من العالم. رومانسية المملكة البريطانية ليست سوى في الأذهان البائسة، رومانسية صنعتها مسلسلات ذائعة الصيت على الإنترنت مثل The Crown الذي صنع تعاطفًا مع العائلة الملكية البريطانية وجَمَّل صورتها.

ولكن الواقع مختلف تماماً. خلال حكم الملكة إليزابيث الثانية، منذ ١٩٥٢ حتى ٢٠٢٢، لم نسمع لها اعتذارًا واحدًا عن تاريخ الإمبراطورية الدموي في الهند أو مصر أو فلسطين أو كثير من بلدان قارة أفريقيا، رغم أن الاعتذار في عصرنا الحالي، صار ممكنـًا، خاصة عندما تدعي الدولة اعتناقها قيم الحرية والعدل والمساواة، وعندما يكون تاريخها ملطخ بصفحات سوداء من الاحتلال. 

إذًا لا عار في الاعتذار، بل قد يكون الاعتذار هنا من شيم الفرسان، فلماذا لم تعتذر إليزابيث مثلًا عن: 

  • نهب الإمبراطورية البريطانية حوالي 45 تريليون دولار من الهند على مدى قرنين من الاستعمار الذي أدى إلى ملايين القتلى، وكيف تم سُرقة حجر كوهينور – أحد أكبر قطع الماس في العالم بقيمة تقدر بـ ٤٠٠ مليون دولار من الهند ليتم وضعه في تاج الملكة الأم.
  • معسكرات تعذيب وقتل البوير في جنوب أفريقيا، إذ مات حوالي ٢٧ ألف شخص؟ المثير للدهشة أن البوير مواطنين بيض من أصول هولندية استوطنوا جنوب أفريقيا. تخيلوا كيف كان الإنجليز يرون الأفارقة السود.
  • احتلال بريطانيا لمصر لحوالي ٧٤ عامًا؟ وتظل ذكرى حادثة دنشواي رمزًا لبشاعات المملكة في مصر، حيث تم إعدام أربعة قرويين مصريين وسجن عدد آخر منهم بدون سبب.
  •  مساهمة المملكة في وعد بلفور الذي فتح الباب لتكوين دولة الاحتلال في فلسطين؟ وهذا غيض من فيض ممارسات المملكة في العالم العربي. ثم يأتي أحدهم ويقول: لكن الملكة لم تزر إسرائيل قط، ولنذكر محاسنها.
  • ولا ننسى تاريخ الأمبراطورية في اليمن، التي تم احتلالها لأول مرة في عام 1839 وحُكمت كجزء من الهند البريطانية. وفي عام 1963 تمرد الشعب اليمني على الاستعمار البريطاني، وعندها أمرت الملكة قواتها بقمع أي وكل معارضة بأقصى قوة ممكنة. كان الإجراء العقابي الرئيسي في مستعمرة عدن التابعة للملكة إليزابيث هو قتل المئات من السكان والترحيل القسري لليمنيين الأصليين.
  • خلال فترة حكمها، قوبلت جميع حركات التحرر الوطني في جميع أنحاء المستعمرات التي طالبت بالاستقلال عن الحكم البريطاني بقمع وحشي في مصر، أندونيسيا، وكينيا وإيرلندا الشمالية.
  • في عهد الملكة كذلك اجتاحت القوات البريطانية العراق، وهي تحمل في ذاكرتها الملكية مجد الإمبراطورية البائد المُحتَل للعراق. وفي حين ما زال الإعلام البريطاني يبكي جنوده الـ ١٧٩، الذين ماتوا في سنوات الغزو، لكنه لم يفكر في عدد الضحايا من العراقيين الذين يُقدر عددهم بما يزيد عن ١٥٠ ألف مدني، وتقول تقديرات أخرى أنهم يتجاوزون الـ ٤٥٠ ألف شخص.  
  • في عهد الملكة كذلك، أعلنت بريطانيا الحرب على الأرجنتين، بسبب نزاع على جزر الفوكلاند التي يرى كل طرف من البلدين أنها ملك له. وحتى هذا اليوم مازالت هذه الجزر تمثل أمرًا شديد الحساسية عند الأرجنتينين، خاصة أن هذه الجزر تقع في محيط الأرجنتين الجغرافي، فكيف يمكن أن تكون هذه الجزر ملكـًا للإنجليز الواقعة أرضهم في الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي؟ في هذه الحرب مات أكثر من ٦٠٠ أرجنتيني، لم تقدم الملكة لأسرهم اعتذارًا.

    هذه فقط بعض الأمثلة من أرث الملكة الراحلة، وفي حين يدعي البعض أنه يمكنك الحداد على الملكة دون تجاهل جرائم الإمبراطورية، إلا أنه في الحقيقة، استفادت وشاركت الملكة إليزابيث في هذه الجرائم كون ثروتها ونفوذها هو نتيجة مباشرة للاستعمار. لذلك “هناك شيء مثير للشفقة بشكل فريد حول الحداد على امرأة كانت تدير منظمة مشهورة بميولها للإبادة الجماعية،” كما تقول الكاتبة الكندية سكاتشي كول في مقال لها.

إن التاريخ لا يسقط بالتقادم، وتاريخ بريطانيا الأسود التي احتلت ١٧١ دولة من بين ١٩٣ دولة عضو في الأمم المتحدة، تحمله الملكة إليزابيث على كتفيها، ويحمله كذلك الملك الجديد، وسيظل باقيـًا كندبة غائرة في وجه المملكة، لن يزيلها التعاطف أو نوبات الحزن الجماعي.  وكما قالت لي صديقة أثناء حديث عن هذا الهوس بوفاة إليزابيث: الحمد لله إن ربنا رحمنا منها. هذا التعبير أكثر صدقًا وموضوعية من جمل مستهلكة مثل: الله يرحمها.