ليس من ضمنها النيزك.. الأشياء المرعبة التي رأيناها في Don’t Look Up

AAAABf07Ihf0o-BL7ks_pjwU1BfBJzxgHA8Ao8jMZ5dfJA8PZ_R7l-NyvQHtTj1TpmnL7lnR2SA8Nv4VGzEO9yJkmJ_fwArM

ملاحظة: هناك حرق للأحداث في المقال.

فور عرضه على منصة نتفليكس، أحدث الفيلم الأمريكي Don’t Look Up ضجة كبيرة، وصار حديث السوشيال ميديا- وخاصة مع وجود أسماء أهم الممثلين في هوليوود من ميريل ستريب، ليوناردو دي كابريو، جينيفر لورانس، كيت بلانشيت وغيرهم. مفارقة طريفة بالنظر إلى أن الفيلم يستعرض مأساة السوشيال ميديا التي حوَّلت حياتنا إلى سلسلة من التريندات سريعة التبخر. 

استقبل كثيرون الفيلم -الذي تم تصنيفه كفيلم دراما وخيال علمي وكوميديا – باستحسان، وأعجبتهم فكرته الرئيسية “ماذا ستفعل البشرية لو تأكدت بنسبة ١٠٠٪ أنها ستفنى قريباً؟” دائماً ما تجعلنا فكرة الموت القريب نعيد حساباتنا، وكل الأفلام التي لعبت على وتر “الليلة الأخيرة قبل نهاية العالم” لم تفشل في أن تجعلنا نضع أنفسنا في موضع أبطالها، ونتعاطف ونتأثر بعمق.

Videos by VICE

أنا شخصياً، لم يبهرني الفيلم؛ لقد فقدت “الليلة الأخيرة قبل نهاية العالم” رهبتها بعد ما مررنا به خلال جائحة فيروس كورونا-والتي لا يبدو أنها ستنتهي- ولكن استوقفتني أشياء عديدة في الفيلم، ضغطت وتراً حساساً بداخلي، وأشعرتني برعبٍ حقيقي لا علاقة له بالنيزك.

الهايب الذي تخلقه السوشيال ميديا
نقل Don’t Look Up صورة حية للهايب أو الضجيج الذي تسبب به السوشيال ميديا، وربما ظهر هذا بشكل خاص في تأثر الجمهور وتفاعله مع خلاف مطربة (تقوم بدورها أريانا غراندي) مع حبيبها، على حساب تصريح علماء مرموقين بأن خطراً يهدد حياة الكوكب كله. لم يتجاهل الجمهور العلماء فحسب، بل تداولوا صورة أحدهم كـ meme material، يتهكمون بها على من يخبرهم أنهم سيموتون قريباً.

الشيء الأكثر رعباً في كل هذا فهو نمط حياة “أن نعيش لنحكي” ليس بالمعنى الإيجابي الذي يجعلنا نستمتع بالرحلة، ثم ندون انطباعاتنا عنها، بل بالمعنى السلبي المعاصر وهو أن تصبح كل تفاصيل يومنا على منصات التواصل الاجتماعي، نحصد بها اللايكات التي تصيبنا بنوع خاص من الإدمان، وتجعلنا نرتكب الكثير من التصرفات الغبية ضمن ثقافة “تحدي كذا.”

في الفيلم دشن مستخدمو السوشيال ميديا “تحدي الإطلاق” وأصابوا أنفسهم بالألعاب النارية في وجوههم على خلفية إطلاق صواريخ لتدمير النيزك، وفي عالمنا الواقعي دشن مستخدمو السوشيال ميديا تحديات مجنونة على خلفية أفلام مثل Bird Box، وبدأ البعض بقيادة السيارة معصوب العينين أو تحدي فيروس كورونا حيث يذأ البعض بلعق الأسطح في الأماكن العامة في وقت يحارب فيه العالم وباءً قاتلاً. ربما الرعب الحقيقي فيما يتعلق بالسوشيال ميديا هي أنها تغذي رغباتنا في الحماقة، وتجعلنا نظهر بشكل cool، وهي طبيعة بشرية لا تحتاج لتآمر الأشرار.

الطبقية
إهمال الجمهور أو رجل الشارع العادي من الأشياء المرعبة في Don’t Look Up، فالناس الذين يتحدث إليهم العلماء ويحاولون إقناعهم بوجود كارثة، لم يظهروا على الشاشة كفاية، لم نقترب من حياتهم. كان مريعاً أن أرى هذه الطبقية التي تقسم العالم لفئتين، واحدة تملك كل شيء ولا تفعل، والأخرى تفعل كل شيء ولا تملك، ومع هذا يتم التعامل مع أفرادها باعتبارهم كسالى، وضحية بلا حيلة، ويُلقى اللوم عليها في أي وضع مزري، رغم أنهم الفئة الأكثر تضرراً وبنفس الوقت الأكثر انتاجاً.

ربط كثيرون بين فكرة النيزك في الفيلم، والتغير المناخي الذي يأكل كوكبنا حاليّاً، وكما تعاني الإنسانية كلها بسبب مخالفات أقل من ١٠٠ شركة تدمر البيئة، وتتركز المعاناة على منطقة الشرق الأوسط، تكرر الأمر في الفيلم، وكان الكل يصرخ في الناس “انظروا إلى أعلى/لا تنظروا إلى أعلى” وكأننا لعبة في يد الجميع. نحن لسنا المشكلة، هناك تجاهل لما فعلته الرأسمالية والاستهلاكية في حياتنا، وكيف جعلت أقصى طموحاتنا أن ننهي عملنا المرهق ونستلقي على سريرنا نـscroll down بانتظار الدليفري لنأكل، ومندوب الشحن بالأشياء التي اشتريناها إلكترونيّاً، لنشعر أننا ندلل أنفسنا وأن عمرنا لم يضع هدراً.

الإصرار على الجهل
هذا هو الجزء الذي استفزني في الفيلم، إصرار البعض على إنكار الحقيقة الواضحة كالشمس، والتبجّح بعبارة “ايه الدليل؟” رغم وجود ألف دليل. أنا مع الشك، حقك الجميع أن يشك ويتشكك. ولكن في وجود الأدلة، يصبح الشك أحياناً إصراراً على الجهل. في Don’t Look Up خرج علماء متخصصون بحقيقة مدعومة بالبيانات، ومع هذا أنكّرها كثيرون بمنتهى البجاحة. لا أريد التحدث عن المتشككين باللقاحات ولا فيروس كورونا لأن الدراسات لا تزال غير كافية. ولكن أتحدث عن نظريات غريبة مثل أن الأرض مسطحة، وأن وكالة ناسا تخفي عن العالم أن “قرص الأرض” محاط بدائرة عملاقة من الجبال الجليدية، وأن الأقمار الاصطناعية أكذوبة وأن الإنترنت قد مات وأن الجميع روبوتات، وطبعاً الاحتباس الحراري وسلسلة لا تنتهي من النظريات المتشككة مع أن العلم أثبت صحتها. وعندما يخبرهم أحد بالمعادلات العلمية التي تثبت كذا وكذا، يكون الرد: “أين الدليل؟” حبيبي، هذه المعادلات هي الدليل.

الإعلام “الخفيف”
أعمل بالصحافة منذ ٨ سنوات، وشهدت مرحلة التحول من الصحافة التقليدية إلى الصحافة التي تتغذى على السوشيال ميديا بشكلٍ أساسي، والتي تدعي أنها تراعي القارئ “الخفيف” الذي شكَّلت ذائقته البوستات والتويتات القصيرة، ولن يقرأ مواضيع كاملة. طبعاً، هذا انطباع غير صحيح بالضرورة، وهو ينطوي تحت الفوقية والطبقية التي تتعامل بها بعض القنوات الإعلامية مع متابعيها.

شهدت أيضاً مرحلة صناعة العناوين التي تلعب على المواضيع الجنسية والصادمة لتحصد عدداً هائلاً من القراءات، حتى بمحتوى فقير وغير علمي أو أخلاقي. عكس الفيلم بعضاً من سمات هذه الإعلام في المذيعين اللذين يتعاملان مع كل الأخبار باستخفاف، ومحاولة تلطيف أي خبر مهما كان كارثيّاً. شعرت بالغيظ حتى انفجرت فيهما كايت (جنيفر لورانس): “ربما لا يجب أن نتعامل مع دمار الكوكب بخفة.. ربما يفترض أن يكون هذا الخبر كئيباً ومروعاً.”

الصحافة كما تعلمت هي العمل لإظهار الحقيقة، والانتصار للأصوات الخافتة والمختلفة عن السائد، وقد شعرت بغصة عندما عكس الفيلم لأي درجة انجرف الإعلام بعيداً عن هذا. كلمة “الإعلام” بمعناها اللغوي لم تعد تعني الشيء نفسه، بل غالباً ما تلعب دوراً يشوش معارف الناس، ويلهيهم عن أكثر الأمور والقرارات تأثيراً في حياتهم. كانت المشاهد الأخيرة عندما بدأ العاملون بالقنوات في مغادرة البث مروعة.

فساد الطبقة السياسية
ربما كان من المتوقع أن أبدأ بهذه النقطة، فهي التي أثارت مشاعر المشاهدين أكثر من سواها، خصوصاً مع مبالغة الفيلم في إظهار الشخصيات السياسية بكل النقائص الأخلاقية الممكنة. التفاهة والانغماس في الذات على حساب العالم كله حرفيّاً، والجشع والأنانية في احتضان القضايا التي تخدم أهدافهم أو تجاهلها، وثنائية “السياسي/رجل الأعمال” التي تجلب الخراب دوماً، لأن القرارات العليا التي تشكل حياتنا تصبح بين يدي من يدفع أكثر، لا الأكثر علماً وكفاءة. لقد شهدنا ثورات الربيع العربي ورأينا أكثر مما يمكن لهوليوود أن تتخيل، لهذا لم أتأثر بهذه التفاصيل كفايةً، لكنني وجدت عزاءً لا يُنكر في عبارة كايت: “إنهم ليسوا أذكياء كفايةً ليكونوا أشراراً كما تتوقعون.”

في عالمنا الواقعي، وعلى نطاقٍ أكبر من ثورات الربيع العربي، نرى يوميّاً النخب الحاكمة وهي تتجاهل أخطاراً حقيقية تهدد وجودنا الإنساني كله، وتركز على سباقها نحو فترة رئاسية جديدة، ورد الجميل لرجال الأعمال الذين دعموا وصولها للحكم. والرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب نموذج فج لهذا (كما تمثله ميريل ستريب في الفيلم) فقد أنكر حقيقة التغير المناخي وتأثيره على كوكبنا، وادعى أن الطبيعة ستعالج نفسها، رغم أننا ندفع ثمن دمار البيئة بقسوة في نوبات تغير مناخي سنويّة، يتوقع تفاقمها في الأعوام القادمة، وستؤثر سياسيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً على شعوب بريئة، وقد تندلع حروب ضارية بسبب نقص الغذاء والماء، وتنقرض محاصيل كاملة للأبد كما انقرضت فصائل حيوانية عدة. وقد حذَّر العالم الفيزيائي ستيفن هوكينج أن الإنسانية لن تستمر لمئة عامٍ أخرى بهذا الشكل، لكن أحداً لا يبالي كفايةً لأن الدول المتأثرة أكثر من سواها هي دول غير مؤثرة، دول عالم ثالث يمكن تسكينها بالمال والمساعدات لتتلقى الضربات عن الكبار.

هناك ملاحظات كثيرة على الفيلم، ولكن لا يمكن إنكار أن Don’t Look Up فيلم يستحق التأمل، فحتى لو لم تتأثر بفكرته الرئيسية وتقول لنفسك “أنا مت موتة أحسن من كده بكتير” فهناك تفاصيل ستجعلك تعيد النظر في ظواهر يومية أصبحت لا تلفت انتباهنا، لكنها تستحق نظرة جديدة متأنية، وربما مراجعة للنفس في تأثرنا بها، وانصياعنا لها.