بدأ موسى س، 27 عاماً، بتعاطي عقار الترامادول المخدّر كعقار مسكّن لآلام العضلات لكي يستطيع تحمل ساعات العمل الشّاقة والطويلة والتي تصل إلى 18 ساعة يومياً تحت الأرض داخل أنفاق التهريب الممتدة بين قطاع غزة وسيناء على طول الحدود المصرية – الفلسطينية. موسى والذي يقيم في حي “البرازيل” في أقصى جنوب مدينة رفح في شقة سكنية مع والده ووالدته الكبيرين في السن، لم يتمكن من إكمال دراسته الجامعية بسبب تردي وضع عائلته الاقتصادي نتيجة للحصار الإسرائيلي المفروض على القطاع منذ عشر سنوات، ولم يكن أمامه سوى العمل كعامل حفر في أنفاق التهريب على عمق 30 متر تحت الأرض. تناول الترامادول هو طقس يؤديه غالبية العمّال في الأنفاق لتحمّل مشاق العمل، ولم يحتج موسى الكثير من الوقت ليبدأ بتعاطي الترامادول بعد أن خارت قواه في الأسابيع الأولى من العمل ولم يستطع أن يواصل الزحف نحو فوهة النفق في الجانب الفلسطيني كي يعود إلى منزله: “كان لربع قرص الترامادول الأول مفعول سحري في تحسين مزاجي وتسكين الآلام في عضلاتي.”
لا توجد أرقام رسمية ومنشورة تتابع ظاهرة تعاطي المخدرات في قطاع غزة، حيث تنتشر وتتنوع العقارات والمؤثرات العقلية المخدرة في هذا الشريط الساحلي المحاصر منذ عام 2007، من بينها الحشيش والعقاقير الكيميائية على شكل أقراص يطلق عليها اسم “السعادة” و”روتانا” وهي الأسماء الشعبية لقرص النشوة “الإكستاسي” ويصل سعر القرص الواحد إلى ما يقارب 80 شيكل إسرائيلي (21$) إلا أنَّ “الترامادول” هو العقار الأكثر تداولاً في قطاع غزة، تحت الاسم الشعبي “ترامال” ويصل سعر القرص الواحد إلى ما يقارب الـ 10 شواكل (2.7$).
Videos by VICE
لا توجد مصحات تابعة لوزارة الداخلية في قطاع غزة
يعتبر الحصول على عقار الترامادول سهل نسبياً لتوفره بكميات كبيرة في سوق المخدرات السري المنتشر في كافة مناطق قطاع غزة حيث يتم تهريبه من سيناء إلى القطاع عبر الأنفاق، كما أخبرني أحد مهربي المخدرات إلى قطاع غزة والذي يعمل في تهريب المخدرات منذ عام 2008 إلى الآن. ويشرح المهرب ح.ج عملية تهريب الترامادول من شبه جزيرة سيناء إلى رفح الفلسطينية، وتتم إما عبر الحدود البرية أو عبر الحدود البحرية الفلسطينية المصرية ويقول: “التهريب عبر الحدود البرية يتم من تحت الأرض عبر أنفاق حفرت خصيصاً لهذا الغرض بعيداً عن عيون الرقابة الشديدة التي تفرضها قوات الأمن في غزة، وتعرف هذه الأنفاق بين المهربين بـ”الخط الراجع” وهو نفق يتم حفره داخل الأراضي الفلسطينية من أجل تجاوز نقاط التفتيش المنتشرة على طول الحدود مع مصر.”
أما في الأوقات التي تكون فيها الرقابة شديدة على طول خط الحدود البرية – حيث تشدد قوات الأمن الفلسطينية والمصرية الرقابة على الحدود خصوصا في هذه الأيام – “يتم تهريب المواد المخدرة وخصوصاً الترامادول عبر البحر بواسطة قوارب صغيرة مجهزة بمحركين لمضاعفة سرعتها في طريقة تمكنها من الإفلات من زوارق الجيش المصري أو من خلال الغواصين، حيث يتم إلقاء كميات في البحر ويقوم بإلتقاطها غواصين من الجانب الفلسطيني تحت سطح البحر، وينقلون هذه الأكياس المغلفة إلى الناحية الفلسطينية،” يوضح المهرب.
وعلى الرغم من محاولات وزارة الداخلية ضبط عمليات التهريب إلا أنه يمكن الاستدلال على حجم انتشار عقار الترامادول بين الشبّان من الكميات الكبيرة التي تعلن عن ضبطها الوزارة عبر موقعها الرسمي من حين لآخر. كان آخرها ما نُشر في 24 يونيو 2017 حيث تم ضبط 75،000 قرص ترامادول و 180 قرش حشيش، إضافة إلى كيلوغرام واحد من الأفيون. حيث تشنّ “وحدة مكافحة المخدرات” حملة “هي الأكبر” على تجارة وتعاطي المخدرات في قطاع غزة حسب ما وصفتها.
حاولت أكثر من مرة الإقلاع عن التعاطي بمفردي، مرة عن طريق تخفيف الجرعة بالتدريج، إلا أنني سرعان ما كنت أعود للتعاطي مرة أخرى”
هذه الحملة “الأكبر” لم تأتي بأي نتائج إيجابية على العكس وخاصة بعد سَن كتلة “التغير والإصلاح” في شكل منفرد (الكتلة البرلمانية التي تمثل الحركة في المجلس التشريعي في غزة) “قانون المخدرات والمؤثرات العقلية” والذي قام بتحويل القضايا المتعلقة بالمخدرات من “جنحة” إلى “جناية.” وفي حين نصّ هذا التشريع في المادة رقم (4) و(7) على توصيات لإنشاء مصحات خاصة لتوفير العلاج الطبي والنفسي والاجتماعي للمدمنين، إلا أن التوصيات الواردة لم تطبّق إلى الآن، في المقابل تم تطبيق النصوص المتعلقة بتغليظ العقوبة على المتعاطين في شكل فوري. وهذا ما يؤكده المحامي الفلسطيني غازي أبو وردة: “لا توجد مصحات تابعة لوزارة الداخلية في قطاع غزة، ولم يتم تحويل أي متعاطي للعلاج حتى هذه اللحظة، بل يتم اعتقاله في ظروف قاسية جداً، وكل ما تم تطبيقه هو تغليظ العقوبات على متعاطي المخدرات، وسحب تقدير العقوبة من يد القاضي.”
على خلفية هذا القانون تم اعتقال موسى من قبل “وحدة مكافحة المخدرات” وجُز في السجن على خلفية ضبط شريط ترامادول (10 أقراص) بحوزته، وتم احتجازه ما يقارب الأسبوعين قبل أن يتم الإفراج عنه مقابل دفع كفالة مالية. خلال احتجازه في أحد مراكز التوقيف عدّة أيام، وأثناء التحقيق تأكد موسى بأنه أصبح مدمناً، حيث شعر بآلام شديدة في العظام عرف فيما بعد أنها نتيجة لعدم تناول جرعة الترامادول، “انصدمت من شدة الألم، كان عمودي الفقري كأنه سيخ (قضيب) حديد ملتهب، وتسرى النار في كل عظامي، وشبه فاقد للرؤية.” خرج موسى من السجن ليجد نفسه عاطلاً عن العمل خاصة بعد إحكام قبضة الجيش المصري على الأنفاق وقيامه بهدمها وإغراقها بمياه البحر. “أصبحت بلا مصدر دخل، وبلا ترامادول،” يقول موسى مشيراً إلى أنه أصبح يستهلك عدد أكبر من أقراص الترامادول وصلت إلى أكثر من 10 أقراص يومياً: “كنت بحاجة إلى ما يقارب 200 شيكل ( 60$) يومياً كثمن للجرعة، وبدأ المال الذي ادخرته للزواج ينقص تدريجياً حتى أفلست، لم أعد أمتلك شيكلاً واحداً،” يقول موسى مشيراً: “حاولت أكثر من مرة الإقلاع عن التعاطي بمفردي، مرة عن طريق تخفيف الجرعة بالتدريج، إلا أنني سرعان ما كنت أعود للتعاطي مرة أخرى.”
لجأت بالنهاية إلى الإقلاع الجاف
حاولت والدته مساعدته، وبحثت عن مصحة مجانية، أو مصحة يمكنهم تحمل نفقاتها في المؤسسات التابعة لوزارة الصحة في مدينة رفح “إلا أنها لم تجد سوى برنامج يقدمه دكتور نفسي في شكل تطوعي، على أن يتحمّل المدمن أو عائلته التكاليف،” وبالفعل التحق موسى في البرنامج “إلا أنه لم يتمكن من المواصلة، ولا من تحمل التكاليف بشكل شخصي، وكنت وقتها قد أفلست، فعدت إلى الإدمان مرة أخرى، لكن هذه المرة بجرعة أقل، فقد صار ثمن قرص الترامادول مضاعف نتيجة لصعوبة نقله بعد إغلاق الأنفاق، واشتداد الحملة لمكافحته من قبل وزارة الداخلية في غزة منذ عام 2015،” يشير موسى والذي لجأ بالنهاية إلى الإقلاع الجاف، حيث طلب من عائلته احتجازه في البيت، وعدم إخراجه منه، مهما تألم أو طلب منهم ذلك، وكانت العائلة ترغب في مساعدة ابنها، فوافقت على ذلك كونها الطريقة الوحيدة ليتعافى بمساعدة جارهم الممرض الذي تطوع لرعايته قدر المستطاع.
ويتابع موسى بوصف أعراض الانسحاب التي تظهر في شكل آلام وانعدام القدرة على الرؤية “إلى درجة فكرت أنني صرت ضرير” أضف إلى ذلك “اضطرابات المعدة، انتفاخ شديد في البطن، وتعرق شديد.” لم تؤثر مسكنات الألم العادية التي كان يحضرها جارهم في تخفيف الآلام التي يشعر بها موسى، في حين نجحت بعض المشروبات العشبية العادية كالكمّون المغلي التي كانت تحضره امه في التخفيف من حدة الانتفاخ في البطن. بعد أكثر من شهر على هذا الحال بدأت الآلام العضلات والعظام تخف، يوما ًبعد يوم بدأ موسى يشعر بالتحسن ويقول: “بدأ جسدي بالعودة إلى طبيعته لأكتشف عندها أنني مصاب بعدة آلام أخرى من بينها التهابات شديدة في الأسنان، والعظام. وبعد ما يقارب الأربعين يوماً، بدأت أستعيد عافيتي، وها أنا إلى اليوم اتعالج من الأمراض التي كنت مصاب بها. لا أشعر سوى أنني “ممنون لعائلتي ووالدتي على وجه الخصوص لأنها ساعدتني في تخطي هذه المرحلة من حياتي.”
أنا فخور بنفسي، فقد عاد احترام الناس لي وثقتهم بي، فعندما كنت أتعاطى الترامادول كان الجميع ينظر إليّ كمجرم
استطاع موسى بجسده الهزيل (لا يتعدى طوله 175 سم، ولا يزيد وزنه عن 60 كيلوغرام) من إيجاد عمل كنادل في مقهى بالقرب من بيته، وبعد هذه التجربة الصعبة التي مر بها، يقول “أنا فخور بنفسي، فقد عاد احترام الناس لي وثقتهم بي، فعندما كنت أتعاطى الترامادول كان الجميع ينظر إليّ كمجرم، ولا يثق بي أحد، كان هذا أكثر ما كان يؤلمني، شعرت أني منبوذ من الجميع ولولا أن عائلتي ساعدتني لظللت مدمناً، ولا أعرف ماذا كان سيحدث لي.”
“الآن تغير روتين حياتي، وابتعدت عن شّلة (مجموعة) الأصحاب القديمة الذين تعرفت عليهم عن طريق العمل في الأنفاق. والآن، والله أكره هذه السيرة، وأكره المرور حتى بالقرب من منطقة الأنفاق.” منذ أن أقلع عن الإدمان، يلتزم “موسى بعمله كنادل ليقوم بتوفير بعض المال على أمل أن يتمكن من الزواج خلال السنوات القليلة القادمة. بالرغم من تمكّن الشاب موسى من الإقلاع عن المخدرات بشكل فردي، وقد وفر له دعم ورعاية عائلته له حاضنة مهمة قدمت له الحد الأدنى من الدعم الطبي، وكذلك النفسي والاجتماعي إلا أنه هناك عشرات من الشبّان الذين نبذتهم عائلاتهم بعد تورطهم في تعاطي المخدرات، الشاب محمود خ. (23 عاماً) هو واحد من هؤلاء الشبان الغير محظوظين ويقول إنه حين اعترف أمام عائلته بأنه مدمن على عقار الترامادول وأنه قرر الإقلاع ويرغب في أن يقدموا المساعدة له، رفضوه، وطردوه من البيت، ويضيف محمود الذي كان يسكن مع إخوته ووالديه في “حي السلام” شرق مدينة رفح:” انقطعت عن الجامعة، واضطررت للعمل في تجارة المخدرات من أجل توفير المزيد من المال كثمن للجرعة.”
ومازال محمود في المرحلة الأولى من الإدمان، حيث تصل جرعته إلى قرصي ترامادول يومياً. وكان محمود قد أنهى المستوى الثالث من تعليمه الجامعي في كلية الصيدلة قبل أن ينقطع عن الدراسة، حيث توقف أهله عن دفع تكاليف دراسته بعد أن اعترف لهم بأنه مدمن على الترامادول: “في كل مرة أحاول فيها الإقلاع، لا أستطيع الاستمرار أو تحمل أعراض الانسحاب، يوم أو يومين بالكثير، ومن ثم أعود للتعاطي،” ويتابع: “يا ريت في مصحة أروح عليها لتساعدني،” ويضيف ساخراً:” بس خلص صرنا مدمنين، مافيش فايدة.”
More
From VICE
-
Rebecca McBride -
Michaela Vatcheva/Bloomberg/Getty Images -
The Messenger Birds -
Screenshot: Summerfall Studios