مازال الطرح الفني لمفاهيم الجسد والجنس محدودًا جدًا في العالم العربي، نظرًا لعدة اعتبارات لعل أهمها أن المجتمعات ليست مؤهلة بعد للخوض في هذه المسائل بكل موضوعية. المخرج المسرحي التونسي منصف زهروني قرر كسر هذا الجليد وخوض تجربة مسرحية بعنوان “عبور” أو TranStyX والتي تغوص بعمق في عالم العابرين جنسيًا، وتنقل رحلتهم الشاقة من خلال تجربة “تينا” الفتاة التي ولدت في جسد ذكر لم تشعر بالانتماء إليه، فقررت التمرد عليه والعبور إلى الجسد الذي تشعر بالانتماء إليه عبر إجراء عملية تغيير الجنس ولكنها توفيت خلالها.
أستطيع القول أن الفضول حملني لحضور هذا العمل الذي بدا لي من خلال بعض الآراء والمشاهد مستفًزا ومحفزًا للتفكير، حتى أنه تغلب على مخاوفي من فيروس كورونا العائد بقوة هذه الأيام في تونس. هدأت من روعي بأن انتظرت أن يكون الحضور الجماهيري محدودًا في ظل حظر التجول الليلي والوضع الصحي الدقيق في البلاد، وبأن المسارح عادة ما تتخذ إجراءات وقائية، ولكن فوجئت بوجود حضور جماهيري كبير ونفذت التذاكر مسبقاً.
Videos by VICE
على الرغم من ذلك قررت أن هذا العبور المسرحي يستحق المجازفة، وكنت على حق، كانت خشبة المسرح بمثابة عالم سرمدي مظلم مع القليل من الإضاءة ومحاط بالتوابيت التي تفتح العين والذهن على الكثير من الأسئلة هل معنى ذلك أننا سنكون إزاء ممر محاصر بالموت أو أمام انتصار عليها.
المسرحية هي عبارة عن رحلة في المستقبل (من 14 يناير 2011 تاريخ ميلاد تينا حتى 2038 تاريخ وفاتها) تجري أحداث المسرحية خلال عملية عبور “تينا” إلى العالم الذي تمنته دائمًا، فامتزجت فيها الموضوعات بين الواقع السياسي والاجتماعي والوجع الذاتي المتمثل في تينا التي أنهكها حكم وحصار المجتمع والعائلة بمسميات الحلال والحرام والعيب.
اختار المخرج إسم “ستيكس” للدلالة على نهر العبور المظلم وأحد نقاط العبور في العالم السفلي في الميثولوجيا الإغريقية كفضاء لرحلة البطلة. في هذا النهر المظلم تخوض “تينا” رحلتها للعبور إلى العالم الآخر بمساعدة ملاكها “ستيلا” مستعرضة خلاله شريط ذكريات تسللت إليها من خلال الغيبوبة التي دخلتها وهي تعبر إلى الجسد الذي أرادته دائًما. توقفت لدى الكثير من المحطات والأشخاص وعرت الكثير من الجروح والأوجاع التي لم تكن في الحقيقة إلا تعرية لمجتمع تحكمه قوالب نمطية تأبى القبول والاعتراف بالآخر. باختصار كانت المسرحية بمثابة صرخة في وجه من يدعون امتلاك مفاتيح الحياة والموت والجنة والنار للتوقف عن رسم هذه الحدود والتقسيمات والتعاطي مع الآخر الإنسان دون تقييمات أخلاقوية ودينية وجنسية وغيرها.


“تينا هي تونس وتونس هي تينا وجع تينا هو وجع تونس والعكس،” يخبرني منصف، مخرج ومؤلف المسرحية: “لقد ارتأيت أن يكون هذا النهر المظلم أو “ستيكس” كترجمة لواقع العابرين جنسيًا في تونس الذين يمكن اعتبار أن حياتهم تسير في نفق مظلم لا يعرفون أين ينتهي بهم. و”الستيكس” أيضًا كتعبير عن البحر الأبيض المتوسط الذي يبتلع العابرين جنسًيا الذين حاولوا العبور بطريقة غير نظامية إلى الضفة الأخرى من العالم. وكذلك الشباب التونسي الذي دفعته الأوضاع الاقتصادية والاجتماعي المتردية لذات المصير، حينها يصبح البحر المتوسط هو الآخر بمثابة النهر.
ومن هذا المنطلق يشدد منصف على أن مسرحية عبور تحاول أن تسلط الضوء على رحلة عبور العابرين جنسيًا ورحلة عبور الانتقال الديمقراطي التونسي الذين يسيران إلى وجهة مظلمة ومجهولة على حد تعبيره.
لقد صَورت مسرحية “عبور” حياة المرأة في جسد الرجل فكسرت العديد من المحرمات بطريقة عقلانية وفلسفية، بعيًدا عن البكائيات نقلت وجع العابرين والباحثين عن هوياتهم الجنسية في ظل مجتمع يرفض أن يتقبلهم وطرحت الكثير من الأسئلة بذكاء دون الخوف من ردود الفعل المستنكرة لاقدامهم على الخوض في أحد المواضيع الحساسة.
سنية الهذيلي بطلة المسرحية (ممثلة شابة لها بعض الأدوار في أعمال سابقة) أو “تينا” أخبرتني أنها لم تخف مطلقًا من ردود الفعل بسبب تقمص هذا الدور، وتضيف: “ما أخافني هو عمق الشخصية. تينا لم تكن في ثوب الضحية ولم تسقط في مطب البكائيات التي يسهل أداءها عادة في الأعمال المسرحية، بل كانت قوية وجميلة ومثقفة وفنانة وعنيدة وصامدة أمام ضغوط العائلة المجتمع.”
وعندما سألتها عن توقيت العرض وردة الفعل، أشارت سنية إلى أنه لا يوجد وقت معين حتى يكون الجمهور مستعًدا لقبول طرح المواضيع المتعلقة بالجسد والجنس والهويات الجندرية: “من الضروري أن يكون هناك نقاشًا عاًما حول مسألة الحقوق والحريات برمتها ولا يهم إن تم استيعاب الأمر في البداية أو لا، المهم أن يحدث هذا النقاش لأن من شأنه أن يعدل الكفة بين ما ورد في الدستور وما يجري على الواقع.”


ويبدو أن الهذيلي محقة فيما ذهبت إليه لأن الجماهير التي قدمت بدوافع مختلفة لمتابعة العرض أستطيع الجزم أنها قد خرجت بتصورات جديدة وأسئلة محفزة على مزيد البحث والفهم. والعيون المتلهفة للمشاهدة في البداية سواء من أجل الفضول أو بدافع الرغبة في المعرفة أو تلك الرافضة بدت راضية وحائرة وهي تغادر. العبور الذي نثره زهروني مفتوح على الكثير من التأويلات والقراءات ولكنها حتما تلتقي في نقطة اسمها الذكاء الفني وقوة الأداء وعمقه.
هذه المسرحية هي عبارة عن مشروع فني يعالج مسألة العبور الجنسي وتشرف على تنفيذه جمعية زنوبیا للفن والإبداع وهي جزء من برنامج متكامل -بدأت أولى عروضها في أواخر السنة الماضية وعادت هذه الأيام- تتضمن كذلك تنظيم ورش عمل وحوارات مفتوحة مع الجمهور بعد كل عرض مسرحي. ومن المقرر أن يتمخض عن المشروع كتاب يتضمن نص المسرحية وحوارات مع بعض العابرين جنسيًا.
المسرحية التي بدأت من عيادة طبية بديكور تتصدره التوابيت وهي تحاصر المكان وظلمة تتجاوز مساحات الضوء في مشهد يوحي تارة إلى أن الموت يتربص بالبطلة والبلاد، وتارة أخرى إلى هزيمة الموت أمام إصرار “تينا” المتمردة المحبة للحياة، انتهت بجملة الطبيبة “مبروك تينا أنت الآن أنثى” ليكون كل ما حدث هو مجرد رحلة في ذهن “تينا” في موتها الكلينيكي. وكأن المخرج أنجز العمل في إطار رؤية مستقبلية ستشرق غدًا أفضل للعابرين وللبلاد.
More
From VICE
-
Screenshot: Nintendo -
Way more restful than the blaring alarm that Dwight is about to set off – Credit: Peacock -
(Photo by MPI/Getty Images) -
Screenshot: Stunlock Studios