منذ طفولتي -وكثيرين غيري- كنا نرى الفلسطيني أقوى من سوبرمان، يواجه الاحتلال الإسرائيلي بصدره العاري ممسكـًا بيده حجرًا يقصم به دبابة متوحشة. ولم تبتعد كثير من الأفلام والمسلسلات العربية والعالمية عن ثنائية التضاد، البطولة أو الإرهاب، فالفلسطيني يكون بطلًا مقاومًا على الشاشة العربية، وغالبًا ما يكون إرهابيًا على الشاشة الغربية، لكننا قليلاً ما شاهدناه كإنسان عادي يشعر بالضعف والخذلان كفرد وكعائلة. هذا ما حاول تقديمه مسلسل (Mo) بطولة الممثل الكوميدي الفلسطيني الأمريكي محمد عامر. والعمل من تأليف عامر مع الممثل المصري الأمريكي رامي يوسف الذي بدأ رحلته منذ ثلاثة أعوام مع مسلسل (Ramy).
على مدار ثمان حلقات من الموسم الأول لـ (Mo)، يحكي لنا محمد نجار قصته وعائلته لمحاولة الحصول على الجنسية الأمريكية بعد الرحيل من الكويت جراء غزو العراق مع مطلع تسعينات القرن الماضي. قصة مو قد لا تكون جديدة، فهي قصة آلاف وربما الملايين الذين يحلمون بالحصول على الجنسية في بلد “الأحلام والفرص” لكننا في المسلسل نقترب مع مو من تفاصيل حياته اليومية العادية، وربما نقول حياته المليئة بالخذلان والفشل والصدمات ونفل تفاصيل أسرة فلسطينية عانت التهجير من فلسطين ثم العراق أن تستمر في استكمال رحلتها بالولايات المتحدة.
Videos by VICE
يستخدم المسلسل الكوميديا كأداة للحديث عن السياسة، عن الحرب والتهجير، الأقليات وشعوب العالم الثالث التي تبحث عن حلم في الولايات المتحدة، فكان أبطال العمل جميعهم من الشعوب المهاجرة .. رجل فلسطيني يحب امرأة مكسيكية، شخصان يعيشان قصة الجدران والحواجز العازلة في قارتين مختلفتين، تشاهد بينهما مواقف طريفة، لكنها مثيرة للتفكير والتأمل. كوميديا تعبر عن الثقافة التي يعيش فيها الشخص تجربة إنسانية لا تمثل ثقافة الأهل أو البلد الأم، أو ما نسميه بـ Third Culture individuals، مزيج قد يكون مربكـًا لمن يعيش داخل الوطن.
مسلسل كوميدي لكنه غير واقعي
منذ طرح المسلسل على نتفليكس، اختفلت الآراء حوله وتبدلت، بين شعور كثيرين بأن مو قدم فلسطين والفلسطينيين في الغربة بشكل حقيقي لا يخلو من المتعة، وبين من رأى أنه طرح القضية بطريقة ساذجة. تقول إيناس يحيى، ٢٦ عامًا، متخصصة في المحتوى الرقمي من غزة، إنها وجدت المسلسل غير مقنع من حيث الحبكة والأداء التمثيلي وتضيف: “أرى أن العمل بَالَغ في بعض المشاهد مثل مشهد الفلسطيني الجالس مع اليهودي ويتناقشان بحق الأرض، هل هذا منطقي؟ كما أن طريقة حديثهم تبدو مصطنعة.”
في كتابة الكوميديا وأدائها، تظهر المبالغة بوضوح داخل العمل ضمن عناصر أخرى، مثل الميلودراما. لكن الكوميديا الذكية تعمل على استثارة العقل والمشاعر، وليس فقط الضحك. ودعونا لا ننسى أن محمد عامر بطل المسلسل أدى عروض الـ Stand up comedy لسنوات، وبالتالي فالكوميديا التي يقدمها على الشاشة قد تتأثر بهذا النمط.

هل يعيش الفلسطيني هكذا في الولايات المتحدة؟
هذا السؤال طالما يتردد عن حياة المهاجرين، وهل يمثلون بلد ما، والحقيقة أنه سؤال مربك ولا يمكن الإجابة عليه بشكل قاطع، فالفلسطينيون ليسوا كيانـًا واحدًا، وأهدافهم في الخارج ليست واحدة، فكيف يمكن أن نجعل من شخصية مو نجار وأمه يسرا وأخيه سمير ممثلين لفلسطين؟
التمثيل representation يختزل ويبسط تبسيطـًا مُخلًا في أحيان كثيرة، فـ(مو) لا يمثل سوى قصته، ورغم ذلك، قد يرى البعض أن المسلسل مَيَعَّ القضية الفلسطينية، وبعث رسائل تطبيع مبطنة. والسؤال هنا: هل سينجح مسلسل أمريكي -في نهاية المطاف- أن يُميع القضية وسط كل التطبيع السياسي والاقتصادي الذي نعيشه في المنطقة؟
تقول تالا حلاوة، ٣٣ عامًا، صحفية من رام الله عن المسلسل: “مو هو مسلسل كوميدي لطيف، لكني في البداية شعرتُ أنه إلى حد كبير مُبتذل خاصة مع استخدام تيمة مثل زيت الزيتون طوال المسلسل، كما أن المبالغة كانت سمة غالبة على العمل ككل. إذا أردنا قياس نجاح المسلسل، فهو ناجح بالمعايير الحالية، ومؤثر؛ لأنه يبرز تفاصيل حياة شعب يتم تجاهل وجوده، لكن في النهاية الموضوع ليس مجرد سينما وفن، هناك معادلات أكبر من ذلك تتعلق بالسياسة، لذا فتفاؤلي تجاه المسلسل تفاؤل حذر.”
وتتفق آية يونس، ٣٨ عامًا، موظفة في هيئة دولية من الأردن، مع تالا أن “المسلسل كوميدي خفيف، يركز بعض الشيء على قضية الفلسطينيين واللاجئين، مع وجود بعض المبالغة لأسباب درامية، لكنه في النهاية مسلسل عن شاب فلسطيني أمريكي، ولا يتحمل أكثر من ذلك.”
ليس ضروريًا أن يتمسك (مو) بكل تفاصيل فلسطين وحكايتها من ١٩٤٨ وما قبلها، فقد يتعلق أبناء هذا الجيل بقصة الوطن، لكنه لم يعشها. هنا تصير قارورة زيت الزيتون مبالغة سخيفة بالنسبة للبعض، لكنها قد تصير رمزًا لوطن عند بعض آخر. لم يطرح العمل مسألة الهُوية الفلسطينية عند (مو)، ففلسطين قد تتشكل من خلال ذكريات تغدو وتروح أو حفل زفاف تقليدي، أما الهُوية الحقيقية لـ (مو) فهي الهُوية المتشكلة في أنشطته اليومية ومعاناته لاستكمال الحياة في بلد لم يمنحه الجنسية.
علاقات (مو) المقربة بوالدته وأخيه وصديقته المكسيكية تشكل جزءًا من نظرته للعالم، فهو يريد أن يرعاهم جميعـًا، رغم أنه قد يفشل في رعاية نفسه. وكانت أم (مو)، أكثر الشخصيات تأثيرًا فيّ خلال الموسم، فهي تشبه الكثير من أمهاتنا في العالم العربي، الأم القوية الحنونة التي تهتم بأولادها البالغين، وتقدم النصح لهم حتى لو كانوا في سن الخمسين، وكثيرًا ما تبقى الصور النمطية الكوميدية عالقة في ذهنها، فالزواج من مكسيكية مسيحية قد يظل أسوأ في نظرها، وبالطبع الفتاة الفلسطينية المسلمة ستكون أفضل اختيار.. قصة كلاسيكية في كثير من البيوت العربية.
فرصة ليعرفنا العالم عن قرب
الجيد في مسلسل مو أنه صار نموذجًا يمكننا مشاهدته الآن على المنصات العالمية، فصرنا نشاهد قصة (رامي فاروق) الشاب المصري الأمريكي من الجيل الثاني، وتجربة (محمد نجار) الفلسطيني الأمريكي من الجيل الثاني في الولايات المتحدة.
مسلسل مو يأتي إلينا ضمن توجه واضح لمنصات عالمية تحاول جذب جمهور جديد حول العالم. فإنتاج منصة Hulu وعرضها لمسلسل Ramy، ثم إنتاج نتفليكس وعرضها لـ Mo يبرهن على أن التوجه للشرق الأوسط بات مهمــًا بالنسبة لهذه المنصات التي تنتج أعمالًا لجمهور يدفع المال للاشتراك ومشاهدة أشخاص يتحدثون نفس لغتهم.
إذًا، لم يعد أمرًا عجيبًا أو مبهرًا أن نشاهد قصصًا عن العرب المهاجرين للولايات المتحدة، فقد اعتدنا على مدار عقود مشاهدة قصص الأفارقة الأمريكان واللاتينيين والآسيويين الذي يعيشون في الولايات المتحدة، لكننا لم نعتد على مشاهدة تفاصيل الحياة اليومية لشخص عربي أو مسلم في الولايات المتحدة، خاصة بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١. وربما ما زاد من قبول المسلسلات عن العرب والمسلمين، التوجه الإنتاجي في هوليوود لتشجيع التعددية الثقافية والعرقية على الشاشة، وذلك من أجل مقاومة التوجهات الشعبوية التي حضت عليها إدارة دونالد ترامب.
أكثر ما لمسني في الموسم الأول من المسلسل هو علاقة (مو) بوالده الراحل، مصطفى، وكيف عاش حياته متوهمًا أن أباه تخلى عنهم، حتى أدرك أن والده رحل عنهم بسبب التعذيب، فيتحول ذلك السخط تجاه الأب إلى شعور عميق بالذنب والصدمة النفسية. هذا الخط الدرامي في المسلسل لا يحتاج أن يكون قصة عن شاب فلسطيني أو عربي كي نرتبط به، الأمر فقط يحتاج أن نشاهد الحكاية من منظور إنساني، بعيدًا عن الجنسية والحدود والجغرافيا.
Mo هو ابن هذه المرحلة الزمنية المضطربة، مرحلة الجائحة والشعبوية والهوس القومي، مرحلة الحروب الأهلية والحديث عن قطب جديد للعالم يجابه الولايات المتحدة.
Mo يعيش وسط كل هذا ويحاول أن يستمر، لكنه في الحقيقة يهرب من كل شيء لأنه لا يستطيع، لماذا عليه أن يتحمل مسؤولية كل شيء؟ هل هو أو غيره مسؤولون عن إنقاذ العالم؟ هو يستطيع بالكاد إنقاذ نفسه. أظن أن المسلسل نجح في خلق جمهور ينتظر الموسم الجديد، إذ استطاع أن يصنع توليفة من الكوميديا الإنسانية مجدولة بقدر من الإثارة والأكشن الذي يفشل فيه البطل دائمًا.. بطل عادي، فلسطيني نعم، لكنه ليس بالضرورة سوبرمان.
More
From VICE
-
Samsung Galaxy S25 Ultra – Credit: Samsung -
American rock band Garbage. (Photo via Paul Bergen / Getty Images) -
(Photo by Tom O'Connor/NBAE via Getty Images) -
Amr Bo Shanab/Getty Images