أتردد على واحة سيوة منذ صيف عام 2009، منذ الزيارة الأولى، خطفتني البيوت السيوية القديمة المبنية من الطين وجذوع النخيل. تقع واحة سيوة في أقصي الشمال الغربي لمصر، ولا تفصلها عن الحدود المصرية مع ليبيا إلا كيلومترات معدودة، ولمن لا يعرف؛ فإن سيوة واحدة من النقاط المصرية البعيدة عن أي عمران، ويمتلك سكانها طبيعة وثقافة وحتى لغة خاصة بهم.
بمجرد أن تهبط قدميك سيوة، إما أن تقع فى غرامها للأبد أو تشعر بالسخط على وجودك فى هذا المكان الفقير. قال لي صديق ذات مرة: “مالذى يعجب السياح فى هذه البيوت القديمة والشبابيك المُتساقطة، إنها تشوه منظر الواحة!”، لم يعد صديقي مرة أخري لزيارة الواحة، بينما لم تنقطع زياراتى لها، ومؤخراً قررت الهرب من القاهرة والعيش في بيت سيوى قديم. لكن ما الذى يلفت الانتباه فى هذه البيوت المتهالكة؟ يمكن للآلات أن تصنع مئات البيوت الخرسانية الجامدة، لكن البيوت السيوية من صنع الإنسان وحده، حاضرة فيها أخطاءه، روحه، لمسة يده، وقرارته، جدران غير مستوية، حلول معمارية تختلف من بيت لبيت، وأبواب لا تتشابه، لا بيت يشبه الأخر، لكل بيت حكاية.
Videos by VICE

الهروب من العاصمة
قبل عامين، تركت القاهرة لأعيش فى سيوة، ساعدتنى صديقتي الهولندية، فى إيجار بيت سيوي قديم، يملكه إيطالي، مبني من الطين والخشب، يتكون من ثلاثة طوابق، تربطني صداقة قديمة بعم حمزة، أقدم بان للبيوت السيوية القديمة، قال لي: بيوت الطين تقلل من درجة الحرارة، لا تحتاج إلى مروحة فى الصيف، فى أوقات الحر كنت أهرب من حرارة سيوة إلى داخل بيتي الرطب، كان السيويين يأتون لزيارتي ويتحسرون على بيوتهم الخرسانية التى تحول الحياة لجحيم خاصة مع الصيف، ذات مرة سألت قلت لصديقي السيوي، كل البيوت السيوية يملكها أجانب، فى حين سكان سيوة استبدلوها بـ مبانى خرسانية، قال لى عن ظهر قلب: “هل تريد أنا نبقي هكذا فى المتحف لترانا، نريد أن نعيش كما تعيشون”، قلت لنفسي: “لا فائدة من الكلام. كل منا يبحث عما ينقصه”.
على بعد أمتار من بيتى، كان هناك مقهى يحمل اسم “كافيه سلامة”، وهو واجهة فندق بيئي، مبنى من الطين والخشب، اسمه “الباب انشال”، كان لافتاً الطراز، دفعني الفضول للسؤال عن صاحب الفندق، هل هو أحد أبناء سيوة؟.. كانت الإجابة قاطعة: لا. خبير بيئي، من القاهرة، اسمه (منير نعمة الله)، هذا ليس المكان الوحيد الذي أسسه، بل يوجد فندق أكبر على بعد دقائق من هنا، اسمه “إدرار إملال”، زاره الأمير تشارلز، ولى عهد بريطانيا والعشرات من مشاهير العالم. تكلفة قضاء الليلة هناك 600 دولار، هل ما أسمعه حقيقي؟ هل هذا الرقم الضخم مقارنة ببقية فنادق الواحة لأن تشارلز زاه؟ لحسن حظى جاءتني الإجابة من (عماد فريد) أحد المعماريين الذين وضعوا الرسومات لهذا الفندق الفريد.

بحسب (فريد) الذى قابلته فى “الباب انشال”، فإن المنتج البيئي باهظ الثمن فى كل دول العالم. لذلك تبدو تكلفة الإقامة في الفندق مرتفعة لأنه بيئي تماماً، زاره الأمير تشارلز، وملكة بلجيكا، وفنانين عالميين.. لماذا؟ يجيب فريد: “لأن السياحة البيئية المعنى الحقيقي للسياحة، يمكن تسميتها سياحة الذكريات، حيث يمكنك أن تزور مكانًا يوفر لك ذكريات غير قابلة للتكرار، ولن تتوقف الناس عن زيارته، لأنهم عندما يسمعون عن مكان متفرد فى العالم يجذب الانتباه للزيارة والاكتشاف، قوة المكان أنه فندق بيئي 100% لكنه يقدم خدمة أعلى من مستوى فنادق 7 نجوم سواء في طريقة الأكل أو نوعية الأكل، هذه المعادلة جعلت شخصيات عالمية تزور المكان. لم أعد احتمال الانتظار. متى يمكن أن أذهب لمشاهدة الفندق؟ قال لي المهندس عماد، صباحاً يمكنك أن تذهب”.
فى ساعات الصباح الأولى، أمام أطلال مدينة شالي التاريخية التى سكنها الأمازيغ لقرون، تقف سيارة يدخل العمال فى صندوقها الخلفي، وأمامها يقف رجل بملابس سيوية تقليدية، وجسد ممتلئ وبشرة سوداء، اكتمل عدد العمال، طلب منى الركوب، تحركت السيارة لتخترق مزارع النخيل والزيتون، وفي الخلفية جبال الواحة وبحيراتها الملحية. بوابة خشبية يقف أمامها فرد أمن يسمح للسيارة بالدخول، اعتاد هذه الأيام على الزيارات اليومية للعمال، للانتهاء من التجديدات داخل الفندق الشهير، قبل انطلاق موسم استقبال السياح الذي يبدأ مع بداية فصل الشتاء؛ حيث تكثر الأقدام للسياحة فى سيوة. لا يزال الجبل العالى يخفى وراءه المباني.
يتحرك الرجل السيوي من مكان لآخر لمتابعة على سير العمل، اسمه حبوب جعفر، وهو مشرف العمال في الفندق، منذ تأسيسه عام 1994، هو كذلك أحد السكان الأصليين للمنطقة. يحفظ “حبوب” الذي تخطى الخمسين من عمره، خريطة البيوت كما يحفظ حروف اسمه، يعرف أصل كل حجر، أين كان، ومتى انتقل ليستقر في موقعه الحالي. يشير حبوب إلى أحد مباني القرية قائلاً: “هذا بيتنا لا يزال يحتفظ بنفس الاسم (دار حبوب)، وتنازلت عن أحد الغرف وسميتها باسم الأمير تشارلز، ولي عهد بريطانيا، عندما جاء لقضاء عطلة زواجه في الفندق”.

على مرمى البصر بحيرة مالحة، أشجار النخيل المتناثرة في أرجاء المكان، أتحرك إلى جوار حبوب، يشير إلى مقام (جعفر)، والذى سمي الجبل والمكان باسمه – نسبة لمقام أحد الأولياء الذي دُفن هناك – سألته عن سبب تسمية المكان أيضًا “إدرار إملال”، هى كلمات سيوية تعني بالعربية الجبل الأبيض، وهو نفس الجبل الذي يحتضن البيوت السيوية القديمة، تري شكل البيوت والحياة السيوية قبل قرون مضت، وكأنما هي صورة حية اقتطعت من الماضي. أراد مالك القرية أن تصبح نموذج مصغر لسيوة التى تغيرت ملامحها.
غرفة الأمير تشارلز
تحركت بحرية فى الغرف، زرت غرفة الأمير تشارلز التى نزل فيها عقب الزواج الملكي الذي جمعه بـ”كاميلا باركر” التي أصبحت دوقة كورنوال، الغرفة فى مقدمة مبان الفندق، سلم دائري يقودك للأعلى، مدخل صغير، الواجهة مفتوحة تري منها البحيرة على مدى بصرك، نوافذ صغيرة للتهوية، ثم يأتى باب الغرفة، ربما الأفضل أن نسميه جناح ملكي، مساحة كبيرة بها ثلاثة أسرة، إلى اليسار حمام أبوابه من الخشب والخوص، وحوض غسل الوجه، فوقه مرآة تحاوطها (الليف) الذى يستخرج من النخيل، الأرضية كلها من الخشب، والسقف من جذوع النخيل، إلى المنتصف من الغرفة التى تأخذ الشكل الدائري، يوجد سرير كبير قوامه كتلة من الملح.

بعرض الغرفة نوافذ صغيرة متراصة فى حائط من الحجر للتهوية و لدخول الضوء، وفى الجانب الأيسر سرير صغير، إلى الخلف سلم خشبى صُنعت جوانبه من أغصان أشجار الزيتون المتراصة، فى الدور العلوي سرير كبير أخر يتباعد عنه بأمتار سرير صغير. من أعلى يمكنك رؤية كل شىء بالأسفل، لا أبواب، لا حواجز. بالطبع هناك غرف أصغر، أبوابها من خشب الزيتون، لا توجد أقفال على الأبواب، فقط قطعة خشبية تحركها لتدخل، وتغلقها عندما تخرج، بالداخل لاشىء سوى: الخشب والملح والخوص وأشجار النخيل والزيتون.

تحركت باتجاه المطعم، مطعم صغير تطل طاولاتها على البحيرة، شربت فيها كوبًا من الشاي بحشيش الليمون، فى الخلف يقودك الطريق إلى باب خشبي صنع من خشب شجرة زيتون، بالداخل لوحات تغطي أغلب الفراغات على الجدران، تعكس اللوحات صور قديمة لشكل سيوة وهى فى عزلتها التاريخية، شكل الناس، البيوت، الحياة، وفى وسطها مائدة للطعام، بنيت المقاعد من الملح، يميناً يقودك الطريق إلى مبنى آخر، هو بالأساس مطعم تحيطه الشموع الموضوعة في قوالب من الملح، من كل مكان، وموائد فرعية موجود فى مساحة صغيرة محفورة فى الجبل، تشعر وكأنك تشاهد فيلماً تدور أحداثه فى العصور السحيقة، وقتها تذكرت رئيس مجلس مدينة سيوة، عندما سأل أحد الأهالى: ما أهم شىء يمكن أن أقدمه لسيوة؟ قال له بوضوح رؤية: أن تعيد سيوة لعشرين عاماً مضت. الناس تأتى إلى هنا لأنها تفتقد إلى حياة البساطة، تريد أن تعود للماضى.

فى المطبخ القريب من المطعم، يقود الشيف سليمان، مجموعة من الطهاة، عددهم ثلاثة. يعمل سليمان فى المطعم منذ 18 عاماً، بدأها في موقع عامل عادي، إلى أن وصل إلى درجة رئيس الطهاة، فالوجبات التي تقدم للزبائن لا تخضع لرغبتهم بل يوجد عنصر تشويق فى الأمر، فى بعض الأحيان يبلغهم الزبون بأشياء لا يحبها ليأخذها الطاهى بعين الاعتبار. يقول عليوة: “الأكل لا يتكرر، كل يوم وجبة جديدة، سواء الغذاء أو العشاء، فى الغذاء يكون الأكل نباتي، وفى العشاء: بط أو سمان أو لحوم، أما الإفطار فهو عبارة عن مربى الزيتون أو البلح أو كركديه أو المشمش أو الجميز، بالاضافة إلى الجبن واللبن والفاكهة، والباقى على حسب الطلب سواء من الفول المصري أو بيض.
“الأكل لا يشبه المطاعم الأخرى”، يقول عليوة، لذا يهتم مالك الفندق أن يكون الطعام فريداً، تحدث مناقشات قد تستغرق شهراً كاملاً في التفكير لطبق جديد، بين رئيس الطهاة وصاحب الفندق: “الأكلات قريبة من الأكلات السيوية القديمة، أما الخبرات اكتسبتها من الطهاة الذين سبقونى فى المكان، ومن صاحب المكان، الذى يحرص أن يكون المطعم هو أكثر عامل جذباً وإبهاراً للزبون”. يضيف عليوة ساخراً: “لا كهرباء فى الفندق، بالتالى ليس هناك ثلاجات، فالأكل لدينا طازج طول الوقت”. أما الفاكهة والخضروات تزرع فى أرض تجاور الفندق، كلها طبيعية، واللحوم يتم شرائها من القاهرة، أو فى المزراع الخاصة بالفندق التى تربى الماشية عند بعض المزارعين المحليين السيويين.
بيوت أصلية
أُعيد ترميم البيوت السيوية القديمة الموجودة بالمكان، واحتفظت بأسماء ملاكها الأصليين، لا أسوار، لا أقفال للأبواب، لا كهرباء، فقط بيوت مبنية من الملح والطين وجذوع النخيل، وحده ضوء القمر والشموع يضيئان المكان ليلاً، يمكنك أن تسترجع حياة السابقين، وأن تعيش لحظات من الراحة والاسترخاء، وتلمس شكل الحياة الماضية قبل أن تلوثها التكنولوجيا. تجربة مفيدة للعزلة، أفادتني التجربة ايضًا فى اكتشاف حاسة السمع، ضجيج العاصمة جعلها مهملة، لكن هنا عادت إلى حاسة السمع، يمكنك الآن سماع اصوات الكائنات الأخرى التى تعيش بيننا، والأهم أنه بإمكانك أن تسمع صوت ذاتك، هنا أدركت معنى جديد لهذا العالم، أنا مجرد عنصر من عناصر كثيرة، يأتيك اليقين بأنك مجرد عنصر ضمن عالم يعج بغيرك من بالحيوانات والطيور والاشياء. البشر ليس وحدهم على هذه الكوكب، أنت مجرد ضيف. رؤيتي للعالم تغيرت. يمكنني قول ذلك.

نقلت مشاعرى تجاه المكان إلى حبوب، ضحك وتذكر موقف غريب قد حدث له قبل سنوات، قبل أن يُبنى هذا الفندق بسنوات استضاف “حبوب” أربعة من السياح الأجانب، الذين تركوا سيوة بما رحبت من بيوت وفنادق، وقرروا أن يقضوا ليلتهم على ضوء القمر فى حجرة صغيرة من الخوص. لم يستوعب “حبوب” الفكرة، غير أنه وافق على طلبهم، وظل فى حراستهم طول الليل، المكان مهجور بلا كهرباء. ومع أول ضوء للفجر، استيقظ السياح وقاموا بالتقاط الصور الفوتوغرافية للبحيرة وقت الشروق، قال له أحدهم بثقة: هذا المكان سيكون له مستقبل، ضحك “حبوب” مما اعتبره محض مجاملة، وهو يسأل نفسه متعجبًا: “ماذا يوجد فى هذا المكان المهجور ليجعله يقول ذلك؟. لايهم. هي مجرد تخاريف”. لكن هذه “التخاريف” كانت أقرب إلى نبوءة تحققت.
مرت الأيام، وجاء (منير نعمة الله) باحثاُ عن مكان مناسب لتنفيذ حلم عمره، فى ليلته الأولى فى سيوة، أخذه الوقت فى الصحراء، بلا كهرباء، النجوم تنير المكان، راحة شعر بها وقال وقتها: “هذا ما أريده أن يعود الناس لحياة الأولين، حياة بسيطة بلا أي تعقيدات”. تحرك “نعمة الله” فى سيوة بطولها وعرضها، اختار المكان المناسب، لكن من بإمكانه إقناع الأهالي، أشار الناس عليهم بـ “حبوب”، ابن المنطقة؛ لإنهاء مهمة التفاوض مع الأهالى لبيع البيوت، استغرق التفاوض عامًا كاملًا. أخيراً اقتنع الأهالى. وقتها عاد لحبوب ما قاله له أحد الأجانب عن مستقبل هذا المكان. التخاريف تحولت إلى واقع. أخيرًا.

عندما عدت فى المساء، سمح لى صاحب الفندق (نعمة الله) من الوقت بعشرة دقائق، لانشغاله الدائم، لكن حديثه معى استمر ما يقرب من ساعة، حاسماً قال: لا أريد أن أسميه مشروع، لكنها الوصف الدقيق أنه مبادرة”، بفخر أضاف: ” لدينا فندق فى مصر يتواصل مع الطبيعية، ويحترم الموارد الطبيعية، فهذا النوع من البناء البيئى يكلم البشر، يخاطب أحاسيسهم”. بحزن يقول: “لقد نجحنا جزئيًا فى لفت الانتباه للمباني البيئية، وتبعنا بعض الفنادق فى سيوة، التى بنيت بمواد طبيعية، أثبتنا أنه باحترام التراث الطبيعي والبيئى، نستطيع أن نحقق بعض الربح أيضًا، بعد سنوات من العمل الدؤوب أصبحت سيوة علامة تجارية فى السياحة البيئية على مستوى العالم.
وفيما يلي مجموعة من الصور لمنازل ومعالم المنتجع البيئي:








More
From VICE
-
Samsung Galaxy S25 Ultra – Credit: Samsung -
American rock band Garbage. (Photo via Paul Bergen / Getty Images) -
(Photo by Tom O'Connor/NBAE via Getty Images) -
Amr Bo Shanab/Getty Images