هكذا يعيش اليمنيون الفارين من جحيم الحرب في مخيمات النزوح

نعيمة محمد النعيمي، امرأة في الواحد والخمسين من عمرها يصفها جيرانها بـ “المرأة الحديدية” بعد قيادتها رحلة نزوح شاقة مع أبنائها الأحد عشر، من مناطق الاشتباكات المسلحة بين الحوثيين وقوات الجيش الوطني التابعة للرئيس عبد ربه هادي منصور، والمدعوم من التحالف العربي، من منطقة نهم شرق صنعاء، لتصل بهم أقرب بقعة آمنة بإحدى ضواحي العاصمة صنعاء.

تمكنت نعيمة بمساعدة بعض المنظمات المحلية من العثور على منزل بإيجار معقول في إحدى ضواحي العاصمة صنعاء، بعد أن تكفلت المنظمات بإيجار البيت، إلا أن نعيمة لا تزال تعمل في بعض الأعمال الصغيرة لتدبر نفقات الحياة الضرورية لأسرتها الصغيرة. “هربت من موت إلى موت،” هكذا تصف نعيمة حياة النزوح، مضيفة: “كنت عايشه جنب أهلي وناسي وكانوا يساعدوني ويساعدون أبنائي الثمانية المكفوفين من وقت لوقت وكانوا يعاونوني في علاجهم ومصروفاتهم، ولما بدأت الحرب اضطرينا للهرب.” ربما وجدت من نعيمة من يساعدها ولو بالشيء القليل؛ إلا أن هناك الآلاف من النازحين ممن اضطروا إلى الخروج من منازلهم بسبب الحرب، والبحث عن أقرب ملاذ آمن، في ظروف أسوأ كثيرًا، ما ينذر بكارثة إنسانية مع استمرار حركات النزوح، وعجز المنظمات المحلية عن مساعدة الأعداد المتزايدة من نازحي الحرب اليمنية.

Videos by VICE

بلغ سكان اليمن 24 مليون نسمة وفقًا للتعداد السكاني عام 2004، ووفقًا للبيانات التي أعلنت عنها الأمم المتحدة في تقريرها عن العام 2017 فقد بلغ عدد النازحين في اليمن أكثر من 3 ملايين ومائة ألف نازح، ما يشكل نسبة 13% من إجمالي عدد السكان في اليمن. وتعكس هذه النسبة الأوضاع الصعبة التي يعيشها اليمنيين في ظل الحرب الدائرة منذ 4 سنوات، والتي شملت جميع محافظات اليمن باستثناء محافظتين. تأتي محافظة حجة في المرتبة الأولى من حيث عدد النازحين؛ حيث نزح منها وفقًا لتقارير الأمم المتحدة للعام 2017 أكثر من 467 ألف نازح. وتأتي مدينة تعز التي تشهد اشتباكات مسلحة منذ 3 أعوام في المركز الثاني حيث نزح منها أكثر 409 ألف نازح، تليها محافظة صعدة الحدودية والتي شهدت أعلى معدلات لقصف طيران التحالف واستمرار الاشتباكات في معظم مديرياتها إلى أكثر من 139 نازح.

الحرب أخذت مني صاحبتي ريم، وبسبب الهروب فقدت أصحابي في الحارة الذين كنت ألعب وأدرس معهم. متى ستتوقف هذه الحرب لأعود إلى حياتي وغرفتي وألعابي وصديقاتي ومدرستي؟”

استقبلت محافظة حجة أكثر عدد من النازحين بحكم قربها من محافظة صعدة وبعض مناطق ميدي، حيث استقبلت 416 ألف نازح أغلبهم من المحافظة نفسها وبعض مديريات صعدة، تليها أمانة العاصمة صنعاء، والتي استقبلت أكثر من 409 الف نازح من جميع محافظات الجمهورية. حتى من المحافظات الجنوبية، والتي شهدت اشتباكات مسلحة في العام 2015، تليها محافظة إب بحكم قربها من محافظة تعز، حيث استقبلت أكثر من 274 ألف نازح. وتشير مصادر محلية في العاصمة صنعاء إلى أن هناك أكثر من 18 ألف شخص نزحوا من العاصمة صنعاء إلى قراهم ومدنهم القريبة من العاصمة صنعاء، على خلفية الأحداث التي شهدتها في الثاني ديسمبر 2017 بين الرئيس السابق علي عبدالله صالح والحوثيين.

مخيم العكاشية للنازحين بمدينة حجة اليمنية

“أنا حلم النساء .. أنا اليمن .. أنا بنت اليمن،” بهذه العبارة ابتدرتنا رنا العياني (7 أعوام)، والتي نزحت من المحويت إلى العاصمة صنعاء مع عائلتها. رنا كانت تحلم بأن تكون طبيبة في المستقبل لتعالج نساء اليمن. تقول رنا أن بيتها تعرّض لقصف، سقط الصاروخ الأول بيت جيرانهم والثاني كذلك مما تسبب بتداعي بيتهم. تواصل رنا حديثها بحزن “هربت مع أبي وأمي إلى صنعاء، فلم نجد بيت نسكن فيه وليس لدينا المال لدفع إيجار بيت. في كثير من الأحيان ننام جائعين لأننا لا نمتلك ثمن العشاء.” وتتابع بحزن: “الحرب أخذت مني صاحبتي ريم، وبسبب الهروب فقدت أصحابي في الحارة الذين كنت العب معهم وادرس معهم.” وتنهي رنا كلامها بسؤال ليس له إجابه حتى الآن: “متى ستتوقف هذه الحرب لأعود إلى حياتي وغرفتي والعابي وصديقاتي ومدرستي؟”

أما عبد الله أحمد مرشد (49 عامًا) والذي كان يمتلك بقالة في مدينة حرض الحدودية بمحافظة حجة: “أنا أب لخمسة أطفال، وكنت أعمل في بقالتي وكنت مرتاح . مع بداية الحرب لم نكن نتوقع أن تكون حرض أول المحافظات التي تشتعل فيها الحرب، ولكنها بدأت فجأة حتى دون ما نستعد لها.” مرشد اضطر إلى الهروب بعد أن سقطت قذيفة بالقرب من منزله القريب من المنفذ الحدودي مع المملكة العربية السعودية: “أخذت أطفالي وزوجتي وأمي المريضة وذهبت بهم إلى عبس القريبة من حرض ولكن وضع المدينة في بداية الحرب لم يكن مناسبًا، فاضطريت أن آخذهم إلى مخيمات للنازحين في صنعاء، وتحديًدا في مدرسة شمال العاصمة.” وأضاف: “إدارة المخيم أعطوني فصل كامل من مدرسة كي أسكن فيه مع أسرتي، نحن الآن نعيش على التبرعات ومساعدات المنظمات الدولية وأنا أعمل في أعمال البناء من الصباح حتى المغرب بمقابل زهيد لكي أوفر لأسرتي الحد الأدنى من احتياجاتها.”

لم تمتلك فاطمة المال لإيجار منزل لإيواء أبنائها، فلجأت لبناء منزل صغير جدرانه من الطين وسقفه من الخشب والقش والحطب، لكنها لم تهنأ به طويلًا، إذ انهار منزلها تحت وطأة الأمطار بعد أسابيع قليلة من بنائه، لتنتقل إلى غرفة في منزل مجاور، بجانب أسرة يعيش أفرادها في الغرفة الثانية

لا يعرف عبد الله ما حل ببقالته والبضاعة التي كانت تحتويها، والتي يقدرها بأكثر من مليوني ريال. يقول عبدالله إنه أغلقها ولكن القذائف والقصف لا تعرف الأقفال، على حد تعبيره. “أتمنى أن لا تصاب الثلاجات والرفوف بأذى، أما البضاعة فقد انتهى أمرها في كل الأحوال لانتهاء مدة صلاحيتها. الله يعوض.”

فاطمة ذات الـ 35 عامًا، نزحت من محافظة صعدة – 243 كيلو متر شمالي صنعاء- إلى المخيم مع انتقال الصراع المسلح لمحافظة صعدة 2015، مع أولادها الثلاثة (أكبرهم 13 عامًا وأصغرهم 7 سنوات)، وزوجها الذي كان يعمل في إحدى مزارع البرتقال. تقول فاطمة :”نزحنا إلى المخيم هربًا من الموت الذي كنا نراه كل يوم في صعدة،” لكن واقع النزوح في المخيم كان لا يقل ألمًا عن آثار الحرب التي وجدت نفسها في قلبها هي وأسرتها الصغيرة. لم تمتلك فاطمة المال لإيجار منزل لإيواء أبنائها، فلجأت لبناء منزل صغير جدرانه من الطين وسقفه من الخشب والقش والحطب، لكنها لم تهنأ به طويلًا، إذ انهار منزلها المتواضع تحت وطأة الأمطار بعد أسابيع قليلة من بنائه، لتنتقل إلى غرفة في منزل مجاور، بجانب أسرة يعيش أفرادها في الغرفة الثانية.

حاول أكبر أبناء فاطمة إيجاد فرصة عمل لمساعدة عائلته على تدبير احتياجاتهم الأساسية، وهو ما يكلفه مشوار شبه يومي لمدينة عبس القريبة من المخيم، إلا أنه في معظم الأحيان يعود خاوي الوفاض نتيجة لسوء الأحوال وندرة فرص العمل. وهو ما لا تجد معه فاطمة إلا القول: “إحنا نعيش على ما تعطيه لنا إدارة المخيم من مساعدات قليلة يتم تدبيرها من مساعدات أهل الخير.”

يقول مرشد أن المخيم لا يتلقى الدعم اللازم من المنظمات الدولية التي تكاد لا تزوره إلا في حالات نادرة، وحتى إن قامت تلك المنظمات بزيارة المخيم فهي تقدم الوعود وتتحدث مع النازحين بغرض دراسة وضعهم دون أي نتائج ملموسة تخفف من معاناة سكانه

تتوزع مخيمات النازحين على العديد من المحافظات اليمنية، وبلغ عددها وفقًا لتقارير رسمية 87 مخيم نزوح في مختلف المحافظات، تأتي على رأسها محافظة حجة، تليها محافظات تعز وإب وأمانة العاصمة صنعاء. يعيش أكثر من مليون يمني حياة صعبة في المخيمات، إذ لم يتمكنوا كغيرهم من استئجار منازل بديلة، واضطروا للعيش في ما هو أقرب إلى العراء منه إلى مخيمات النزوح، مع فقر الإمكانيات وتضرر معظم أنحاء اليمن بالدرجة التي تجعل التفكير في ملف النازحين إغراق في الرفاهية، وسط الحرب والدمار والأزمات الاقتصادية.

نازحو مخيم العكاشية يتجمهون في انتظار توزيع مواد غذائية تبرعت بها إحدى المنظمرات الخيرية

ذهبنا في رحلة بعيدة إلى محافظة حجة، على بعد 123 كيلو مترًا شمالي العاصمة صنعاء، وتحديدًا مديرية بني الحسن حيث مخيم العكاشية، أحد أكبر مخيمات النزوح بالمحافظة بحكم قربه من محافظة صعدة ومديرية ميدي وحرض، والتي تشهد اشتباكات هي الأعنف في خريطة الصراع المسلح في اليمن، إضافة إلى مديرية حرض الحدودية مع السعودية والتي نزح جميع سكانها إلى مدن المحافظة والمحافظات القريبة كعمران القريبة من العاصمة صنعاء. قابلنا مدير المخيم علي حسن مرشد والذي تحدث بنبرة يكسوها الحزن على أوضاع المخيم الذي يعيش فيه أكثر من 2,000 نازح، أغلبهم من النساء والأطفال. قال مرشد إن معظم مساكن المخيم من الطين والقش والخيام غير الكاملة، ما جعله عرضة لأضرار شديدة مرتين بسبب الأمطار، ما جعل العديد من العائلات تجتمع في بيت واحد، الأمر الذي ضاعف المأساة.

طفل يغفو في فراش مصنوع يدويًا داخل خيمة أسرته بمخيم العكاشية أعلى فراش بقية أفراد الأسرة

وأوضح مرشد أن المخيم لا يتلقى الدعم اللازم من المنظمات الدولية التي تكاد لا تزوره إلا في حالات نادرة، وحتى إن قامت تلك المنظمات بزيارة المخيم فهي تقدم الوعود وتتحدث مع النازحين بغرض دراسة وضعهم دون أي نتائج ملموسة تخفف من معاناة سكانه النازحين الذين كأنما أدركوا ذلك مبكرًا، فعمدوا للاعتماد على أنفسهم في تدبير احتياجاتهم الأساسية. وأشار إلى أن سكان المخيم أنشأوا “مطبخ موحد” يتقاسمه أكثر من ألفي نازح. وأكد أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل امتد لإقامة فصول دراسية لعدم حرمان أبنائهم من التعليم. ووفقا لـ مرشد لا يزال المخيم يستقبل نازحين مع اشتداد المعارك في صعدة وميدي، ما يضاعف من تدهور الأوضاع الإنسانية. تعاني العديد من منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية من صعوبات عديدة في الوصول إلى مخيمات النازحين المنتشرة في العديد من المحافظات اليمنية، وبسبب تدهور الأوضاع الأمنية وإغلاق العديد من الطرقات بين المحافظات، أصبحت معظم المنظمات الدولية تعمل بشكل غير مباشر للوصول إلى مخيمات النازحين عبر شركاء محليين، حفاظًا على سلامة عامليها.

أفراد عائلة يمنية يفترشون الأرض لتناول وجبة الغداء بين الخيام التي يسكنونها

يتحدث فاتك الرديني، رئيس منظمة يمن للإغاثة الإنسانية والتنمية (منى) عن مشاكل عديدة تواجه المنظمات في الوصول إلى النازحين في مخيماتهم، بالإضافة إلى تركيز هذه المنظمات علي المخيمات بينما ليس جميع النازحين ينزحون إلى مخيمات، حيث ان هناك مئات من الأسر لا تستطيع الذهاب إلى المخيمات وأحيانا ترفض الذهاب إلى هناك، وخصوصًا إذا كانت هذه المخيمات بعيده عن المكان الذي نزحت منه، إضافة إلى ضعف آليات التنسيق بين المنظمات العاملة في المجال الإغاثي، حيث أنه قد نجد 3 إلى 4 منظمات تذهب إلى نفس المخيم في نفس الوقت، بينما نجد أن كثير من المخيمات لا تصل إليها تلك المنظمات بسبب غياب التعاون فيما بينها. في المجمل يؤكد الرديني أن العدد الكبير للنازحين في المخيمات يتلقون خدمات ضعيفة، ويعانون نقص كبير في الاحتياجات المقدمة لهم، ما يجعل حياتهم حياة صعبة لا يمكن تقبلها إلا من هؤلاء الذين لم يجدوا أي بديل سواها.