من المؤكد أنك صادفت تغريد يومًا في طريقك بأحد شوارع الرياض بحذائها الرياضي، الجاكيت الواسع غير المتناسب مع جسدها الضئيل، مع قبعتها الصبيانية، وسماعات الأذن. وربما ارتبكت قليلَا في تحديد إن كانت فتى أم فتاة، ففي أفضل الأحوال قد يعتبر المارة مظهرها الخارجي يعكس هوسًا معتادًا في سنها بنموذج غربي لمطرب أو مطربة من عالم البوب أو الهيب هوب.. لكن ماذا عن الشابة سارة، هل التقيتها يومًا في أحد شوارع البحرين، هل أفصحت لك خصلات شعرها الذهبي الطويل وطبقات الماكياج الثقيل على وجهها عن حقيقة ما تخفيه خلف مظهرها الأنثوي الطاغي. ما هو الحكم الذي ستكونه عندما تعلم أن الصغيرة تغريد قد فاجأتها الدورة الشهرية للمرة الأولى على حين دهشة وأنها تحاول الهروب من سجن تحولها إلى “حرمة” في عرف مجتمعها بإخفاء هويتها الجنسية تحت مظهر صبياني، وأن المظهر الأنثوي لسارة يخفي وراءه عشرات اللاصقات الهرمونية على جسدها الذي هو في الحقيقة جسد أحمد.
بهذه الجرأة الصادمة في الطرح تجري حكايات مجموعة من الأفلام القصيرة لمخرجين ومخرجات شبان من دول خليجية مختلفة أنتجت حديثًا وشاركت في مهرجان شرم الشيخ للسينما الآسيوية يحمل كل منها حكاية فريق عمل من صناع الأفلام الواعدين الذين قرروا دون اتفاق أن يغيروا وجه السينما الخليجية بذكاء وحرفية شكلًا وموضوعًا مقدمين على طرح الأسئلة وتصويب الأسهم المباشرة للهموم والشواغل المسكوت عنها ليس فقط في الخليج وإنما في العالم العربي بشكل عام.
Videos by VICE
السعودية هناء العمير… أغنية من؟
للوهلة الأولى ظننت أن فيلم “أغنية البجعة” للمخرجة السعودية هناء العمير محاولة لصنع فيلم آخر ملغم بالرموز هربًا من الاحتكاك بالواقع الملغم بالمخاطر، حتى أن بطل الفيلم الممثل المسرحي الذي يتحدث العربية الفصحى يرتدي طوال الفيلم إلا مشهد النهاية أزياء مسرحية تنتمي لعالم آخر في زمن آخر داخل ديكور ثابت لغرفة ما لعلها غرفة تغيير الملابس أو جانب من خشبة مسرح ويظل منخرطًا في مونولوج طويل عن مأساته مع العمر الضائع والشباب الذي ذوى وكيف حرمه المجتمع من حب حياته ومن كل شئ آخر ثمنًا لاختياره الفن طريقًا.

سيدور في ذهنك أن الفيلم هو محاولة جديدة لاقتباس نص تشيكوف “أغنية البجعة” دون أي محاولة لتعريب عالم النص لا على مستوى الشكل ولا المضمون. سيظل هذا الخاطر يلاحقك حتى تفاجئك مع شارة النهاية عبارة “إلى روح محمد العثيم.. لك وليس عنك” فتعيد النظر في قضية الفيلم كلها من الألف إلى الياء. فالمخرجة السعودية هناء العمير قلبت الآية إذ بدلًا من الحديث بلغة محلية عن شأن عالمي مشترك اختارت التخفي وراء قالب عالمي شديد التغريب لتحكي بصوت مبحوح ومخلوط بالألم حكاية للعثيم (1948-2018)، وهو واحد من أهم المسرحيين السعوديين إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، والذي فارق الحياة قبل أشهر قليلة من ظهور فيلم يهدى إليه إلى النور.
إنه احتفاء بخشبة المسرح التي حرم منها العثيم في منتصف الثمانينيات مع بروز تيار التكفير والتحريم ليكتفي بتأليف الكتب وتركيز جهوده في مجال الأفلام الوثائقية والبرامج التلفزيونية. والذي كانت آخر عباراته في حفل توقيع أعماله الكاملة بنادي الطائف قبل شهرين فقط من وفاته عن إصراره على الإمساك بالقلم حتى لحظته الأخيره، وأن جل ما كان يخشاه أن يغيب عن الحياة قبل أن يرى شيئ من هذا القبيل “أي التكريم”.. فهل كانت المخرجة السعودية صاحبة فيلم (شكوى) و(بعيدًا عن الكلام) تحاول تأمل تجربة العثيم من خلال بطلها المتشكك في جدوى اختياراته دون أن يقوى على فراق عشقه الكبير لخشبة المسرح أم أنها تعبر من خلال حكاية البطل، بطل فيلمها أو بطل الإهداء كلاهما عن مخاوفها هي ومخاوف جيلها من صناع الأفلام في واقع صعب أو حسب تعبيرها في أحد اللقاءات التلفزيونية “واقع نحاول من خلاله خلق شيء من العدم”.
أيًا كان الهم الذي فجرته فكرة فيلم أغنية البجعة لدى مخرجته التي شاركت أيضًا في كتابته فقد استطاعت بحرفية بالغة أن تحقق على المستوى التقني هدفها في تصوير الفيلم بالكامل في لقطة واحدة طويلة مدتها 18 دقيقة في موقع تصوير واحد لا يتغير، بينما تتغير أطياف الضوء وزوايا التصوير وملابس البطل بما يعنيه ذلك من خبرة وصبر وتمكن من إدارة فريق العمل. شهد الفيلم الذي أسندت بطولته للممثل السوري أسامة القس، عرضه الأول في سوق مهرجان برلين في دورته الأخيرة فبراير الماضي ضمن مجموعة هي الأكبر من نوعها للأفلام السعودية في المهرجان.
“عبور” ناجح للبحريني سلمان يوسف
يلعب المخرج البحريني سلمان يوسف خريج مدرسة لا فيميس السينمائية بفرنسا بعنوان فيلمه “عبور” على أكثر من مستوى، أبسطها الحادث المروري الذي أصاب سائق دراجة نارية عند عبوره الشارع واصطدامه بـ”سارة” قائدة السيارة. لكن العبور الحقيقي الذي يكشف عن نفسه تدريجيًا هو ذلك الذي يحدث داخل جسد وروح الشخصية الرئيسية التي نكتشف أنها عابرة جنسيًا على أرض الواقع دون أن تكون رحلة العبور تلك مثبته في الأوراق الرسمية، وهو ما يستدعي بدوره عبور آخر يحدث في وعي رجل الشرطة الذي ينتقل من حالة المتعاطف مع حسناء في مصاب، إلى الراغب في الانتقام من “متشبه بالنساء” حسب تعبيره، بينما يعبر رئيسه من حالة الدهشة والتشكك إلى تقدير واحترام كلمة العلم والقانون بدلًا من الاستسلام للمواقف الشخصية، بيد أن الشرطية التي كانت تبحث على الانترنت عن حكم لمس المتحول جنسيًا على سلامة وضوء المرأة انتهى بها الحال لاحقًا إلى دعمها بعباءة لتغطية ملابسها الممزقة.
جميع شخصيات الفيلم في حالة عبور متواصل، وكأنها محاولة لتوريط المشاهد أيضًا في حالة عبور ذهني إزاء القضية الشائكة في مجتمعنا العربي. فيلم عبور وهو الفيلم القصير الخامس لمخرجه يستخدم أسلوب الصدمة التدريجية المباشرة ليخضع كل الثوابت إلى الشك والتفكيك وإعادة النظر. يعتمد الفيلم على الأداء المميز للممثلين وعلى رأسهم سماح زيدان التي لعبت دور سارة. والفيلم هو انتاج بحريني بالكامل بالشراكة بين شركة “اليمنتس” و”نوران” للإنتاج السينمائي وهو الفيلم الثاني على التوالي الذي تتشاركان في انتاجه لسلمان يوسف بعد فيلمه “أشقر” الذي شارك في الدور 13 لمهرجان دبي، كما ساندت شركة نوران عدد من أفلام يوسف السابقة.
تريلر فيلم عبور:
“حلاوة” للسعودية هناء الفاسي
للمخرجة السعودية هناء صالح الفاسي (1983) تجربة ممتدة في التنقل والترحال بين البلاد والثقافات والمهارات أيضًا، فمن دراسة السينما بأكاديمية الميهي ثم الإعلام بجامعة عين شمس بالقاهرة، إلى أكاديمية نيويورك للفيلم بلوس أنجلوس، إلى سلسلة من ورش الكتابة ما بين الولايات المتحدة والأردن، ورغم سنها الصغير فقد أظهرت الفاسي نجاحًا ملحوظًا كمخرجة للأفلام الوثائقية التي عرض أغلبها عبر القنوات التلفزيونية، أو للأفلام الروائية حيث شارك فيلمها “حلاوة” في المسابقة الرسمية لعشرات المهرجانات حول العالم، وهي أيضًا مصورة ومنتجة عملت في عدد من شركات الإنتاج العالمية البارزة، بالإضافة لكونها كاتبة لها ديوان شعر منشور. لكنها في كل ذلك ورغم تحليقها المستمر مكانيًا وفنيًا تدور بوعي وحنكة حول تيمات شديدة الصلة بالمجتمع السعودي في كل ما تفعل.
“حلاوة” ليس استثناء من ذلك إذ يتعرض في 13 دقيقة بالتمام والكمال إلى مجموعة مكثفة من القضايا التي تبرز تناقض المجتمع والذي يدفع ثمنه النساء بالأساس ومنذ نعومة أظفارهن. 13 دقيقة بالأبيض والأسود لا يتخللها سوى اللون الأحمر، لون دماء الدورة الشهرية لبطلة الفيلم التي تُظهر بعين فاحصة وصورة جميلة وأداء تمثيلي متميز، صراع الهوية الجنسية في نفوس الصغار تحت وطأة الضغوط، وكيف يتحول الضحايا إلى جناة في متوالية القهر حيث الأم والصديقة والأخت تلعبن دور السيف المسلط على رقبة الصغيرة التي يؤرقها المرور من المراهقة إلى سجن البلوغ بشهادة الجميع.
ولا تتخلى هناء الفاسي عن شعور متواصل بالسخرية بداية من اللقطة الأولى حيث شعار “أختي لا تستطيعي أن تمنعيهم لكن تستطيعي أن تحمي نفسك” المنشور في جريدة تذيلها الصورة الشهيرة لحلوى اللولي بوب المكشوفة يحيطها الذباب مقارنة بالمغطاة. تسخر المخرجة التي شاركت أيضًا في كتابة السيناريو والإنتاج من حكمة “اللولي بوب” الكاذبة الشهيرة عندما تكشف الأحداث في النهاية عن شخصية المتحرش. وهي تتمكن ببراعة من التقاط حالة التوتر النفسي والقلق البالغ التي تعتمل في نفوس المراهقين العابرين إلى سن البلوغ، كيف يرون أنفسهم وكيف يراهم الآخرين، وهي منطقة على جرأتها وحساسيتها قلما اهتم بها صناع الأفلام العرب. “حلاوة” فيلم جريء ليس فقط بمقاييس المجتمع الخليجي بل والعربي أيضًا، وهو على جانب آخر يعكس نضجًا فنيًا لمخرجة سعودية وعربية واعدة بكل المقاييس.
تريللر فيلم حلاوة:
“وضوء” الإماراتي أحمد حسن أحمد
ربما اتخذ الإماراتي أحمد حسن أحمد قرارًا صحيحًا بالإقدام على خطوة إخراج فيلمه الروائي القصير الأول “وضوء” بعد مشاركته البارزة كمصمم مناظر ومهندس ديكور ومدير إنتاج موهوب في عدد من الأفلام الإماراتية التي حصدت الجوائز، خاصة كونه يمثل جيلًا واعدًا من صناع السينما الشبان الذين انطلقت من خلالهم قبل 15 عامًا بوادر حركة سينمائية جديدة في الإمارات، وهو ما يتضح من خلال النظر إلى شارة النهاية التي تضم أسماء فريق عمل الفيلم.
قائمة طويلة تضمنها فريق العمل، بينهم المخرج والمونتير والمنتج وليد الشحي الذي قام بمونتاج الفيلم والذي شارك فيلم من إخراجه “ضوء خافت” أيضًا في مهرجان شرم الشيخ، والمؤلف أحمد سالمين كاتب سيناريو كلا الفيلمين وشقيق المخرج سعيد سالمين أحمد علامات السينما الإماراتية الشابة، فضلًا عن كون أحمد حسن أحمد ينتمي لأسرة انخرط معظم أعضائها في المشهد السينمائي الجديد في الإمارات، ومن بينهم شقيقه المخرج والمنتج عبد الله حسن الذي شارك فيلم من إنتاجه “ولاده”، وهو الروائي الطويل الأول لمخرجه سعيد سالمين بالمسابقة الرسمية لمهرجان شرم الشيخ، وشقيقه الشاعر وكاتب السيناريو محمد حسن.
إذًا ينتمي أحمد حسن أحمد لمشهد السينما الإماراتية الجديدة قلبًا وقالبًا وخبرة وطموحًا، وهو ما انعكس على فيلمه الأول “وضوء” والذي جمع بين خبرة مخرجه التقنية والتسجيلية في تصوير ملامح من الثقافة المحلية بجمال ودقة بداية في لحظات الفرح والاحتفاء بالحياة كما الحزن والموت على السواء، وهو ما منح الفيلم ملمحًا تسجيليًا مبهرًا على روائيته.
كما غرق الفيلم في أجواء شاعرية ليست بعيده عن تلك التي يفضلها رفيق دربه المخرج ومونتير الفيلم وليد الشحي لتسيطر الصورة وتلقائية الحركة والإيقاع الهادئ الممتع دون ملل على الـ32 دقيقة مدة الفيلم مقابل القليل من الحوار الذي تركز في المشاهد الأخيرة، فكأنه مجموعة من اللوحات الفنية الرائقة والمرتبة بعناية، وهو ما سمح أيضًا بتمرير موضوع الفيلم برقة وشاعرية وبدون أحكام مسبقة، الاحتفاء بالحياة مقابل التعلق في تلابيب الموت، النظرة الضيقة لتعاليم الدين ومفهومه عن علاقة الإنسان بالحياة اليومية مقابل المبالغة في تقديرها وتجاهل المآل الطبيعي لجميع البشر.
لا يمكنك إزاء الجدل الفلسفي الذي يدور بشكل خفي ورشيق داخل تفاصيل الفيلم وجمالياته سوى أن تشارك شخوصه التفكير وتتوصل إلى أحكامك ، خاصة وأنه لا يبدو أن أيًا من أبطال الفيلم اللذين يتبنى كلا منهما رأي مختلف بأفضل حال من الآخر، لكنك في كل الأحوال لن تنجو من حالة السحر التي نسجها الفيلم في كل تفاصيله ليأخذك إلى عالمه دون أن تشعر بأن نصف ساعة قد مرت، فكأن “وضوء” هو المرادف لدقائق صافية من اغتسال الروح في جمال المنظر والرؤيا ينبئ بأن السينما الإماراتية اكتسبت مخرجًا جديدًا وجديرًا.
تريلر فيلم وضوء:
“ضوء خافت”.. مغامرة إماراتية جديدة لـ”الشحي”
يجمع “ضوء خافت” في ثمان دقائق سنوات طويلة من الخبرة والقدرة الدائمة على المغامرة لمخرجه ومنتجه وليد الشحي الذي قام أيضًا بكتابة السيناريو والتصوير والمونتاج. الشحي هو واحد من علامات المشهد السينمائي الإماراتي وحلقة وصل بين أجيال متقاربة في العمر ومتباينة في التجربة، وهو فوق ذلك اكتسب بمعنى الكلمة صفة الناشط السينمائي الذي من النادر ألا تجد اسمه بين قوائم المشاركين في هذه المبادرة السينمائية أو تلك إن لم يكن هو شخصيًا صاحب المبادرة.
المُتابع لمسيرة الشحي سيدرك أنه مهتم بالأساس بالتجريب ومحاولة اجتياز آفاق جديدة في كل تجربة، تسجيلية أو روائية، فضلًا عن ميله للتلميح دون التصريح وهو ما يقرب بينه وبين الرمزية أكثر من غيرها تاركًا للمتفرج فرصة التأويل دون أن يحرمه من متعة الجمال، وفيلمه “ضوء خافت” ليس استثناء إذ يبهرنا الشحي باختياره تقنية الستوب موشن أو “إيقاف الحركة” في التعبير عن فكرة تترك في نفس المشاهد أيًا كانت جنسيته أثرًا من الصعب ألا يكون مرتبطًا بذكرى أو خاطر يخصه، دون أن تخلو الصورة من تفاصيل نابعة من البيئة المحلية، بينما يترك المخرج لنفسه المجال عن طريق التعليق الصوتي لمشاركة المتلقي بعض أفكاره وهواجسه دون نية في إطلاق الأحكام.
اعتاد الشحي على نيل الجوائز منذ أفلامه الأولى التسجيلية والروائية في بداية الألفية، غير أنه لا يتردد في أن يقدم على مغامرة جديدة تحسب له، كما تحسب للمشهد السينمائي الإماراتي المدرك لطبيعة اللحظة بديناميكيتها ومرونتها والبعيد كل البعد عن الالتصاق بقالب جامد أو صيغة نهائية والمفتوح على الكثير من الخيارات.
More
From VICE
-
Google Nest Thermostat (4th Gen) – Credit: Google -
Screenshot: Starward Industries -
Screenshot: Bethesda Softworks -
DJI Mavic 4 Pro – Credit: Igor Bogdanov