“قلقك المستمر ينخرك من الداخل وأنت غير منتبهة،” هكذا أعلنتها لي طبيبتي بعد سلسلة من التحاليل لمعرفة سبب الألم المزمن الذي صرت أعاني منه مؤخرًا في بطني. جميع الفحوصات العضوية أتت سليمة. وضعت الطبيبة ملفي الطبي جانبًا وباشرت معي محادثة في منحى جديد. كانت جميع أسئلتها شخصية بشكل جعلني أتلعثم في مرات كثيرة قبل إعطائها إجابة مباشرة: كيف هي حياتك العاطفية؟ هل لديك حبيب؟ كيف هي علاقتك مع عائلتك؟ هل تواجهين مشاكل مادية؟ ثم جاء السؤال الذي وضع الملح على الجرح: كم هو عدد ساعات عملك في اليوم؟ توقفت للحظة لعد الساعات، رغم أنها مكتوبة بالخط العريض في عقد العمل. أجبتها “٨ ساعات، لا١٠ … لا لا ربما ١٢ أو ١٤… على حسب اليوم صراحة.” لم تمهلني تعابير وجهها الوقت لتحليل إجابتي. واستطعنا فك لغز أشهر من الآلام المزمنة مجهولة المصدر.
كمديرة مشاريع بدوام كامل وكاتبة مستقلة في ساعات ما بعد العمل، أصبحت صعوبات التوفيق بين أنشطتي اليومية تكبر يومًا بعد يوم: بين التزامي بممارسة الرياضة، وتخصيص وقت لتعلم لغة جديدة، دون الحديث عن باقي مسؤوليات العيش المستقل التي تلاحقني من كل حدب وصوب. هذا الضغط المستمر من أجل شطب جميع النقاط الموجودة على لائحة المهام، يجعلني أعيش في سباق لا نهاية له مع نفسي لأزيد من إنتاجيتي، وأنام وبالي مطمئن.
Videos by VICE
وحتى حين اقترحت طبيبتي عليّ أخذ ثلاثة أيام راحة والابتعاد تمامًا عن أي عمل أو نشاط يتطلب مجهودًا بدنيًا أو عقليًا، ألححت عليها كي لا تكتب لي أي أجازة طبية وأن يقتصر علاجي على الأدوية فحسب.
في تلك اللحظة، أدركت أنني ضحية الإنتاالإنتاجيةجية السامة.
ما هي الإنتاجية السامة؟
لم أسمع قط بهذا المصطلح قبل أن تذكره لي طبيبتي بعد تشخيصها لحالتي. وكأي ابن جيل ألفية يُحترم، لجأت إلى المكان الوحيد الذي نجد فيه أجوبة لجميع أسئلتنا: العم غوغل.
تعرف سيمون ميلاساس، مدربة أعمال وكاتبة، الإنتاجية السامة على أنها “رغبة غير صحية في العمل والإنتاج بكل الوسائل وفي جميع الأوقات وبأي ثمن. الحاجة للقيام بهذه الخطوة الإضافية حتى لو لم يكن ذلك متوقعًا منك.” وتضيف: “الإنتاجية في هذه الحالة لا تنتهي بمجرد انتهاء المهمة. ولكن فور انتهائك من العمل أو المشروع، يراودك شعور بالذنب لعدم القيام بأكثر مما قمت به. فعندما تحيط بك الإنتاجية السامة، فأنت تركز على لم تقم به عوضاً عن ما نجحت في إنجازه.”
وترى اريكا فرست، أخصائية نفسية في الإنتاجية السامة ومؤسسة منصة مودالي أن هذا السلوك متجذر في ثقافة العمل السامة التي تحيط بنا، وتقول: “الثقافة التي نعيش فيها تمجد الموظفين المنتجين بطريقة سامة. يمكنك الاتصال بهم في أي وقت وسيقومون حتمًا بالرد عليك.”
حتى تكونوا فكرة شاملة عن الموضوع، تستطيعون القول أنكم تعانون من الإنتاجية السامة إذا كانت إجابتكم نعم على الأسئلة التالية:
- هل تحسون بتأنيب الضمير عند انتهائكم من مشروع ما بحجة أنه كان بإمكانكم تقديم المزيد؟
– هل تجدون صعوبة في إيجاد وقت فراغ من أجلكم لممارسة هوايتكم أو أي نشاط اجتماعي بعيد عن العمل؟
– لا تستطيعون التوفيق بين حياتكم العملية وحياتكم الشخصية؟
– هل تجيبون على إيميلات واتصالات العمل بعد ساعات الدوام وفي وقت متأخر من الليل؟
– هل تقومون ببرمجة لقاءات على تطبيق زووم حتى في حالة كان بإمكانكم إرسال بريد إلكتروني، خوفاً من أن تظهروا بأنكم غير مهتمين؟
– هل تحاولون طوال الوقت إظهار أنكم ملمين بكل جوانب عملكم أمام زملائكم؟
إذا كانت الإجابة نعم على أي من هذه الأسئلة، فأنتم في مراحل متقدمة من الإنتاجية السامة.
كيف أصبحت حياتنا تدور حول الإنتاجية كيفما كان الثمن؟
إذا لم تجعلكم هذه الأسئلة تفكرون مليًا قبل الرد على الاتصال الهاتفي الذي جعلكم تنطون من طاولة العشاء من أجل إرسال هذا “الملف المستعجل” فدعوني أفجر قنبلة أخرى أمامكم. الإنتاجية المفرطة تسبب الإدمان.
كيف؟
ما يحدث هو أن جسمنا بطريقة طبيعية، ينتج هرمون الدوبامين فور انتهائنا من إنجاز مشروع ما، وبالتالي فإن الشعور بالسعادة والغبطة يزداد وهو ما يجعل مستويات الأدرينالين والتركيز عالية بشكل مستمر بعد سلسلة من الإنجازات الصغيرة. مع الوقت، يصبح الجسم متعودًا على هذه المستويات العالية وهو ما يجعله في حالة متأهبة لاستقبال المزيد من الدوبامين والأدرينالين باستمرار وبجرعات أعلى.
العمل من البيت في ظل جائحة كوفيد-١٩ فاقم من مشكلة الانتاجية السامة العمل من البيت في ظل جائحة كوفيد-١٩. أنا عن نفسي، اختلط الحابل بالنابل لدي خلبال فترة الحجر المنزلي. كنت أستيقظ على الساعة الثامنة صباحًا لأتناول فطوري بسرعة قبل بدء الدوام الافتراضي على الساعة التاسعة، واستمر بالعمل حتى ساعات متأخرة من الليل قد تصل إلى العاشرة أو الحادية عشر مساءً. كنت أصر طوال الوقت على الرد على جميع الرسائل والمكالمات والإيميلات بدون تأخير، حتى تتأكد مديرتي في العمل أنني لا أقضي نهاري على شبكة نتفليكس.
بشكل ما، أصبحت الإنتاجية بوابة نجاتنا من آثار الجائحة النفسية التي ألمت بنا. نظامنا العصبي كان يحاول أن يشعرنا بنوع من الأمان عبر مساعدتنا على التحكم قليلًا بحياتنا بعدما قُلِب روتيننا اليومي رأسًا على عقب. لكن مع الوقت، تحول هذا الوضع الذي كان من المفترض أن يعيننا على تجاوز تبعات فترة كورونا، ليصبح عادتنا الجديدة أو The new normal.
والحقيقة أعمق مما تكون إرضاء المدير، بل إنها تصل إلى بيئة العمل السامة المرتبطة بالنظام الرأسمالي الجائر. فإذا كان عمل البعض منا يقتصر على الإجابة على بضعة رسائل، هناك أشخاص يرتبط راتبهم بقدر العمل الذي يقومون به. لا خيار أمام هؤلاء سوى العمل لساعات طوال من أجل جني ما يكفيهم من المال لعيش حياة كريمة.
مدى إنتاجيتك غير مرتبط بقيمتك كشخص
أن تكون منتِجًا هو أمر جيد، أن تكون منتِجًا فوق اللزوم هو أمر سيء… سيء جدًا. عندما نركز بشدة على تحسين أدائنا الشخصي، فإننا في واقع الأمر نخاطر بأن نكون أقل إنتاجية وقد نصطدم في نهاية المطاف بجدار الاحتراق الوظيفي. تشير مجموعة من الدراسات أن التوتر المزمن المرتبط بالعمل يؤدي إلى الاكتئاب والقلق، ويرفع من احتمالية الإصابة بسكتات قلبية، ومرض السكري نوع ٢، وكذا ببعض أنواع السرطان ومجموعة أخرى من الأمراض النفسية والعضوية. بكلمات أخرى، ساعات العمل الطويلة قد تتسبب بموتك.
أولًا، يجب أن تعلم أنه من غير الطبيعي أن تشعر برغبة ملحة بشكل دائم بالقيام بكل شيء إلى أقصى حد وكيفما كان الثمن الذي تدفعه. هذا الثمن الذي يكون في غالب الأحيان هو صحتنا النفسية والجسدية. فبحسب مجموعة من الدراسات، لا يمكن إكلينيكيًا التفريق بين الاكتئاب والاحتراق الوظيفي لما لهما من خصائص مشتركة، ولكنه يسمح لك بالحصول على إجازة إذا تم تشخيصك به في السويد. وهذا الشهر، أصدر البرلمان البرتغالي قانونًا يحظر إرسال الرسائل النصية للموظفين بعد انتهاء أوقات العمل، حيث قد يواجه أرباب العمل عقوبات مالية للاتصال بالعاملين خارج ساعات العمل.
لعل أكبر عدو لنا هو العمل النشط، أو عندما نقوم بنشاط ما لتمضية الوقت والبقاء مشغولين، دون أن يكون لهذا النشاط أي قيمة فعلية بالضرورة. فالإنسان بطبعه كائن كسول يبحث عن أقصر الطرق لإنجاز مهمة ما. هذه الحقيقة تجعلني أنا شخصيًا أماطل للقيام بعمل ما، فتجدني أسابق لإنهائه ساعات أو أيام قليلة قبل موعده النهائي بالرغم من أنني كنت أتمتع بالوقت الكافي للاشتغال عليه براحتي. هكذا تتراكم المهام في جدولي اليومي ويصبح من الصعب عليّ التوفيق بينها جميعًا في يوم واحد، في حين أنه كان بإمكاني تقسيمها إلى أهداف صغيرة على طول الأسبوع.
وبالرغم من أنني أنجح في إنهاء كل ما عليّ في الوقت المحدد، إلًا أن الشعور بالذنب يبقى يطاردني للقيام بأنشطة أخرى لزيادة إنتاجيتي والتكفير عن خطئي، وكأن قيمتي ومدى كفاءتي مرتبط بالأساس بكمية الأشياء التي أنجزها في أقل فترة ممكنة.
في الواقع، لا يمكنني تخيل ساعة واحدة من يومي وأنا لا أقوم بأي شيء “نافع.” حتى عندما أشاهد فيلمًا أو مسلسلًا، فأنا إمّا أطهو طعامي في نفس الوقت أو أقوم ببعض الأعمال المنزلية أو أمارس بعض الحياكة. لا تأخذوا نظرة سلبية عنّي، لي أيضًا بعض الهوايات التي أمارسها بشكل يومي. مثلًا لا يمكن أن يمر يومي بدون ساعة من التمرين مع رفع درجة الصعوبة تدريجيًا كل أسبوع، أو المطالعة لإتمام هدفي الشهري بقراءة كتابة واحد على الأقل، أو تعلم ثلاث عبارات كحد أدنى يوميًا باللغة الجديدة التي أتعلمها.
أعي تمامًا أنه من الصعب تغيير نمط حياة بأكمله بين ليلة وضحاها. ولكني أفهم جيدًا جدية الوضع الذي نسج خيوط مخاطره حول صحتي بالدرجة الأولى، لهذا أصبحت أخطط لأسبوعي كاملًا قبل بدايته، وأخصص ساعة يوميًا لنفسي، لأقوم بـ nothing أو أخذ فقط غفوة قصيرة على الكنبة. خلال هذه الساعة أضع جميع أجهزتي على وضع “عدم الإزعاج” وأستمتع بعمل لا شيء.
لقد حان الوقت حقًا للتوقف عن نشر ستوريز أو صور لمكان عملنا أو صورة اللابتوب مع عبارات من قبيل “وقت العمل” على الساعة الحادية عشر ليلًا أو في منتصف الليل، وكاننا ننتظر تصفيقًا أو وسامًا حكوميًا على هذه التضحية الجبارة التي للأسف، لا زلنا نراها على أنها إنجاز عظيم يرفع من قيمتنا كأشخاص.
لعل أكثر ما يجعلني أكثر فخرًا بنفسي الآن هو قدرتي على قول “لا” لكل الأمور التي لا أستطيع أو لا أريد القيام بها حقًا. وكما تقول اريكا فرست: “لا أحد يحب سماع كلمة لا. لا رؤسائنا في العمل أو عائلاتنا وأصدقاؤنا. لكن في بعض الأحيان، هذه الكلمة هي ما تحتاجه لحماية نفسك وصحتك.”
More
From VICE
-
Screenshot: Shaun Cichacki -
CSA Archive/Getty Images -
Pavel1964 / Getty Images -
Mike Kemp/In Pictures/Getty Images