andrey-larin-Kodkas71tT8-unsplash
Photo by Andrey Larin on Unsplash


مقال رأي

عن كل الطرق التي تؤدي إلى مطار رامون

يتعرض الفلسطينيون لمعاملة مهينة من الدول العربية المجاورة عند السفر، حتى وصل الحال بفلسطينيين من قطاع غزة المطالبة بالسماح لهم السفر عن طريق مطار إسرائيلي

خلال الأيام الأخيرة الماضية، ضجت شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، للحديث حول ردود الأفعال والآراء والتصريحات بعدما خرجت أول رحلة طيران من مطار رامون الإسرائيلي لفلسطينيين من الضفة الغربية المحتلة بدلاً من استخدام معبر الكرامة –جسر اللنبي- مع الأردن. بين أخلاقية السفر من خلال مطار إسرائيلي، وبين أحقية الفلسطيني في اختيار طريق السفر الأقل إهانة في بلد محتل، وبين وهم وجود "خيار أصلاً" للفلسطيني للتحرك من نقطة ألف إلى باء بدون موافقة إسرائيل، تنوعت التعليقات والنقاشات.

إعلان

كُنت أتجنب الحديث حول الموضوع لولا تصريحات عضو مجلس النواب الأردني خليل عطية خلال مقابلة تلفزيونية والتي انتقد فيها صمت السلطة الفلسطينية عن استخدام مطار رامون، وتسيير أول رحلة للفلسطينيين، وقوله بأنّ مؤامرة إسرائيلية تجري على معبر الكرامة لإجبار الفلسطيني على استخدام رامون.

قول عطية أنه "سيعمل على منع أي فلسطيني سافر عن رامون من دخول الأردن" هو محط استغراب وسخرية، لأنّ الأردن هي التي تقيد حركة سفر سكان الضفة الغربية وغزة بشكل خاص عن طريقها. هل يعلم النائب الأردني بإجبارنا الحصول على "عدم ممانعة"؟ ولماذا لم يعمل كنائب على إلغائها وإجبار حكومته التعامل مع الفلسطينيين بذات المعاملة والتساوي؟

يتعرض الفلسطينيون لمعاملة مهينة من الدول العربية المجاورة عند السفر، حتى وصل الحال بفلسطينيين من قطاع غزة المطالبة بالسماح لهم السفر عن طريق رامون -وإن كان سيتعين عليهم الحصول مسبقًا على تصريح إسرائيلي لاجتياز حاجز بيت حانون. بطريقة أو بأخرى، ساهمت دول عربية بإجبار الفلسطيني على استخدام مطار رامون، وهذا رأي يحملع كثيرون يعانون عند السفر من سياسات الابرتهايد الإسرائيلية من جهة التي تمنع أي إمكانية لوجود مطار فلسطيني، ومن المعاملة السيئة من الدول العربية من جهة أخرى. سأتحدث عن تجربتي مع السفر كفلسطيني من قطاع غزة والتي قد تختصر تفاصيل الكابوس الذي يعيشه آلاف الفلسطينيين عند السفر.

في أكتوبر 2019، وصلت إلى عمّان بعد تحضيرات وإجراء معاملات استغرقت ثلاثة أشهر، بدأت المحاولات في الحصول على ورقة "عدم ممانعة" من دخول الأردن عن طريق السفارة الأردنية في رام الله، وهي ورقة يجب الحصول عليها فقط للفلسطينيين من سكان ومواليد غزة. استغرق الأمر شهر ونصف حتى حصلت على الموافقة ودفعت مقابل ذلك قرابة 45 دولار. للسفر عن طريق حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة ومن ثم الوصول لجسر اللنبي الذي يفصل الضفة الغربية عن الأردن، يجب الحصول على تصريح إسرائيلي، ولكن تم رفضي، ولهذا اضطررت للسفر عن طريق مصر.

إعلان

لم يكن وقتها الأمر من اختياري، بل كُنت مجبرًا على اتخاذ الطريق الأطول، والذي استغرق 46 ساعة من غزة للقاهرة وصولاً إلى عمّان، بدلاً من الخروج مباشرة عن طريق الضفة الغربية والذي يستغرق أقل من 20 ساعة.

شربت أقل من نصف لتر مياه طول الـ 22 ساعة، حتى لا أُجبر على قضاء حاجتي تحت شجرة أو في حمامات لم يتم تنظيفها منذ سنوات

بدأت تعقيدات السفر لسكان غزة منذ العام 2005 عندما انسحب الجانب الإسرائيلي من معبر رفح، وخلال السنوات التالية، لم يكن يفتح المعبر سوى أيام محدودة جدًا طوال العام، بعض تلك الأعوام لم تتجاوز عدد أيام عمل المعبر الـ 30 يومًا من 365 يوم عدد أيام السنة، هذا بالإضافة للمبيت لأيام على أرصفة وطرقات طريق سيناء، تحت أشعة شمس الصيف الحارقة، وأمطار الشتاء، دون توفير أيّ وسائل حماية أو معاملة إنسانية، وهو ما دفع الكثير منا لتجنب رحلات السفر المُذلة خلال تلك السنوات.

وفي يونيو 2022 الماضي، كُنت أنوي زيارة عمّان للمرة الثانية، لكن لم يحالفني الحظ، بسبب تغيير الإجراءات في التعامل مع سكان غزة، حيث أصبح لزامًا علينا تقديم طلب الحصول على "عدم الممانعة" من أقرباء درجة أولى في الأردن، وهو ما لم يتوفر لدي، إضافة لارتفاع تكاليف الحصول على تلك الورقة التي لا يعلم أحدًا منا عن سبب تخصيصها لغزة إلى ما يقارب الـ 130 دولارًا، وهي تكاليف تعادل تذكرة الطائرة من القاهرة إلى عمّان على سبيل المثال، ذلك ما يتسبب في بحثنا كفلسطينيين عن طرق أخرى ودول أخرى للسفر.

الحصول على "عدم الممانعة" يُفرض حتى على من يرغب بالسفر عن طريق مطار الملكة علياء واستخدام الأردن كمحطة مرور فقط لا إقامة، مما يعني أنّ الأردن تعمل على تقييد فُرصنا كفلسطينيين من غزة على السفر للخارج.

إعلان

بعدما استحال سفري لعمّان مؤخرًا، قررت تغيير وجهتي إلى القاهرة، عن طريق معبر رفح البري، ولسخرية القدر، تزامن خروجي مع إعلان مصر عن تسهيلات للمسافرين من غزة، لكنّ الأمر كان مرهقًا، صحيح أنّ الطريق أفضل حالاً من تجربتي الأولى عام 2019، لكن مازالت مصر تتعامل معنا بطرق مهينة واستغلال مادي.

لإجتياز معبر رفح، كان أمامي خياران للتسجيل، الأول التسجيل من خلال داخلية غزة والانتظار حتى وصول الدور على رقمي بالتسجيل للسفر، وهنا سأنتظر ربما شهر أو أشهر، الأمر مرهون بعدد المسجلين، وعمل ونشاط المعبر وعدد المسافرين اليومي، أي أنك كفلسطيني غزاوي لا تتمكن من اختيار توقيت السفر، بل هناك من يتخذ هذا القرار بالنيابة عنك.

أما الخيار الثاني، كان اللجوء عمل تنسيق من خلال دفع مبلغ مالي مقابل السفر خلال 48 ساعة من تقديم الطلب. وحتى التنسيق أنواع، التنسيق الأقوى، يكون عن طريق شركة سفريات تتبع لجهات عسكرية عليا مصرية، لها مكاتب في غزة والقاهرة، وتقدم خدمات سفر VIP. على المسافر تقديم أوراقه الثبوتية للشركة قبل السفر بيومين، وبمجرد الحصول على موافقة أمنية، ودفع مبلغ 950 دولار أمريكي –القيمة متغيرة حسب الوضع الأمني- للفرد شاملة كافة التكاليف –حتى لو كان عمره يوم واحد- يخرج المسافر مباشرة وخلال يوم واحد يصل القاهرة.

والخيار الثاني للتنسيق، يكون عن طريق أفراد لهم تواصل مع جهات في المخابرات المصرية، قبل يومين من السفر يرسل الاسم ويندرج ضمن كشف التنسيقات مقابل 200 دولار للفرد –في احدى الفترات وصل المبلغ لأكثر من 3 آلاف دولار للفرد- غير شامل تكاليف المواصلات وشيكات العبور وغيرها من التكاليف التي تصل بمجملها قرابة 200 دولار إضافة للمبلغ السابق، أي بالمجمل تقريبًا 400 دولار حاليًا.

إعلان

وهناك خيار ثالث، عمل تنسيق عن طريق بعض التنظيمات الفلسطينية دون مقابل، ولكن يتحمل المسافر تكاليف السفر فقط، وهو مخصص لأبناء التنظيم أو أصدقائهم، وللتوضيح تنسيق الـ 200 دولار والتنظيمات، لن يصل المسافر في ذات اليوم، على الأغلب سيضطر للمبيت في الطريق ليلة داخل السيارة أو الباص.

لكي أُسافر بحسب الوقت المناسب باختياري، كان لابد من اللجوء للتنسيق. نُشر اسمي في كشف التنسيقات، وسافرت للقاهرة في يوليو الماضي. كجزء من تسهيلات السفر، استغرقت الطريق من غزة إلى القاهرة 22 ساعة متواصلة، ما بين ساعات طويلة من الانتظار داخل الصالة الفلسطينية والمصرية، أو تحت أشعة شمس الظهيرة، حيث تصل درجات الحرارة في الصيف لـ ٤٠ درجة مئوية.

لم تتوفر أي وسائل تهوية أو راحة، قضيت منها 7 ساعات متواصلة واقفًا داخل الصالة المصرية دون تمكني من الحصول على مقعد بسبب الانتظار في طابور التسجيل، أو بسبب إزدحام المسافرين، لم آكل ولم أشرب إلا بالحد الأدنى، ساندويش وأقل من نصف لتر مياه طول الـ 22 ساعة، حتى لا أُجبر على قضاء حاجتي تحت شجرة أو في حمامات لم يتم تنظيفها منذ سنوات.

كانت المعاملة طوال الطريق، وكأننا في عربة عسكرية، السائق يحتفظ بجوازات السفر وممنوع علينا كمسافرين الاحتفاظ بها إلا بعد الوصول للقاهرة، ممنوع علينا التصوير أو استخدام هواتفنا الذكية خاصة عند اجتياز الحواجز العسكرية.

العودة لغزة هي حكاية معاناة أخرى.

العودة لها ثلاث طرق أيضًا، إما دفع 700 دولار والحصول على خدمة VIP، مع ذات شركة السفريات العسكرية التي ذكرتها سابقًا، أو دفع 35 دولار وتأمين الوصول خلال يوم في باصات مكيفة مع الشركة نفسها، وتحمل المسافر كافة التكاليف الأخرى، وتلك الطريقات حتى لو فكرت اختيار أحدهم، كان عليّ أن أنتظر 5 أيام بسبب الازدحام والحجز المسبق.

إعلان

كان أمامي الخيار الثالث –كلما ذكرت كلمة اختيار أسخر من نفسي، وكأنني فعلاً كُنت أملك الاختيار- حجزت العودة مع شركة تاكسيات مقابل 20 دولار للتوصيل. هنا تمكنت من اختيار يوم مغادرة القاهرة بإرادتي، لكن يوم الوصول إلى غزة لستُ أنا من حدده، حيث اضررت للمبيت ليلتان، الأولى على حاجز المعدية بالقرب من الإسماعيلية في منطقة شبه مقطوعة بين مزارع المانجا، والانتشار الكثيف للحشرات خاصة الذباب، وليلة ثانية في الشيخ زويد بالقرب من معبر رفح على رصيف أحد الشوارع بين المنازل والمباني المدمّرة بفعل الحرب التي عاشها السكان خلال السنوات الأخيرة.

42 ساعة متواصلة استغرقت طريق العودة، تحت أشعة الشمس الحارة، وليالي الصحراء الباردة، القليل من الطعام والشراب، والكثير من السجائر، مع صوت صراخ الأطفال وأنين العجائز، كنا بالعشرات في باصات، بعضنا اختار المبيت على الرصيف في مكان قريب من المعبر، وآخرون في مطاعم بعيدة بعض الشيء عن المعبر، لكننا جميعنا لم نتمكن من قضاء الحاجة إلا بين الأشجار، أو في مطاعم صادفتنا خلال الطريق.

لم أتمكن من التواصل مع عائلتي خلال الساعات الطويلة، ولم يتوفر إرسال الهواتف طوال الطريق، ولم أكن أريد استخدام الانترنت حفاظًا على شحن بطارية الهاتف لأطول فترة ممكنة، حتى وصلنا معبر رفح البري الساعة السادسة صباحًا. وكان علينا الانتظار في طابور طويل تحت أشعة الشمس حتى يفتح المعبر بعد الساعة التاسعة.

ربما من حُسن حظي أنني وقفت بداية الطابور كوني تحملت النوم على الرصيف في مكان قريب ووصلت مبكرًا. كان علينا جميعًا الانتظار، كُنا في طابور طويل يصل لقرابة كيلو متر، وعلى جانبي طريق الانتظار جنود مصريون في مواقعهم العسكرية.

فتح المعبر بعد انتظار على الأسفلت المقابل لبوابة المعبر، حاول البعض تجاوز الطابور، وآخرون لم يتمكنوا، دخلت الصالة المصرية بعد ساعة ونصف من بدء عمل الموظفين المصريين، لكنّ الطابور لم ينتهي، وتحول إلى طوابير، بداية من تفتيش الحقائب على الجهاز الإلكتروني والتفتيش الشخصي اليدوي، وطابور تفتيش الحقائب اليدوي، الذي يسير ببطئ.

أذكر يومها كانت تسبقني سيدة فلسطينية عائدة بعد رحلة علاج، وتحمل معها إبر ليست متوفرة في غزة اشترتها من القاهرة حتى تكفي فترة علاجها، وبحاجة إلى وضعها في ثلاجة –لا أعلم كيف استطاعت توفير التبريد للإبر طوال الطريق- سمعتها تقول للظابط "أرجوك، هدول إبر علاج دفعت عليهم 400 دولار، استعجل بدي أحطهم بالتبريد بلاش يفسدوا"، لكنّ الضابط كان بحاجة لإذن من مرؤوسه كي يسمح لها بحمل الإبر معها. هل يملك الفلسطيني خيار حقاً في ما يتعلق بالسفر؟

أعود للتفكير في تصريحات النائب الأردني والتي أعاد توضيحها لاحقًا، وأتساءل، ماذا لو اضطررت إلى زيارة الأردن للحصول على خدمة صحية أو عمل أو تدريب مهني، أو حتى سياحة؟ إلى متى سنضطر في غزة الحصول على عدم ممانعة وإجراءاتها المعقدة والتي تدفعنا البحث واللجوء لاتباع طرق أخرى حتى لو كان عن طريق رامون.