مقال رأي

من قال أن المكتئبين لا يحبون الحياة؟

نحن لا نرفع رؤوسنا إلى الأسقف نحن نخاف أن تسقط علينا، ندفن رؤوسنا تدريباً على موتنا، آملين أن يكون غير مرئيين للقاتل
epidersia-KFl5C4N4qco-unsplash

"اكتئاب؟" كان هذا السؤال الأول الذي لم تتردد السكرتيرة بسؤاله مباشرة، في زيارتي الأولى لطبيب نفسي. أكملت حديثها قبل أن أتكمن من الإجابة: "أغلب المراجعات هنا يعانين من الاكتئاب، لدرجة أنني أكاد أجزم أننا كلنا نعاني منه، هذا هو مرض المرحلة الجديد."

في داخل الغرفة، نصب الطبيب ظهره على كرسيه الجلدي الأسود الكبير الذي حجب الشمس عن عينيّ، وتناول قلماً أزرقاً وأخذ يسجل ملاحظاته. بكيت للمرة الأولى بعد عجزي عن فعل ذلك لستة أشهر متواصلة. بعد سماعي وتقييم حالتي، قال لي: أنت تعانين من اضطراب اكتئاب وقلق مختلط، لا تقلقي، المُبشر أن أغلب بنات جيلك من المراجعات يعانين من ذات الاضطراب، المُخيف فقط أنه مرض وبحاجة لعلاج جاد." وصف الطبيب حالتي بأنه "اكتئاب لا نموذجي." لا نموذجي، ها، أستحق جائزة لأن اكتئابي من خارج الصندوق.

إعلان

أخذت بروتوكول العلاج الذي اقترحه وخرجت منهارة. واستمريت بالبكاء حتى وصلت الصيدلية. لم يستغرب الصيدلاني حين طلبت منه المهدئات، وقال لي: "يتحسن الجميع على هذا الدواء، ثلاثة أسابيع وستلاحظين الفرق." عدت إلى بيتي مسرعة، تكومت على نفسي في فراشي، وكأنه المكان الوحيد الآمن في العالم، فتحت دفتر يومياتي وأخذت أعود إلى تواريخ كنت قد نسيتها، ففي الاكتئاب تصبح ذاكرتك أقصر، وضحكاتك أيضاً.

منذ ثلاثة أعوام:
أدور في غرفة ضيقة مظلمة وحدي
أدور وأدور، أدوخ ثم أسقط...

منذ عامين:
أحاول البحث عن المعتة فحسب، أشعر أحياناً أنني أتجول بحزام ناسفٍ على صدري، وعليّ أن أبقى حذرة... أعرف جيداً أنني لا أريد أن أموت هنا، هذه البلاد لا تشبهني.

منذ عام:
أكثر ما يخيفني الآن أنني أراقب نفسي، أنا ملكة التملص من المواعيد، والهروب من الالتزامات. مزاجي متقلب، وسريعة الغضب. أكتب لأنني أريد أن أهرب، وبدلاً عن ذلك أواجه نفسي على الورق.

منذ عام فقط أدركت أن ما أمر به هو اكتئاب، لم أرد بالبداية الإعتراف بذلك. ولكني كنت أعلم ماذا يعني تمامًا، الاكتئاب يشبه الشعور المفاجئ بالسقوط، أنت تتجه نحو قمة الجبل، وتعلم أن الهاوية بمثابة خطوات منك، ولكنك لا تستطيع التوقف. قررت الذهاب للطبيب النفسي، لأنني لم أعد أحتمل نوبات الهلع، والحزن الذي اعيشه والذي كان يمزق قلب أمي. كنت أريد النجاة، فلطالما أحببت الحياة. من قال أن المكتئبين لا يحبون الحياة؟ من وضع درجات الشجاعة بحسب سلم النجاة؟

في سوريا، النجاة تعني فقط قدرتك على البقاء حيّاً، وطالما أنك سلمت من رصاصة قنّاص، قذيفة طائشة، انفجار، فلا مبرر لك للتذمر على العكس يجب أن تشعر بالانجاز، فقد نجوت من الحرب. أنت حيّ، اشكر ربك على هذه المعجزة، اشكر القاتل على أنه تفاداك، واشكر الصدفة وغريزتك بالبقاء التي تدفعك لتنظر إلى اليمين واليسار قبل أن تقطع الشارع.

إعلان

لم أكن قادرة على مواجهة الحياة كناجية مثالية. كنت أنام معظم اليوم، أمارس هوايتي بالهرب، انتصر على اليوم، وأنهيه. فكرة الموت كانت حاضرة دائماً في بالي، وتعلمت التقاط نعوات المنتحرين، صرت أميّز الأمهات حين يكذبنّ، أسهل الكذبات "حادث سيارة" وأحزنها "أزمة قلبية." الحقيقة أننا في سوريا لا تقتلنا الحوادث السيارات، فالشوارع مزدحمة مما يعني بالضرورة أن الموت بحديث سير ليس منتشراً . ولكننا قد نموت بسبب قلوبنا. ففي هذه البلاد نحن جيل مرعوب، قلِق، شهدنا الموت بكل أشكاله حتى بتنا نتخيله كل ليلة ونحاول فقط ألا نراه بأم أعيننا، لا حاجة لمواجهة الموت، عشناه وتعايشنا معه حتى صار مملاً.

نحن جيل لا ننام على ظهورنا، فلا سماء صافية نحدق بنجومها، اعتدنا على غرز رؤوسنا وسط وسائدنا كالنعام. لا نرفع رؤوسنا إلى الأسقف، فنحن نخاف أن تسقط علينا، ندفن رؤوسنا تدريباً على موتنا، آملين أن يكون غير مرئيين للقاتل.

منذ فترة قريبة قررت أنني سأواجه سقف غرفتي، فأنا قوية كفاية حيث لم أغير مكان فراشي الملتصق بالشباك، رغم كل الضربات التي سمعتها، ورغم كل الصواريخ التي هزته وأيقظتني. التقطت موبايلي لأقلب صفحة فيسبوك، فأنا آخذ دوائي بانتظام مما يسمح لي بمتابعة أخبار البلاد دون السقوط بنوبة هلع، لكنني سقطت.

لم أجد أخباراً، لا نعوات، ولا أم كاذبة... فقط رسالة من شابٍ منتحر، توقفت عندها، بكيت قبل قراءتها، تذكرت البلاد وشتمتها، تذكرت حاجتنا الماسة للكثير من الأطباء، فطبيبي ومع ثقتي الكاملة به لم يعد يملك الوقت الكافي ليرى الجميع، نحن حتى في حزننا ننتظر.

استجمعت قواي وقرأت الرسالة لأجد اسمي، لم تكن مجرد خيالات، حبيبته اسمها مثل اسمي. في اللحظة الأولى ظننت أنني أتخيل، وأن الاكتئاب هاجمني من جديد، أعدت قراءة البوست، لا بل وصلت لصفحة حبيبته على فيسبوك لأجد لهما صورة سوياً كانت قد نشرتها قبل فقدانها حبيبها بأسبوع.

حاولت استيعاب صورته بالأسود والأبيض، شاب في الثامنة عشر من عمره، مع صبية لها اسمي، لأجد صورة فيها اسمي واكتئابي على طاولة واحدة. أغلقت فيسبوك، أخذت حبة مهدئة لأضمن أنني سأغط في النوم قبل أن تصل رسالة كتبتها للدكتور: "أنا مو منيحة، في شب انتحر."