Vice 12092020
بيئة العمل

شباب يتحدثون عن تجاربهم السيئة في بيئة عمل سامة

"إنتي ما شفتيش فلان اتهزأ إزاي؟ وكأنه يريد مني أن أحمد الله على مستوى إهانات أقل من زملائي"

تسع سنوات مضت، ومازال هذا المشهد بتفاصيله محفورًا في ذاكرتي. عملي حينها كان في واحدة من شركات الإنتاج الإعلامي الوثائقي، وكنتُ أتحرك في مساحات البحث والإعداد لإنتاج الفيلم وعمل المقابلات مع الضيوف، والمشاركة في البناء الدرامي داخل غرفة المونتاج مع المخرج. كنتُ أعمل ساعات طويلة، واقتربتُ وقتها من إكمال عام في الشركة، وشعرتُ أن مجهودي أكبر من راتبي، فأخذتني الحمية ودخلتُ للمدير التنفيذي، وطلبت رفع أجري حتى أشعر بالتقدير والقدرة على استكمال العمل. لم يفاجئني رد المدير كثيرًا، قال لي: "لا نعين مبدعين لدينا، عندنا فقط ماكينات." انتهى اللقاء ولم يرتفع مرتبي، ورحلتُ من الشركة بعد أسابيع قليلة.

إعلان

رؤيتي الحالمة الساذجة لعالم عادل -كما رسمه لي عزيزي كارل ماركس- ارتطمت بالواقع الرأسمالي، الذي يأتي دوماً على حساب الموظف، وهذا ما كان واضحاً خلال أزمة فيروس كورونا، حيث تم قطع رواتب الموظفين أو إنهاء خدماتهم بشكل قسري، أو تقليل أيام إجازاتهم كما اقترح رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس - على أساس أن تقليل الإجازات سيقفز بالإنتاج والناتج القومي فنصبح كالنُرويج بين ليلة وضحاها. توسع الحديث عن بيئة العمل السامة في ظل تقارير رصدت مناخ العمل في برنامج الإعلامية الأمريكية إيلين ديجينرز مع وصف موظفين سابقين بيئة العمل بأنها "مليئة بالعنصرية والترهيب."

بحسب الدراسات، تنقسم بيئة العمل إلى نوعين، بيئة عمل تعاونية، وبيئة عمل سامة، ويمكن تعريف مكان العمل السام على أنه أي وظيفة يتسبب فيها العمل أو الجو أو الأشخاص بالتأثير سلبًا على الصحة النفسية والقيمة المعنوية للموظفين وقد يشمل ذلك التلاعب والعنصرية والترهيب والابتزاز وسوء المعاملة بشكل منتظم. بيئة العمل السامة، تشبه السرطان الذي قد يدمر المنظمة ويخلق ثقافة وقادة وموظفين سامين، ويؤدي بالتبعية لخسارة فادحة تتعلق بصورة الشركة الإيجابية، وانخفاض الثقة بالذات لدى العاملين وقلة انتاجيتهم، ونسب مرتفعة في التغيب ثم الرحيل عن العمل، ومشاكل صحية وصراعات تؤثر على الحياة الشخصية.

في عالمنا العربي قد لا نتحدث كثيراً عن بيئة العمل السامة، لأن الحصول على وظيفة يعتبر رفاهية في كثير من الحالات مع ارتفاع نسب البطالة خاصة بين الشباب. ولكن هل يعاني العاملون/العاملات العرب -لا قدر الله- من: الرواتب غير العادلة؟ مدراء يتعمدون التقليل منهم؟ ساعات عمل إضافية دون مقابل مادي؟ الذهاب للعمل أيام الإجازات دون مراعاة؟ يمكن الإجابة بنعم على كل ما سبق.

إعلان

المدير كان يتغاضى عن بقائي في العمل لساعات طويلة بعد انتهاء الدوام، ولكن يتم خصم نسبة من المعاش الشهري إذا تأخرت عدة دقائق في الصباح

أسامة، 34 عاماً، من ليبيا يعمل في القطاع الخاص، والذي يرى أن قوانين العمل هي "تجسيد حداثي للعبودية" بحسب وصفه ويقول: "العمل في القطاع الخاص الليبي لا يوجد فيه أي عدالة. هامش الأجور قليل للغاية في ظل ضعف القطاع الخاص نفسه." يشير أسامة إلى أنه عاش تجارب مختلفة مع مديرين كانوا يستغلونه بشكل غير مباشر، وأن بيئة العمل أثرت على صحته النفسية ويضيف: "المدير كان يتغاضى عن بقائي في العمل لساعات طويلة بعد انتهاء الدوام ولا أحصل على أي أجر زيادة، ولكن يتم خصم نسبة من المعاش الشهري إذا تأخرت عدة دقائق في الصباح. ولم يكن هناك أي تقدير لكل العمل الذي أقوم به، والذي هو خارج عن مهامي الوظيفية، ولا يتناسب مع المعاش الشهري أيضًا. لم أستطع الإستمرار في العمل، ولم أحصل من الشركة على أية من حقوق نهاية الخدمة المتعارف عليها."

تقول بعض الدراسات إن العمل لأكثر من ٨ ساعات يوميًا، يؤدي لأمراض متنوعة مثل القلب، والضغط والاكتئاب والقلق، كما أنه يسبب ارتفاع نسب التدخين وشرب الكحول. كما قد تسبب ساعات العمل الطويلة في شعور الموظف بالانفصال عن مكان العمل، والتواجد فيه بشكل جسدي فقط فيما يُعرف بـ  Psychological Detachment. كما قد يصاب الموظف باضطراب فقد التركيز ونقص الانتباه مما يؤثر على مواعيد تسليمه للعمل وافتقاده التنظيم.

ثريا، 40 عاماً، من الأردن وتعمل في منظمة دولية، تقول إنها كانت تعمل في اليوم ما يقرب من 16 ساعة في اليوم أحيانـًا أثناء مراحل الضغط، وعندما اعترضتْ على ذلك، قال لها المدير: "هذا توصيف مهامك الوظيفية." وعلى الرغم من الخبرة والانتاجية التي تتمتع بها لم يمنحها ذلك أي ميزة بالنسبة للمديرين الذكور: "كنت مديرة لبرنامج ويعمل تحت إشرافي عشرات الموظفين، لدي الخبرة وأدير فريقاً كبيراً، لكنني اكتشفت أن المدير المالي أعلى مني في الراتب بشكل كبير وعمله أقل من العمل الذي لدَّي. بعد تسريب كشوف الرواتب، اكتشفنا أن كل المدراء الذكور يحصلون على رواتب أكثر من الإناث."

إعلان

بالإضافة إلى عدم العدالة في الأجور، تعرضت ثريا للتنمر والتمييز لكونها امرأة: "خلال الاجتماعات إذا قمتُ بمناقشة شيء ما، ينتقدني أحد الرجال بشكل شخصي، ولا ينتقد الفكرة التي أقدمها. حتى أن أحدهم قال لي مرة: أنتِ متشائمة وعاطفية جدًا." مواجهة ثريا مع هذا الشخص أسكتته، لكن سياق العمل نفسه لم يتغير، وقررت بالنهاية الاستقالة.

ورغم انضمام النساء للعمل العام منذ عقود، إلا أن المؤشرات تؤكد وجود تحديات عديدة مازالت تواجههن في بيئة العمل. ففي تقرير صادر من منظمة العمل الدولية، أشارت الأرقام إلى زيادة نسبة مشاركة النساء في العمل بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 4.5% خلال العقد الأخير. إلا أنه بالرغم من زيادة نسب المشاركة النسائية إلى ما يقرب من 56.5٪ في مناطق مختلفة حول العالم، فلا تزيد النسبة داخل العالم العربي عن 32% مقارنة بالذكور.

كنت لا أستطيع النوم بسبب الشعور بالقلق والتفكير إن كنت ارتكبت أي خطأ في الرسالة الإلكترونية التي أرسلتها لهم باللغة الإنجليزية، وأفكر هل يسخرون مني الآن؟

ثريا تشير إلى أن كونها موظفة محلية local staff تعمل في منظمة دولية، فهي لا تحصل على أي من الحقوق الوظيفية التي يتمتع بها زملائها الأجانب الذين يحصلون على مميزات أكثر، فالرواتب أعلى ٣ أضعاف، إضافة لتحمل تكلفة إيجارات المنزل ومدارس أبنائهم من قِبل  المنظمة، وفق قولها. ولا يختلف أسامة كثيرًا في تجربته مع المنظمات الدولية، التي تمارس تمييزًا واضحـًا ضد العامل المحلي مقارنة بالموظف القادم من الخارج، ويضيف: "يتم توظيف بالعادة موظف أجنبي لا يعلم شيئـًا عن البيئة أو البلد ويحصل على راتب أكبر بكثير من إبن البلد. الموظف الأجنبي يحصل أيضًا على أي تدريبات يمكن أن تساعده في تنمية مهاراته، بعكس الموظف المحلي."

الأدوار تنقلب مع مريم، 33 عاماً، من المغرب والتي تعيش في الولايات المتحدة منذ سنوات، وهي تتحدث كذلك عن بيئة العمل غير العادلة، فكونها امرأة مهاجرة فلا يجب عليها أن تعترض أو ترفع صوتها: "يُفاجأ المديرون بردود أفعالي تجاه بعض الممارسات العنصرية. وفي حال الاعتراض أو المطالبة بالمساواة بعامل أبيض، يبدأ المدير في النظر إليَّ أنني غير صالحة للمنظومة، لأنه من غير المنطقي أن أطالب بالمساواة أصلًا."

إعلان

تضيف مريم التي تعمل في مطعم: "هناك تصور لدى الأمريكيين البِيض أنني أتحمل أشياءً لا طاقة لرجل أو امرأة بيضاء، فمثلًا أثناء موسم الصيف ترتفع درجة الحرارة وتصل أحيانـًا إلى 40 درجة مئوية. قرر مديري وقتها أن يضع جدولي في خدمة العملاء خارج المطعم، حيث الشمس الحارقة، معظم أيام الأسبوع. وعندما سألته عن سبب ذلك - لأنه لم يطلب من أي موظف آخر العمل بالخارج- أخبرني أنني قادمة من شمال أفريقيا ويمكنني تحمل درجات الحرارة المرتفعة."

هناك عدة أشكال من التمييز والعنصرية منها العنصرية الفردية والمؤسساتية، ونوع ثالث يعرف بالعنصرية الثقافية/الرمزية التي تتسم بالكراهية للجماعة الأقل وضعـًا في المجتمع اعتقادًا في أنهم يخرقون القيم العليا للمجتمع، لذا يجب إعادتهم داخل إطار ينظم حركاتهم. فعنصرية الامريكيين البيض للسود نبعت من كون السود يخرقون النظام الاجتماعي الأبيض وقيمه، لذا يجب أن يُلقى باللوم عليهم واعتبارهم سببـًا للمشاكل. في العالم العربي تظهر هذه العنصرية المؤسسية والثقافية داخل بيئة العمل، من خلال التمييز على أساس اللون أو الطبقة أو التعليم. هذا التمييز قد يظهر في علاقتنا بالغرب، وشعورنا بالدونية أحيانـًا لأننا من الشرق -المتخلف- مما يؤثر على نظرتنا لأنفسنا، وتصنيفنا للأشخاص تبعاً لقربهم من هذا الغرب -المتطور.

مصطفى، 31 عاماً من مصر، يقول أنه تعرض للإقصاء من قبل زملائه في شركة إنتاج إعلامي أغلب الموظفين فيها من خريجي جامعات أجنبية: "المشكلة كانت في بيئة عمل سامة سببها زملاء العمل بالإضافة إلى صاحب العمل. كان زملاء العمل يحاولون التقليل مني لأنني خريج جامعة محلية، وهو ما دمر ثقتي وأثر سلبيًا على صورتي عن ذاتي. كنت لا أستطيع النوم بسبب الشعور بالقلق والتفكير إن كنت ارتكبت أي خطأ في الرسالة الإلكترونية التي أرسلتها لهم باللغة الإنجليزية، وأفكر هل يسخرون مني الآن؟ كنت أعمل وسطهم ولا أشعر أنني أشبههم، كأنني (عريان) بينهم."

إعلان

على الرغم من الضغط النفسي، حاول مصطفى الإستمرار بالعمل الذي يحبه، عمل لمدة سنتين مديرًا للمشروعات دون إجازة يوم واحد في محاولة لاثبات نفسه في وسط بيئة عمل تعمل على التقليل منه طوال الوقت:  "قمت بشراء كيس نوم للبيات داخل الشركة والعمل لأيام متواصلة خلال أحد المشاريع، ولكن كل هذا لم يغير كثيراً من كيفية التعامل معي ومحاولة تقليل جهودي،" يقول مصطفى، أن هذا الضغط النفسي والجسدي أدى إلى معاناته من مشاكل صحية واضطر لأخذ إجازة للتعافي، وبعد رجوعه للعمل فوجئ بهم في العمل يقترحون عليه وظيفة أقل ولا تناسب مؤهلاته: "في تلك اللحظة أدركت أن عامين سُرقـا من حياتي، وتركت العمل."

توفير بيئة عمل جيدة ليس صعباً، فقد أثبتت الدراسات أن 90% من العاملين يرون الصدق والثقة والإنصاف أهم سمات بيئة العمل الجيدة

حنان، 24 عاماً، والتي تعمل في مجال التدريس في مصر، تقول أنها تقلت بالبداية وعوداً وردية بتدريب جيد ومرتب يصل إلى 1200 جنيهـًا مصريـًا (حوالي 75 دولار)، لكن في الواقع بدأ الراتب بــ 400 جنيهـًا مصريـًا وانتهى بـ 600 جنيه. وتضيف: "بعد أزمة الكورونا تم تسريح نصف المدرسين لأسباب غير واضحة، وتم تقليل الرواتب مع العلم أننا عُدنا للعمل بشكل شبه كامل، ولا يجوز لنا الغياب، وفي حال غبت يومـًا، يكون الخصم 100 جنيهـًا."

تتحدث حنان أيضًا عن مشكلة كبيرة تتعلق بالتعامل غير اللائق مع المدرسين، حيث يتم توبيخ المدرسين طول الوقت من قِبل المدراء. وتضيف: "في أحد المرات عندما حاولتُ الاعتراض على بعض القرارات، رد علي المدير بالقول: إنتي ما شفتيش فلان اتهزأ إزاي؟ كان رده وطريقته بالكلام مهينة، وكأنه يريد مني أن أحمد الله على مستوى إهانات أقل من زملائي." حنان ما زالت تعمل في هذه المدرسة: "لا أستطيع ترك هذه الوظيفة، على الرغم من كل مساوئها لعدم وجود فرص عمل. المدير يعلم ذلك ويتصرف مع المدرسين على هذا الأساس."

توفير بيئة عمل جيدة ليس أمراً صعباً، فقد أثبتت الدراسات أن 90% من العاملين يرون الصدق والثقة والإنصاف أهم سمات بيئة العمل الجيدة، ويتحقق ذلك من خلال وفاء المنظمة بوعودها، وأن يكون الموظف على معرفة بآخر التطورات ولا يُفاجأ بتغييرات تعيق طبيعة عمله، مثل نقل مكتبه دون علمه أو زيادة عدد ساعات العمل. هذا بالإضافة إلى منح الموظفين بعض الاستقلالية والمرونة في العمل، وتوضيح الأدوار والمهام الوظيفية لكل شخص، وتقدير مجهودهم سواء بالقول أو الفعل مثل المكافأة المادية أو دورة تدريبية. ولا مانع في بعث جو من السعادة والترفيه في المكان مثل توفير مكان للعب أو النوم لمدة زمنية قصيرة خلال اليوم.

بيئة العمل السامة هي مشكلة منتشرة في كل العالم، فلو لم نشعر بالسموم تخترق أجواء العمل من خلال نقص الراتب أو زيادة المجهود أو التمييز، سنجد أن العبء النفسي قد يصل لمرحلة صعوبة الاستيقاظ من النوم حتى لا أرى أي شخص في هذه البيئة القاتلة، وإن حدث وذهبت، سأفعل -غالبـًا- مثلما فعل محمود في عبد العزيز في فيلمه البحر بيضحك ليه - صفعة للجميع.

بعض الأسماء في المقال مستعارة بناءً على طلب الأشخاص.