رأي

مشاهد فوضوية من ذكرى سقوط الموصل

إنتهى "داعش" لكن درسه لم ينته
الموصل

كُنتُ أقول مع نفسي: "هل سأندم على عدم الهجرة. هل سيكون إبني بخطر بعد عام على ولادته. هل سأعيش الحرب من جديد؟" كل هذه الأسئلة طرحتها على نفسي في ثوان قليلة عندما سمعت خبر سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم "داعش" في 10 يونيو 2014. قبل عامين أو أكثر ترددت جُملة نُسبت للمرجع الشيعي علي السيستاني ومفادها: "لا تذهبوا للقتال في سوريا، التكفيريون هم من سيأتون إلينا." في إشارة إلى ذهاب فصائل عراقية مسلحة للقتال "دفاعاً عن مرقد السيدة زينب." لم أتأكد حتى الآن من صدق ما نُسب للسيستاني، لكنها من الأشياء التي طفرت إلى عقلي الذي كان يعج بفوضى الأفكار خلال الساعات الأولى لسقوط الموصل، وسألت نفسي، هل صدقت نبؤته، أم ماذا؟

إعلان

هروب أم بقاء؟
كانت ليلة سقوط الموصل هي الليلة الوحيدة التي نمت فيها مُبكراً خلال تلك الفترة، كنت قد عُدت من أربيل قبل أيام، بعد رحلة طويلة من بغداد إلى عمان إلى بغداد إلى أربيل، ثم إلى بغداد، فقررت النوم مُبكراً بحثاً عن الراحة. إستيقظت صباح العاشر من يونيو 2014 بشكل طبيعي حتى فتحت الفيس بوك، صور وأخبار ومقاطع فيديو وتصريحات لسياسيين، جميعها تتحدث عن الموصل. إنها "داعش" التي اجتاحت محافظة نينوى في ليلة ربما لم تَحسب لها حكومة نوري المالكي آنذاك.

جمعت والدتي كل أوراقنا الثبوتية في حقيبة صغيرة واحدة، وجهزت ما لدينا من أموال قليلة، وجلست تقرأ القرآن. كانت ترفض أن أخرج إلى العمل، وطلبت مني رفض أي مقابلة تلفزيونية، كان كُل شيء بالنسبة لها مُحاط بالخوف. والدتي التي تنحدر من أصول مصلاوية (الموصل)، انقطعت كل اتصالاتها بأقاربنا هُناك، لكن أخباراً تصلنا تقطيراً من المحافظات القريبة عليها. جميعهم كانوا يقولون "المدينة سقطت بيد مسلحين وكل القوات الأمنية انسحبت منها." كوني مواطن عراقي، وُلد في حرب، وطفولته في زمن الإعلام التعبوي البعثي، يتصور بأن الجيش لا ينهار، لكنني اعتقدت فيما بعد بأن إنهيار القوات الموجودة داخل الموصل، يعني إنهيار العراق الدولة. شعرتُ بأن حياة جديدة سنعيشها تحت وطأة "داعش."

عندما يخذلنا الجنرالات مجدداً
سبقت ليلة العاشر ثلاث ليالي كان وضع الموصل فيها غير مستقر. حديث عن جماعات مُسلحة في الجانب الأيمن منها، ودعوات لتعزيز حراك المتظاهرين ضد الدولة، وسياسيون وشيوخ عشائر ورجال دين يتحدثون عن "ثورة العشائر" ضد الحكومة "الصفوية." حظرٌ للتجوال مع إنقطاع الإنترنت مع تضارب المعلومات حول ما يحدث في المدينة، وسائل إعلام تُسميهم "ثوار" وأخرى تصفهم بـ"الإرهابيين"، بينما السُكان في الموصل لا يعرفون أي شيء ولا يستطيعون فعل أي شيء، فعلاقتهم مع الأجهزة الأمنية التي كانت هُناك، سيئة للغاية بسبب الاعتقالات العشوائية والاعتداءات التي كانت تُمارس ضدهم. وكما حدث سابقاً عند سقوط بغداد، سقطت الموصل، وإنسحبت القوات الأمنية منها، تُركت الآليات والمعدات والأسلحة التي صُرف عليها مليارات الدولارات. أما قائد العمليات مهدي الغراوي هرب مع فرقتين تابعتين لقوات الشرطة الإتحادية بإتجاه إقليم كوردستان العراق، وترك كل شيء خلفه.

إعلان

إعلام "داعش" الذي اختصر الطريق
في الإعلام صار الحديث واسعاً وموسعاً عن "شراسة" تنظيم "داعش." التنظيم إستثمر السوشيال ميديا في زرع الرعب بنفوس العراقيين الذين ساعدوه بذلك. صاروا ينشرون كل ما يبثه التنظيم، طبعاً من دون قصد، فتحول من قوة مجهولة مُطاردة، إلى قوة مُخيفة ومُعلّنة وماسكة للأرض. عندما سيطر التنظيم على الموصل، انقطعت الإتصالات، الناس في الداخل لا يعرفون أي شيء عن الذين في الخارج. كان هناك حديث كبير وواسع عن تمدد التنظيم بإتجاه العاصمة بغداد بعدما مر بصلاح الدين، هُنا، دب الخوف في قلوب الناس. لا أحد كان يستطيع تجاوز الشائعات، حتى اللذين يُفترض إنهم إختصوا في هذا المجال، أو اللذين فهموا لعبتها، إلا أن ماكينة "داعش" كانت أكثر تأثيراً. بعد ساعات على سقوط المدينة بيد تنظيم "داعش" أعلن رئيس الحكومة العراقية آنذاك نوري المالكي أن "القوات المسلحة ستستعيد السيطرة على مدينة الموصل خلال 24 ساعة." فمن الواضح أنه كان يعتقد بأنه في لعبة PlayStation ويُمكنه الإنتهاء منها متى ما أراد.

الأسود لا يُليق بهم
صارت الموصل مدينة عراقية مُقتطعة عن العراق، لا شيء فيها سوى رايات سُود وأشخاص يرتدون الأسود، وإعلام يُخوّن سُكانها ويُشهر بنسائها. حوّل "داعش" بعض المدارس إلى أماكن تدريب، وبعض الدوائر الحكومية إلى مخازن أسلحة، ألغى كل السياسات الإدارية التابعة للدولة العراقية وفرض على السُكان سياساته، وحرّم كل شيء وأنهى القوانين وفرض ما يُسمى بـ"الأحكام الشرعية"، وغير المناهج وألغى العلمية منها.

بدأ أيامه الأولى بإعدامات في الشوارع لترهيب السُكان ومنع أي محاولة للتمرد عليه، ثم راح يبحث عن الذين يحلقون ذقونهم، ثم عن الذين يُتابعون مباريات كرة القدم، حتى وصل به الأمر لتحطيم مئات الآلاف من شاشات التلفزة بحجة "الحرام." تحوّلت الموصل التي كُنّا نزورها للسياحة قبل 2003، إلى مدينة رُعب يُريد سُكانها الهرب منها، فالنبي يؤنس والغابات والمدينة القديمة، أماكن لم تعد مثلما كانت. تُعرف الموصل بمدنيتها ورُقيها وأناقة عائلاتها المعروفة، بيد أن كل شيء من هذا لم يعد موجوداً مع دخول "داعش" إليها.

ثلاث سنوات عاشتها الموصل رأى فيها سُكانها الجوع على حقيقته، والموت بكل أشكاله، والخُذلان من ساستهم وأكل ما لم يتوقعوا أكله من حيوانات ومواد تالفة. شاهدوا مجازر الموت بطريقة حية، ورأوا السبايا الايزيديات كيف يُذلَّن وحفظ أطفالهم أحاديث التكفير والقسوة. لم تعد الموصل إلا بعد ثلاث سنوات. ولكنها لم تعد من دون ثمن فكان ثمنها، 5.5 مليون نازح، وعشرات الآلاف من القتلى، ومثلها من المغيبين والمفقودين، وأكثر منهم من المهاجرين إلى أوروبا وأميركا، فضلاً عن التغيير الديموغرافي وسبي الإيزيديات وغيرهن من النساء العراقيات، وإرتفاع أعداد الأرامل والأيتام والشهداء. كل هذا وأكثر كان ثمن إستعادة الموصل.

إنتهى "داعش" لكن درسه لم ينته.