"كنت هناك".. مراسلة حرب عربية تروي ذكرياتها عن أيام داعش الأخيرة في العراق

سارة نور الدين على أطلال منازل مهدمة بوسط الموصل 

سياسة

"كنت هناك".. مراسلة حرب عربية تروي ذكرياتها عن أيام داعش الأخيرة في العراق

ربما نجوت من الموت خلال تغطيتي لتحرير الموصل، عاصمة دولة خلافة البغدادي، لأروي بالتزامن مع الذكرى الأولى لتحريرها بعض مما لم أكتبه في تغطيتي الإخبارية

طريق محفوفة بالأخطار تلك التي كنت أسلكها متجهة إلى مدينة تبدو من بعيد أنقاضًا متهالكة. اجتزت النهر باتجاهها وسط تحذيرات متتالية كنت أتلقاها بصحبة سائق بسيط من أهل المدينة شردته الحرب. على حافة النهر وقفت في المرة الأولى اتفقد تلك المدينة التي طالما تصدرت عناوين الأخبار، وهي أمامي الآن، الموصل، التي عرفها التاريخ بمدينة نور الدين زنكي، ربما يغفل التاريخ سنوات الظلام الثلاث الماضية من عمرها.

كنت أتجه نحو المدينة القديمة التي أعلن منها زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي، إقامة دولة الخلافة، بعد أن اتخذ منها عاصمة لدولة خلافته المزعومة، مرتدية درعًا وخوذة، لا كمقاتلة ضد عناصر تنظيم داعش ولكن كمراسلة صحفية متخصصة في تغطية الحروب، وهو ما أتاح لي الفرصة لأكون شاهد عيان على أحداث كثيرة، لكن تغطيتي سقوط مشروع داعش بتحرير الموصل منهم، كان أهم ما عايشت على الإطلاق.

إعلان

سقطت دولة خلافة البغدادي في الموصل العام الماضي في مثل هذه الأيام، بعد أن فرض التنظيم قبضته على المدينة التي تُعد ثاني أكبر المدن العراقية لنحو 4 سنوات، وبينما كانت أبرز قلاع التنظيم تتهاوى على يد الجيش العراقي في معركة تحرير الموصل، كنت هناك أمارس عملي في تغطية المعارك التي دارت رحاها في كافة أرجاء المدينة التاريخية، حتى تحريرها ومن ثم تحرير بقية المدن العراقية. كتبت خلال عملي عشرات القصص الصحفية من ميدان المعركة، لكنني ما زلت أجد بجعبتي ما يستحق أن يروى عن تلك الأيام، بالتزامن مع حلول الذكرى السنوية الأولى لأفول شمس داعش.

أتذكر المرة الأولى التي اجتزت فيها ضفة نهر دجلة فوق جسر عائم أنشأه الجيش العراقي لتسهيل نقل آلياته وإجلاء سكان المناطق القريبة. كانت الموصل تستعد للاحتفال بالانتصار على التنظيم الإرهابي الأسوأ على الإطلاق، وكصحفية كنت أحاول الوصول إلى المدينة، وبعد سلسلة أوراق وتصاريح عسكرية مررت، وكانت السيارة تشير إلى تخطي حرارة الجو 48 درجة.

مركبة عسكرية تعبر في اتجاه مناطق المعارك على الضفة الأخرى للنهر - التقطت جميع الصور بواسطة سارة نور الدين

على وقع أصوات الانفجارات، والرصاصات، بينما كانت تحلق المقاتلات الحربية بصوتها الذي يصم الآذان، لم تشفع لي سلسلة تصاريحي الورقية ودرعي الصحفي وخوذتي البارزة عند أحد الضباط الذي ما أن رآني أقترب نحوه حتى أشهر في وجهي سلاحه. رفعت ذراعي للأعلى وصرخت بالقول "صحفية.. صحفية"، لكنه لم يتراجع وطلب مني الابتعاد ولم ينزل سلاحه حتى تراجعت أمتارًا للوراء.

كان الجندي في حراسة منزل استخدمته الاستخبارات الحربية لاستجواب مشتبهين بالانتماء للتنظيم الإرهابي، كانت عربات جهاز مكافحة الإرهاب من طراز "هامر" الأمريكية تُنزل هؤلاء المشتبه بهم أمام المنزل معصوبي الأعين ومقيدي اليدين والقدمين، لم يكونوا يستطيعون السير، كانوا يدخلون محمولين.

إعلان

بمزيد من الاتصالات والعلاقات، سمح لنا الضباط بالدخول إلى منطقة محيطة بالمنزل، كان عشرات النساء والأطفال يصلون تباعا للاستجواب من مناطق الاشتباكات في المدينة القديمة، تحدثت لبعضهن، كن زوجات لمقاتلي "داعش"، ظللن محتجزات وسط الاشتباكات، فخرجن بحالة مزرية، بعضهن لم يستطعن التحدث، وكثير منهن وأطفالهن كن ينهرن من البكاء. كان الجنود يشرفون على نقلهن مع الأطفال إلى نقاط التحقق من الهويات تمهيداً لإيداعهن مخيم النازحين، أو مقر احتجاز حال ثبت عليهن التورط مع الإرهابيين.

وسط المدينة، كانت الحرب دائرة، وكان المدنيون يدفعون الثمن من أرواحهم، وأبنائهم، وممتلكاتهم، لم تمر عليّ أوقات أصعب من تلك التي التقيت فيها الناجين، هم لم ينجوا فقط، لقد عادوا من الموت، أفقدهم التنظيم آدميتهم منذ فرض سيطرته على المدينة في منتصف يونيو 2014، وعلى الرغم من حلاوة التحرر منه، إلا أنهم خسروا كل شيء.

أحد المباني التي كانت تحت سيطرة داعش في الموصل

في العاشر من يوليو 2017 عادت الموصل من الموت، كانت الألغام والعبوات الناسفة منتشرة على جانبي الطرقات، ووسط الركام، وبين حطام السيارات، وداخل المنازل، في كل مكان، وكانت تحصد الأرواح يوميًا.

بين الجثث المتناثرة ورائحة الموت في كل مكان أيضًا، سرت أبحث عن أسوار جامع النوري الكبير، الذي يشير إلى قلب المدينة القديمة، أطمع في صورة لم تلتقطها عدسات السابقين، لم أجد في المسجد التاريخي، الذي شيد عام 1172 ميلادية، سوى أنقاض، لم يتبق منه ومن مئذنته الشهيرة سوى أكوام من الأحجار.

وقفت أمام محراب المسجد أتذكر يوم فجعت البشرية بخطبة إعلان مدينة الموصل عاصمة لدولة الخلافة المزعومة، التي ألقاها أبو بكر البغدادي في حزيران الأسود، لم يبق من المحراب شيء، كنت أظن الدمار الذي لحق دمر الأثر الأصلي للمحراب، لكنني وفي زيارة لاحقة للمتحف العراقي ببغداد رأيت المحراب الأصلي محفوظًا سليمًا.

إعلان

كان درع الصحافة الذي ارتديه خانقًا ثقيلاً، في وقت كانت ترتفع درجات الحرارة كثيرًا، بينما كنت من شدة التركيز أفقد إحساسي بأي شيء آخر سوى الصورة أمامي. كان العائدون من الموت يخرجون من طرقات مدمرة، من منازل أمامي تدور رحى الحرب داخلها، لم يستسلم عناصر التنظيم على الرغم من الهزيمة، لكن حالة الرعب التي ظهرت في أعين هؤلاء الناجين، لم تصل إليّ مطلقًا، كان السائق مستغربًا، سألني ذات مرة لماذا تخاطر فتاة مثلي للوصول إلى هذا المكان؟

مركبة عسكرية عراقية تؤمن مخارج إحدى مناطق المعارك التي كانت واقعة تحت سيطرة داعش في الموصل

بعد أيام قضيتها في بغداد، كنت في طريق العودة إلى الموصل، نحو 10 ساعات من السفر وسط صحراء شاسعة، تسمع منها أصوات رصاص متقطع، وصلت إلى المدخل الجنوبي للموصل، ودخلت المدينة بصحبة جهاز مكافحة الإرهاب عصرًا.

كان المبيت داخل المدينة أشبه بالانتحار، لكن شعورًا بالاطمئنان والحماس كان يعتريني كلما تذكرت أنني داخلها، وسأذهب غدا لتصوير آخر المشاهد التي أريدها. في الصباح الباكر اتجهت داخل مركبة عسكرية من طراز "هامر" لوسط المدينة، في طرقات ترابية ضيقة، تتسع فقط لهذه المدرعة السوداء التي اعتلاها جندي بمدفعه.

فجأة هزّ انفجار كبير منزلاً أمامنا، أمّن الجنود الطريق ونزلت، ما أن وطئت قدمي الأرض، حتى تلا عليّ الجندي واجباتي، لا تنحرفي عن الطريق، اتبعِ خطواتنا، لا تتوقفي إطلاقًا طالما سرنا، ولا تبتعدي عنا إذا توقفنا. كان الجنود ينقلون جثتي زميلين لهم قتلا إثر الانفجار الذي نتج أثناء تفكيكهم لعبوة ناسفة لتطهير المدينة.

طلبت من الجنود موقعًا لتصوير عمليات التفكيك، لم يكن ممكنا تصويرها عن قرب خشية انفجارها، قالوا إنني سأعتلي سقف مدرسة مجاورة للتصوير، فصعدت بصحبة أحدهم. تقدمت على الدرج بصمت أتبع خطوات الجندي، لم تكن المرة الأولى لي في تغطية النزاعات المسلحة، سرت ببطء وحرص شديدين أتفقد السقف، به غرفة منخفضة عنه بلا درج، وفتحة أخرى مريبة. لم أسمع حتى خطواتي، وقفت لأتفقد الغرفة لضمان خلوها من أي شيء، أسلحة، أو أسلاك توصيل العبوات الناسفة، أي فتحات غريبة في الجدران.

إعلان

بجوار الفتحة المريبة، وقفت وظهري إلى الحائط، لألق نظرة داخل الفتحة، ما أن نظرت داخلها حتى وجدت عنق بندقية موجهة إلى رأسي مباشرة ووراء زنادها يجلس مسلح في وضع الاستعداد، ولا أعتقد أنني سأنساه ما حييت. لم يطلق المسلح النيران، لا أعرف لماذا ربما دعوات أمي حالت دون ذلك، في جزء من الثانية كنت سأتحول إلى أشلاء، فبندقيته M16 من طراز يسمح بإطلاق عشرات الرصاصات دفعة واحدة، لكنني في هذا الجزء من الثانية كنت قد لملمت أعصابي وارتميت للخلف وطلبت من الجندي التراجع لكنه لم يوفق للأسف في حركته التالية.

تقدم الجندي نحو الفتحة، لتنطلق ذخيرة البندقية كاملة نحو الجندي الذي سقط بينما استنشقت أنا كمًا كبيرًا من أبخرة البارود المحترق، ولم أتمكن سوى من الزحف وسط سعال شديد نحو الغرفة المجاورة، رميت بجسدي إلى الأسفل وسقطت ربما متر أو أكثر على وجهي، ولم أتمكن من الوقوف مباشرة لأواصل محاولتي اليائسة للفرار.

سارة نور الدين خلال استخدامها الكاميرا لتوثيق الأحداث

بعد ثوان، سدّ أحدهم باب الغرفة بجسده وتناثرت الدماء عليّ، كنت قررت وقتها أن أشغل كاميرتي، فإن كان ذلك هو الداعشي، فسوف أسجل لحظاتي الأخيرة وهو يقتلني. قبل التفاتتي إلى الباب، مر شريط ذكرياتي من الصغر أمامي. عندما كنت أقرأ أو أكتب أخبار مقتل صحفي هنا أو هناك، كان يدور بداخلي كيف مات؟ كيف نقلت جثته؟ هل تألم؟ لم أذكر أنا في تلك اللحظة سوى وجه أمي الجميل، لا أريد لها أن تبكي من بعدي، لا أريد شيئا سوى الموت بلطف دون تقطيع أوصالي؛ من أجلها هي لا أنا.

أفقت من أفكاري تلك على صوت الجندي، هو من سد الباب بجسده ليطلب مني القيام والهروب، تفقدته سريعًا فلم أجد إصابة في رأسه أو قلبه، كان ينزف من كل مكان آخر، قلت في نفسي حمدًا لله أنه أنت، قمت بصعوبة لأجذبه نحوي، وقع وساعدته وساعدني للقيام والهروب.

إعلان

كنت أسجل بكاميرتي هروبنا، تذكرت لوهلة مشهدًا من فيلم جوراسيك بارك، عندما كان الصحفي يصوّر مشهدًا وفجأة ظهر الديناصور ففقد توازنه وسقطت كاميرته فتركها وهرب، كنت أصف الصحفي بالغبي كلمت شاهدت هذا المشهد، كنت أقول إنه يجب عليه الاحتفاظ بكاميرته طالما بقي على قيد الحياة، كانت كاميرتي معلقة في رقبتي طوال الوقت.

هربت مع الجندي ولا أذكر كيف تمكنت من النزول إلى أسفل حيث فناء المدرسة الذي كان مليئاً بالسيارات القديمة المحترقة، وتناثرت جثث عديدة فيه، لم يكن الاختباء خيارًا أمامي وسط أصوات الطلقات المتواصلة، لم أتمكن من معرفة مصدر الطلقات، هل الداعشي؟ أم الجيش؟ أم أن هذا احتفال ضمن الاحتفالات؟

اكتشفنا طريقًا للهروب خشية من أصوات النيران المستمرة في الاقتراب، ما أن تسلقنا فوق السيارات رأى الجندي زملاءه فلم يتمكن من مواصلة الوقوف، ارتمى على الأرض وجاء الجنود لإنقاذنا، نقلونا بسيارة هامر إلى المستشفى الميداني حيث أطباء أجانب، فرنسيون وأمريكيون. كان الجندي مصابا بنحو 5 رصاصات في أنحاء متفرقة من جسمه، اكتشفت وقتها أنني أصبت بكدمات قاسية في كل مكان من جسمي، فقدت غطاء رأسي أيضًا، وكنت أنزف من جرح في يدي، لم أكن أشعر به قبل هذه اللحظة.

كتابات مناهضة لداعش على بوابة إحدى المنشآت على أطراف الموصل

كان ذلك حي الميدان في الموصل القديمة، أو بالأحرى أخطر أحيائها، كان الدواعش يحفرون أنفاقًا وسراديب تحت المنازل ليتمكنوا من مباغتة الجنود، قتلوا كثير منهم، وكانوا قد أنشأوا مدينة تحت المدينة. نجا الجندي، واستكمل وزملائه معركة التحرير، حتى استعادوا المدينة وأسقطوا داعش في قلب عاصمة خلافتهم المزعومة. اتجهت بعدها إلى أربيل تمهيدا لعودتي إلى مصر، نجوت بأعجوبة، قدري ألّا أموت هناك، وعدت للقاهرة.

تركت الموصل بداخلي جرحًا كبيرًا، كيف وقعت مدينة جميلة تاريخية كهذه في يد من لا يرحم، كيف تحول قدر إحدى أغنى دول المنطقة إلى حرب يومية تأتي على الأخضر واليابس، تشرد الملايين؟.. التقيت دواعش وأهلهم ومتضررين منهم وذوي شهداء قتلوا على يد الظلم، توقف بي الزمن هنا، كان لابد من أن أستكمل الحكاية.

وفي اليوم التالي كنت أبدأ في إجراءات رسمية للعودة إلى أرض المعركة، لم تثنيني الكوابيس اليومية، ولا لوم من حولي. يومها فقط استطعت إجابة السائق عن سؤاله، هذا قدري لا مفر منه، منذ عامي العاشر تقريبًا وبعد رؤيتي مشهدًا مباشرًا لإصابة مراسلة فلسطينية على الهواء برصاص الجيش الإسرائيلي قررت أن أصبح مثلها، مراسلة حربية، ربما بحثًا عن الحقيقة، وربما رغبة داخلية في أن أكون شاهد عيان يرى الحقيقة بعينيه، وليس من سمع كمن رأى.

وثائق من ديوان الجند والمقاتلين الأجانب في تنظيم داعش بعد تحرير أحد منازل قضاء تلعفر شمالي العراق