الأمومة تضحية،" "بكرا تخلفي وتعرفي،" "الجنة تحت أقدام الأمهات،" وهناك إصرار رهيب على أن العبارة الأخيرة حديث شريف، وقد بحثت في الأمر ولم أجد حديثًا بهذا النص، وقال البعض أن تخريجه ضعيف. لكنني وأخيرا قد مررت بتجربة الأمومة، ويبدو أن هناك خداع ما حدث. هناك رسم لصورة الأم غير واقعي بالمرة، ربما هي الصورة التي يتمناها المجتمع، لكنها ليست الصورة الحقيقية. انتابتني الشكوك في كوني أما صالحة، فسألت بعض صديقاتي، ووجدت أنهن يعانين أيضًا من الصورة المخادعة التي رسمت لهن كأمهات. هذه الصورة الملائكية، التي تقترب من القدسية. حين علمت أنني حُبلى في ابنتي الأولى (4 سنوات الآن) فرحت بالطبع، ثم أمرتني الطبيبة بأن أقضي أول ثلاثة أشهر في الفراش لأنني كنت أعاني من إجهاض منذر. طبيعة حياتي قبل الإنجاب كانت مختلفة تمامًا، كنت أخرج يوميًا، وقبل الزواج كانت أمي تسمعني من الباب: باي يا ماما.. وقبل أن تسألني: رايحة فين، أكون قد وصلت إلى بوابة العمارة خارجة منها لأقابل أصدقائي وأسهر معهم، أو أذهب لأشاهد فيلمًا، أو أحضر حفلًا غنائيا لإحدى فرق وسط المدينة، وإبان الثورة كنت لا أعود للمنزل إلا كي أستحم وأغير ملابسي وأعود للاعتصام، أي اعتصام. كانت مسألة أن أجلس في البيت لمدة ثلاثة أشهر أمر غريب بالنسبة لي. ربما لم أستوعب الفكرة إلا حين قلت لزوجي: "لا أنا حاخرج بقى." الحقيقة أن الوضع كان شديد الحرج بالنسبة له، فالمشكلة لم تكن أنني أعاني من إجهاض منذر فحسب، ولكن، أنا أتقيأ بشكل لا إرادي: إزيك يا نوارة؟
-أهلا يا … أوووووووووععععععععع
-إيه ده؟
-لا مؤاخذة أصلي حامل
-مبروك يا حبيبتي… طب ما تستريحي في البيت
-أنا قلت أنزل أ… أوووووووععععععععع
-أنا باقول تستريحي في البيت واحنا نروح نغير هدومنا برضه
-لا لا .. أنا تمام.. أنا.. (نوم عميق مفاجئ)
كانت حياتي في أول ثلاثة أشهر عبارة عن تقيؤ ونوم. أستيقظ لأتقيأ، ثم أعود لأنام. قاومت كثيرًا، فنزلت، وتقيأت في وجه أصدقائي، وبعد أن تقيأت جلست لأكمل السهرة وأنا نائمة على الكرسي.
- قومي يا حاجة روحي
كان حملي في الصيف، ومع ذلك كنت أشعر ببرد وأرتدي ملابس شتوية أحيانًا. بعد مرور الأشهر الثلاثة، فجأة، بدأ كل شيء ينتفخ، لا، ليس زيادة وزن، انتفاخ، أصابع يدي، أصابع قدمي، أنفي، أنفي، مع كل سنتيمتر تكبر فيه بطني كان يكبر أنفي: "إيه يا جدعان أنا حامل في مناخيري ولا إيه؟" بدا مظهري مثل توم حين كان يضع جيري منفاخًا في فمه وينفخه كي يطير. أنظر في المرآة: مين دي؟ الحمد لله، اجتزنا فترات التقيؤ ودخلنا في مرحلة المنفاخ. أنظر إلى قدمي اللتين بدتا كقدمي رمسيس الثاني، لا أستطيع ارتداء أي حذاء: أنا مين يا ناس؟ لا أعلم هل ما يسمى باكتئاب الحمل يعود إلى اضطرابات هرمونية كما يقول الأطباء، أم لأنني أنظر إلى المرآة فأجد شخصًا لا أعرفه ليس له ملامح سوى أنف وبطن.
-إييييييييييي
-بتعيطي ليه؟
-مش عارفة -طيب العياط الكتير ده غلط على البيبي
-إييييييييييييييي
-مالك تاني؟
-كل الناس بتفكر في البيبي… كلي عشان البيبي… نامي عشان البيبي… ما تقعديش ع الفيسبوك عشان البيبي… ما تتفرجيش على أخبار عشان البيبي.. طب وأنا؟ ماحدش بيفكر فيا؟ إيييييييييييييييييييييي.
لم أكن قط نحيفة من قبل، لكنني لم أكن أعاني من بدانة، ولم أواجه مشكلة السمنة، ولم أواجه مشكلة أنني علي التوقف عن أكل الطعام الذي أحبه، كي أفقد وزني. كان قبل الحمل والولادة الأمر على ما يرام، كنت كثيرة الحركة، أحب المشي، وأحب التنقل، كلما عن لي فكرة أركب حصان خيالي كما يقول الشيخ حسني في فيلم الكيت كات. أريد السفر إلى العريش كي أمارس اليوجا أمام البحر، أريد السفر إلى دسوق كي أزور سيدي إبراهيم الدسوقي، أريد السفر إلى طنطا كي أقرأ على مسامع جدي السيد أحمد البدوي أسماء أصدقائي الغائبين فهو الذي جاب الأسرى، لم يكن هناك مسافة بين ما أريد وما أنفذ، ولم أعلم ماذا يعني أن يريد الإنسان ولا ينفذ إلا حين دخلت في طور الأمومة بدءاً من الحمل إلى الولادة والرضاعة والعناية بالأطفال. حين ثقلت وأصبحت لا أستطيع السير، وإذا جلست لا أستطيع القيام، أخبرتني الطبيبة أنها ستحدد موعدًا لولادتي.
ربما يعلم أغلب الناس أن الأم في مصر غالباً ما تلد ولادة قيصرية. لا أحد يعلم السبب تحديدًا، لكن الأطباء دومًا لديهم سبب ما لتوليد "الضحية" ولادة قيصرية. حددنا اليوم، وجلست طوال الليل الذي سألد صبيحته أمسك بالسبحة وأقرأ أورادًا، ربما ظن من حولي أنني أخاف من إجراء العملية، لكنني كنت أخاف مما بعد إجراء العملية. حين جلست في غرفتي بالمستشفى ودخل الممرضات لتخديري استعدادًا للعملية، بدأت بشكل تلقائي في دراسة الغرفة والتخطيط لكيفية الهروب: الحمام جنب الباب. أعمل نفسي داخلة الحمام، اخرج من الحمام افتح الباب وأطلع أجري، بس المشكلة مابقتش أعرف أجري زي زمان، وممكن أتدألج على السلم.. طيب، ممكن أتزحلق على الترابزين عشان ما يعرفوش يمسكوني. دخلت الطبيبة المساعدة وأنا أخطط للهروب لتقول:
-يالا يا مدام؟
- يالا إيه؟!
فابتسمت الطبيبة المساعدة وخرجت وتركتني فريسة سهلة في أيدي الممرضات اللاتي وضعنني بلا رحمة على الترولي ودخلن بي إلى غرفة العمليات. وضعوني على فراش العمليات، ثم طلبوا مني أن أجلس ليعطوني حقنة البنج النصفية..
- لا أنا بخاف من الحقن
ضحكت طبيبة البنج – وكان وقتها اسمي مرتبط بالثورة – وقالت: نوارة نجم بتخاف من الحقن؟ أمال مابتخافيش من الخرطوش ليه؟ فقالت لها الطبيبة المتابعة: لا دي غلبانة قوي.. لسان بس
-أييييييييي..
- خلاص خلاص.. أخدتي الحقنة.. ريحي بقى
ثم قيدوا ذراعي في الفراش… إيه ده؟ أنا مقبوض عليا ولا إيه؟
- إهدي يا مدام نوارة… مفيش حاجة
وضعوا ساترًا بيني وبين بطني التي شعرت بهم وهم يقومون بفتحها، لم أشعر بالألم، لكنني شعرت بعملية الفتح، سمعت صوت شق الجلد وإن لم أشعر بآلامه.
-شدي… شدي.. شدي يا دكتورة
- عضلات بطنها جامدة قوي نظرت إلي طبيبة البنج: أنت كنت بتلعبي ألعاب قوى؟
- لا.. كنت باجري ورا مدرعات البوليس
لم ألبث أن سمعت صراخًا…
- إيه ده؟ ده صوت بنتي؟ وضعوها على صدري وأنا مقيدة الذراعين… وهي تصرخ صراخًا جنونيًا
- هم كل العيال كده ولا أنا بنتي شرشوحة زيادة؟
-لا بنتك شرشوحة زيادة
مشاعر مختلطة تتراوح ما بين: "مين دي؟ يااااه.. دي طالعة من بطني؟ دي بني آدم.. أنا أدبست على فكرة.. هي بتعيط كتير كده ليه؟ أنا عايزة أنام.. أنا حافشل… حافشل كـ "أم".. مش حاعرف أعمل حاجة أبدًا.. ولا حاعرف أرضعها، ولا حاعرف أربيها، ولا حاعرف أعمل حاجة..أنا عايزة أهرب من هنا. قبل مولد ابنتي بأسبوعين، كان والدي قد توفيّ. قبل وفاته كنت أدعو الله دوما أن أموت قبله، ويبدو أن الأمر لو تم تنفيذه كان سيصعب على والدي، والله يعلم أن وفاة والدي قبلي ستكون صعبة علي.. لذلك فقد دبر الأمر بأن اختار موعدًا قبل ولادتي بأسبوعين. كان الناس يقولون: "يا عيني يا ربي.. حامل في شهرها وأبوها يموت." الحقيقة أنه لولا استقبال ابنتي لما تحملت وفاة والدي، وربما أصبت بلوثة تدفعني للقفز من النافذة في محاولة للحاق به. أو ربما كنت فقدت إيماني: كده بادعي طول الوقت ده وبرضه أخدته مني؟ لكن التدبير كان معجزًا، وكأنه عز وجل وضع في فمي اللهاية (التيتينة) حتى لا أصرخ. في هذه اللحظة التي كانت تتسارع فيها الأفكار وأخطط للهروب مرة أخرى، وضعت الممرضة ابنتي على صدري وبدأت تعطيني إرشادات الرضاعة بينما يجري حوار داخلي: أنا حافشل.. مش حاعرف أرضعها، وحافشل، أنا فاشلة.. أنا بافشل أهو.. مين دي على فكرة؟ أنا ما أعرفش الإنسانة دي أنا.. ثم فجأة التقت أعيننا. نظرت إلي ابنتي نظرة غريبة جدًا، وكأنها تقول لي: هو أنت بقى؟ عرفتك من صوتك – تتميز ابنتي حتى الآن بحديث العيون.. أو ربما هكذا أظن أنا – فابتسمت وضحكت وبكيت وقلت: تعالي شوف يا بابا.
لا أظن أن الجنة تحت أقدامي. بل أظن أن الجنة على رأس أولادي الواقعين تحت رحمتي ورحمة مزاجي المتراوح المتأرجح
ولدت ابنتي بنسبة صفراء عالية، فاضطررنا إلى وضعها في الحضانة لمدة 48 ساعة، وكانت أطول 48 ساعة مرت علي. أم ترتدي الملابس السوداء حزنًا على والدها وتأتي كل يوم عدة مرات لترضع ابنتها المحجوزة في الحضانة. "وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا." لم أسمع طوال اليومين سوى هذه الآية تتردد في عقلي، وفهمت معنى كلمة "فارغًا" كانت أبواب قلبي تصطك والهواء البارد العنيف يمر فيه، لا أنام، أتصل بالحضانة في الساعة الثالثة صباحًا: آلو.. أنا مامة الطفلة فاطمة الزهراء.. هي عندكم؟ في ذات المرات قالت لي الممرضة ضاحكة: لا نزلت تجيب سجاير.. ثم تداركت، حيث تذكرت أنني أنا الأم التي تتشح بالسواد فقالت في حنان: حبيبتي هي كويسة ونايمة.. ارتاحي أنت شوية، إحنا سهرانين عليها أهو.
-أنام مين؟ أنا عايزة أنزل دلوقت
- تنزلي فين؟
-أروح الحضّانة
- الساعة تلاتة الصبح -أرضعها
- هي نايمة مش الممرضة قالت لك نايمة؟ واحنا واخدين لها بيبرونات من اللبن بتاعك
-لا أنزل.. أشوفها
استلمت ابنتي من الحضانة أخيرًا. منذ ذلك الحين وانتهت أيام الصعلكة وقضاء الليالي والأيام في الشوارع والطرقات. انتهت الأيام: كلما عنّ لي فكرة نفذتها. بعدها بعام ونصف ولدت ابني علي، وأصبحت شخصًا آخر، أحاول تذكر الذي كنت عليه، وكأنني أسترجع فيلما سينمائيا شاهدته في الطفولة مرة واحدة. صرت أنام مبكرًا، وأصحو مبكرًا، أو بالأحرى لا أنام، لكنني أقوم من الفراش مبكرًا، صار نومي خفيفًا (أذكر في النصف الأول من حياتي ما قبل الأمومة أن والدتي في ذات المرات خرجت وأنا نائمة ونسيت المفتاح بالداخل واضطرت للاستغاثة بالجيران لكسر باب الشقة لأن جرس الباب والدق على الباب والدق على الهاتف لم ينفع، ولم يتمكنوا من بعثي من الموات) صرت حين أخرج في الشارع وحدي دون حمل حقائب وأطفال أركض كالحصان الذي حبس في الاسطبل لمدة طويلة، وما إن خرج حتى ركض في كل المزرعة كالملبوس، والناس تنظر إلى تلك التي تركض في الشارع وحدها وتضحك.
صرت شخصا آخر، بصفات أخرى، ونمط حياة آخر، ووزن آخر. (مش قادرة أصدق إني كومت الشحم ده كله ومش عارفة أخلص منه) وبإحساس دائم بالذنب. أنا لست هذا الملاك الذي يعيش من أجل غيره بالرغم من تغير نمط حياتي، ولا أظن أن الجنة تحت أقدامي. بل أظن أن الجنة على رأس أولادي الواقعين تحت رحمتي ورحمة مزاجي المتراوح المتأرجح. وبالرغم من أنني أشعر بثقل المجهود الذي أبذله، إلا أنني أشعر أيضًا بأنهما يستحقان مجهودًا أكبر، وربما أعصابًا أهدأ، ومزاجا أكثر استقرارًا. أما بخصوص قلب الأم، فهو حقيقي إلى حد ما، لكنه مبرر. الناس تتحدث عن قلب الأم الكبير المتسامح المحب المعطاء، وأنا لا أفهم ما الفضل في ذلك؟ هو مش أنا اللي جايباهم في الدنيا لا مؤاخذة؟ وأنا جايباهم عشان أعذبهم؟ لكن لا أحد يتحدث عن قلب الابن أو الابنة، يعني مثلًا لا أحد يذكر أننا في أحيان كثيرة نخطئ في حق أبنائنا وأنهم يسامحوننا، ويغفرون لنا، ولا يعاقبونا على ما قد نقترفه في حقهم إما بجهل أو بسبب ضغوط الحياة أو الإرهاق أو ثقل المسؤولية، كل ذلك ضاغط، وقد يكون عذرًا، لكنه لا يخصهم في شيء، وليسوا مسؤولين عنه، لكنهم يتسامحون، ويظلون محتفظين بحبهم، وهذا يشعرني دوما بالذنب.
الناس تتحدث دومًا عن "الأم اللي ربتك وجابت لك جبنة مثلثات وعلمتك وفهمتك.. يا قليل الأصل يا واطي" ولا أحد يتحدث عما نتعلمه من أبنائنا، عن محاولات تأديب النفس حتى نبدو في صورة لا بأس بها، عن ضرورة تقديم الاعتذار للابن أو الابنة حين نخطئ حتى نتمكن من تعليمهم الاعتذار عند الخطأ. علماً بأنهم يخطئون وهم يجهلون، ونحن نخطئ ونحن نعلم. "بكرا تخلفي وتعرفي".. آه والله خلفت وعرفت.. عرفت أنني لا أحتاج لممارسة "عدة النصب" على أبنائي كي أحملهم فوق طاقتهم وأمارس عليهم سلطات ليست من حقي وأطالبهم بالوفاء بدين لم أدينهم به، وأنهم متسامحون بقدر تسامحي، ومحبون بقدر حبي، يعلمونني بقدر ما أعلمهم وربما أكثر. يؤدبونني بقدر ما أؤدبهم وربما أكثر. "لست ملاكًا".. أنا شخص يحاول جاهدًا ألا يؤذي هذه الكائنات القصيرة الصغيرة صاحبة الصوت الحاد العالي قدر المستطاع. أحاول جاهدة ألا أحملهم أعباء مشاكلي وعقدي واختياراتي.. أفشل في أحيان كثيرة، وأشعر دوما بالذنب. هذا بشأن الأمومة.. أما فيما يخص الطفولة "البريئة" فلنا حديث آخر.
يمكنكم متابعة نوارة على تويتر NawaraNegm@