حين بدأت الكتابة عن الحجاب ودعوات ارتدائه وخلعه والموجات المتتابعة من النقاش والجدل المجتمعي الذي يثار حوله كل بضعة سنوات، كنت أتخيل أن الأمر يمس فقط طبقة المثقفين الداعين لسيادة القيم الليبرالية في المجتمع وصراعهم التقليدي مع طبقة المحافظين الذين كان همهم الأول دائمًا وأبدًا الحفاظ على قيم وأصول المجتمع بشكله التقليدي غير المنفتح على ثقافات أخرى والمعادي في كثير من الأحيان لإطلاق اليد للحريات الشخصية، والداعين لها مع وجود دائم للمظاهر الدينية في القلب من هذه الأصول والتقاليد؛ إلا أنني هالني ما تدفق على صندوق بريدي الإلكتروني وصفحتي الشخصية بـ "فيسبوك" من قصص وحكايات لبنات الطبقة المتوسطة ممن عانين ولازلن من قبضة المجتمع الملتفة حول أجسادهن، والمراقبات دومًا من جميع فئات المجتمع التي تؤمن أن ترك الفتاة لتتصرف "كما يحلو لها" هو المقدمة الحتمية والضرورية التي تسبق تكليل أهل تلك الفتاة بأكاليل العار والفضيحة.
لهذا فمن الطبيعي والمنطقي في حياة الطبقات المتوسطة أن تشاهد تحكم أشخاص ليس لهم أية صلة دم بالفتاة في مصيرها، فهناك الجيران، والمعارف، وبقال الشارع، وبواب العمارة، إذ يعتبر كل منهم نفسه كاميرا المراقبة المتحركة ومستعدة في أي وقت لتبليغ الأهل بتصرفات ابنتهم، والتبرير الحاضر دائما، أن "الناس لبعضيها" و"كلنا عندنا بنات" و"البنت جرسة ولو اتسابت هتدور على حل شعرها"، هذا بالطبع إلى جانب كل من يتحكمون في حياة واختيارات ابنة الطبقة المتوسطة من أقرباء الدم، الأعمام والأخوال وأبناء العمومة، إلى آخره. أما أهالي الطبقة المتوسطة أنفسهم، فتجدهم دائمي التفاخر بأنهم يتركون لابنتهم الاختيار لأنهم يثقون بها وبما ربوها عليه، فهي تختار صديقاتها وربما مجال دراستها، وتختار ألوان غرفتها أو ملابسها، ثم يصل الأمر لمرحلة ارتداءها الحجاب، فيتحدث الأهل بكل الرصانة الموجودة في الوجود أنهم لن يجبرونها أبدًا على ارتدائه، فهم سيقنعونها أولًا، وإن سُأل أحدهم : فماذا لو لم تقتنع؛ لأجاب برد سريع تلقائي قائلًا: "لا ما هي هتقتنع يعني هتقتنع."
ومن هنا لاحظت أن معظم القصص المحكية التي وصلتني على لسان المُجبرات على ارتداء الحجاب تشترك في نقطة أساسية ومحورية، هي أن أيًا منهن لم تمنح أبدًا حرية الاختيار على الرغم من التشدق بأنه اختيارها الشخصي أو أنه أمر خاص به ستحاسب عليه أمام الله وحدها، وبينما تعبير "اختيار" في اللغة العربية يعني بضرورة الأمر وجود أكثر من بديل يختار المرء بينهم، لكن قرار الحجاب في كل تلك القصص كان خيار وحيد بلا بدائل، فهو "إرغام على الاختيار" إن جاز لنا تعريفه بهذه الطريقة.
هدى ما زالت تتذكر ما فعلته أمها التي لجأت إلى حيلة اعتبرتها ذكية لدفع إبنتها (التي بلغت في سن الحادية عشر) لارتداء الحجاب، فقد منعتها من الذهاب لمصفف الشعر الذي كان يُساعد في السيطرة على شعرها صعب التصفيف
إرغام على الاختيار
كانت أقسى القصص التي تلقيتها قصة علياء (18 عامًا) التي حكت عن والدها الذي تغير جذريًا عند عودته من العمل في إحدى الدول العربية بعد تجربة عمل محبطة خسر خلالها الكثير من أمواله بدلًا من أن يجني المزيد. حكت علياء عن نظرات أبيها المتربصة بها وخاصة حين كانت والدتها تقص عليه مديح مدرسيها لتفوقها الواضح في الدراسة وتنبأهم لها بمستقبل مشرق. كان والدها وقتها يرمقها بنظرات متوجسة خوفًا من أن تخرج عن طوعه، و كان أن قرر أن أسهل طريق لحماية ابنته التي لم تكمل عامها الرابع عشر بعد هو في تقريبها للدين والتدين، فبدأ في مراقبة صلاتها، لا عن طريق متابعته لمواعيد أدائها لها، بل كان يطلب منها أن تأتي بسجادة الصلاة و تصلي أمامه، ويطلب منها أن تعيد الصلاة ذاتها مرات عديدة حتى تبكي تعبًا أو إرهاقًا فينظر لها بانتصار معتبرًا أنه أخيرًا أوصلها لحالة الخشوع الواجبة أثناء الصلاة. كان يومًا فاصلاً حين شاهد مصادفة صورة لها مع صديقاتها في حفل عيد ميلاد إحداهن وقد تزين جميعًا في الصور، ثار الأب ثورة عارمة حتى مع تأكيد علياء أن الصورة لم يرها غيرها هي وصديقاتها، لم يشفع لها التفسير وانهال عليها الأب ضربًا حتى أصابها بجرح قطعي في الشفاه و كاد أن يكسر ذراعها، وحين أنهكها التعب ففقدت الوعي، واستيقظت في اليوم التالي لتجد ضفيرتها الطويلة قد قُصت ووضعت بجانب رأسها على وسادتها، ومن يومهًا تم إصدار فرمان ارتدائها للنقاب.
أما هدى فرغم سنواتها الـ 27 ما زالت تتذكر ما فعلته أمها التي لجأت إلى حيلة اعتبرتها ذكية لدفع إبنتها (التي بلغت في سن الحادية عشر) لارتداء الحجاب، فقد منعتها من الذهاب لمصفف الشعر الذي كان يُساعد في السيطرة على شعرها صعب التصفيف، وأخفت كل ما كانت تمتلكه من أربطة الشعر ومنعت عنها مصروفها، لتذهب "هدى" مشعثة الشعر للمدرسة وتواجه بعاصفة من السخرية التي قادها أحد مدرسيها وتبعته زميلاتها في المدرسة. دعاها مدرسها لمداراة "شوشتها" بحجاب طالما أن وضع شعرها بهذه المأساوية، وصرح لها وسط ضحكات زميلاتها أنه ليس لهم ذنب لرؤية هذا المنظر "المؤذي"، لم تثنيه دموعها عن مواصلة سخريته ولا أثنت أمها عن قرارها الذي لم تجد "هدى" بدًا من إطاعته، فارتدت الحجاب الذي ارتبط في ذهنها منذ ذلك اليوم بالأذى النفسي و القهر والإهانة.
كذلك وقعت ياسمين التي تجاوزت اليوم 25 عامًا ضحية خدعة أخرى من أبيها الذي كان يحاول إقناع ابنته الكبرى بارتداء الحجاب عن طريق دفع ياسمين التي كانت يومها في الصف الأول الابتدائي لارتداء الحجاب، أملًا في أن تشعر أختها التي تكبرها بأربعة سنوات بالحرج فترتديه هي الأخرى. وبينما ظل الوالد يتفاخر بهذه الحكاية بين أصدقائه وعائلته، كانت "ياسمين" عاجزة عن استيعاب فكرة فخر أبيها العظيم بخداع طفلة لا تفهم ما ترتديه فضلًا عن كونها مقتنعة به.
تحكي لنا عبير وسالي قصتين متشابهتي التفاصيل عن مدرسات يرفضن توجيه الحديث إليهن، أو إشراكهن في المناقشات التي تدور داخل الفصل باعتبارهن غير جديرات بالمشاركة في تلك المناقشات التي تخص فقط الفتيات العفيفات
أما مروة (34 عامًا) فتتذكر أن مرور أخيها بفترة تدين و التزام (كما أسماها هو) كان العامل الحاسم في دعوته لها لارتداء الحجاب، لكنها في الواقع لم تكن مجرد "دعوة"، فقد جمع في يوم ما كل ملابسها التي لا يرضى عنها ومزقها ثم وقف لها أمام باب الشقة حاملًا في يده سكينًا كبيرًا ليمنعها من النزول للشارع بدون حجاب، وبينما وقفت أمها التي ترملت وأفنت عمرها في تربية أبنائها في جانبها بداية الأمر وأخذتها وتركت المنزل اعتراضًا على تجرؤ إبنها على رفع السكين في وجه أخته، إلا أنها لم تلبث بعد بضعة أيام أن أقنعت "مروة" أن ترتدي الحجاب حتى تعودان إلى منزلهما وحياتهما دون فضائح. كانت موجة التدين التي ضربت منزل “صفاء” التي تجاوزت الـ 30 من عمرها آنذاك بأسابيع قليلة هي أيضًا ما دفع إخوتها الذكور الذين يصغر أكبرهم الشقيقة المغلوبة على أمرها بخمس سنوات كاملة أن يجبرونها على ارتداء الحجاب والملحفة والإسدال، وحين حاولت في أحد الأيام الخروج من المنزل بـ "بلوزة" وتنورة طويلة مع احتفاظها بالحجاب فوق رأسها، تم ضربها وحبسها في منزلها ومنعها من تكملة عامها الدراسي؛ فخسرت سنة كاملة من عمرها حتى عادت إلى رشدها في رأي إخوتها الذين تابوا عليها حين امتثلت لأوامرهم.
العامل الحاسم الذي دفع والدا فاطمة التي تبلغ من العمر 29 عامًا الآن، لإرغامها على ارتداء الحجاب من عمر العشر سنوات بسبب بنية جسدها التي تمنحهًا مظهرًا أكبر من عمرها. رفض الأبوان رفضاً تاماً ارتداءها الملابس العادية وأصرا على اقتصار ملابسها على العباءات، وفي نفس الوقت لم يجبرا أيا من شقيقاتها الأكبر ولا الأصغر على ارتداء الحجاب ولا العباءة، بينما كان لحادث تحرش كانت أمنية (الفتاة التي تقف على أعتاب الثلاثين الآن) ضحية له في بداية المرحلة الإعدادية، هو ما دفع شقيقتها الأكبر منها لمقاطعتها إن هي لم تذعن لنصيحتها التي كان مصدرها الأول خطيبها المتدين، إذ نصحتها بارتداء الحجاب الذي سيحميها من كل محاولات التحرش المستقبلية وإلا فلتعتبر نفسها حلوى مكشوفة ترحب بكل من يتكالب عليها من أسراب الذباب.
أما عن حكايات الترغيب والترهيب من خارج الإطار العائلي، فتحكي لنا عبير وسالي (26-31 سنة على التوالي) قصتين متشابهتي التفاصيل عن مدرسات يرفضن توجيه الحديث إليهن، أو إشراكهن في المناقشات التي تدور داخل الفصل باعتبارهن غير جديرات بالمشاركة في تلك المناقشات التي تخص فقط الفتيات العفيفات، بل تمادت مدرسة سالي وحرمتها من دخول الفصل في وقت حصتها ما هددها بالرسوب أو على أقل تقدير بالالتحاق بالفصل الصيفي للمدرسة، وحين اشتكت سالي لأمها، تفهمت الأم موقف المدرسة التي تريد الخير لإبنتها وتركت "الاختيار" لـ سالي بدعوى أنه خيارها الخاص ولا يمكن لأحدهم إجبارها أبدًا عليه.
بين الفرض الديني والعرف الاجتماعي
كانت كل تلك القصص كاشفة بحق عن الطرق المختلفة التي قد يتبعها الأهل والأقارب والجيران لإجبار فتياتهن العزيزات على ارتداء ما يعتبرنه جزء لا يتجزأ من العرف الاجتماعي والشكل المعتمد للفتاة المحترمة في عرف الجميع. هل ظننتم أنني سأصف الحجاب في رأي هؤلاء بأنه جزء لا يتجزأ من الدين؟، في الواقع الأمر مختلف قليلًا عن ما يتم الدفع به في وسائل الإعلام من معنى الحجاب أو غرضه في المجتمع المصري. في الجانب الأعظم من الحكايات السابقة نلاحظ أن فكرة دفع الفتيات لارتداء الحجاب تدور فقط حول ما يصح أو المفروض من قواعد المجتمع المتعارف عليها، وإن لم يكن ُبعد ظاهرة الإجبار على ارتداء الحجاب كل البعد عن الزاوية الدينية واضحًا في القصص السابقة، فهي أكثر وضوحًا في النصف الآخر من قصص المشاركات، تلك القصص التي تتحدث عن اللحظة التي اتخذن فيها قرار خلع الحجاب أو حتى حلمن باتخاذه، وما ترتب من تبعات علي هذا القرار أو هذا الحلم في أوساط عائلاتهن أو عملهن.
في البدء دعونا نمر سريعًا على بعض أسباب ما يدعى حاليًا بـ "ظاهرة خلع الحجاب" أو بالأحرى دعونا نذكر فقط التأثير الواضح لثورة يناير وتبعاتها على تشكل تلك الظاهرة، فقد مر فيما مر على هذا البلد من هزات تسببت بها تلك الثورة المبتورة هزة مدوية كشفت غطاء جماعات الإسلام السياسي التي لطالما اعتبرها المواطن المصري ممثلة بشكل أو بآخر لتعاليم الإسلام، اكتشف الجميع فجأة أن معظم تلك الجماعات التي تتكون من "بتوع ربنا" لا تعدو كونها أحزاب وجماعات سياسية تهدف إلى الوصول للحكم، قد أدى ما ارتكبه أعضاء تلك الجماعات من أعمال تتنافى كليًا مع ما كانوا يبشرون به من تعاليم في المجتمع المصري إلى نفور الأغلبية العظمى من المتحمسين السابقين لهم أو حتى من كانوا محايدين تجاههم منهم ومن كل ما كانوا يدعونه وبعضًا مما كانوا يدعون إليه.
هل سمعنا يومًا عن عائلة تحبس شابًا تخطى الثلاثين من عمره لأنه لا ينتظم في الصلاة؟ هل سمعنا عن أصدقاء قاطعوا صديقهم لأنهم عرفوا أنه لا يُخرج الزكاة بانتظام؟ هل أتانا حديث منطقة بأكملها تلوك سمعة أحد الرجال لأنه يمتلك من المال ما يكفيه لأداء فريضة الحج لكنه يتكاسل عنها
ومن بين ما كانت تلك الجماعات تفتخر به و تعتبره نصرًا اجتماعيًا لها و قدمًا وضعتها في كل بيت من بيوت مصر هو "الحجاب"، فقبل الحملات الواسعة التي اعتمدت شعار "الإسلام هو الحل" ومعه "الحجاب قبل الحساب" والبقية الباقية من الشعارات التي نشرتها تلك الجماعات وغيرت بها بشكل أو بآخر شكل التركيبة الاجتماعية لعموم المصريين، لم يكن للحجاب انتشارًا يذكر في ربوع الدولة المصرية، كانت الفلاحات يرتدين طرحهن البسيطة، وكانت جدات الجدات في القرن الماضي يرتدين الحجاب التركي بنفس منطق ارتداء جدود الجدود للطربوش، لكن "الحجاب" بشكله الحالي لم يظهر إلا مع تنامي نفوذ تلك الجماعات في البيئة المصرية وتقديمها لتفسيرات دينية مختلفة تمامًا عما شاع لعقود طويلة في العقل الجمعي المصري، فكان لابد من تأثر تلك المفاهيم التي انتشرت على أياديهم بسقوطهم المدوي بعد ثورة يناير، فأدى ذلك فيما أدى إلى تلك الثورة الاجتماعية المحدودة التي بدأت تجتاح صفوف فتيات الطبقة المتوسطة على وجه الخصوص. أعرف وحدي ما يقرب من 16 صديقة - معرفة شخصية - وقد اتخذن قرار خلع الحجاب في السنوات الأربعة الماضية، لم نجتمع يومًا لنتحدث عن الموضوع و لم نتخذ قرارا جماعيا بالتمرد، وإنما تبعنا بعضنا البعض في اتخاذ القرار كما تتابع موجات النهر، هادئة، دون صخب، لكنها مستمرة و متتابعة.
وصاية باسم النوع البيولوجي
دعونا هنا نضع حدًا للجدل الذي قد يثيره محتوى هذا المقال من قصص وشهادات؛ فلسنا هنا بصدد مناقشة كون الحجاب فرضًا على عموم المسلمات من عدمه، فقط نناقش ما تتمتع به هذه الفئة من المجتمع المصري من حرية في اتخاذ قرارًا من أكثر القرارات شخصية وهو قرار متعلق بالمظهر العام، أو ربما نوسع النقاش قليلاً لنرصد ما تتمتع به النساء المصريات من تقدير لعقولهن وقدراتهن على فعل الصواب والخطأ، فـ "الكود الاجتماعي المصري" ينص على أن النساء يجب أن يؤخذ بأيديهن لمساعدتهن على الاهتداء للصواب، وأنهن غير مؤتمنات وحدهن على اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتهن، كما أنه يمنع منعًا باتًا أن يخطئن، فالخطأ في حياة المرأة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتأثر سمعتها سلبًا، سواء كان هذا الخطأ دينيًا أو اجتماعيًا أو حتى صحيًا، فعلى سبيل المثال يمكن للرجل أن يضر بصحته عن طريق إدمانه لتدخين السجائر، يتوافق المجتمع مع اختياره وقد ينصحه البعض حرصًا على حياته، بينما يرتبط تدخين المرأة للسجائر تلقائيا في أذهان الأغلبية من أفراد المجتمع بالشك في أخلاقها، ويطالب المجتمع ضمنيًا أو فعليًا الرجال في عائلتها بالسيطرة عليها، ويسقط هؤلاء الرجال في نظرهم أن لم يتدخلوا ويمنعوها عن فعل ما يحلو لها، كذلك اختيار الرجل للانفصال عن زوجته أو اختيار الشاب للسفر بعيدًا عن عائلته بحثًا عن فرصة عمل، كلها اختيارات ينظر لها المجتمع بشكل محايد تمامًا، بينما نفس الاختيارات في حالة المرأة تدل على أنها مستهترة أو أنها تسعى سعيًا حثيثا للانحراف. حتى في الفروض الدينية، هل سمعنا يومًا عن عائلة تحبس شابًا تخطى الثلاثين من عمره لأنه لا ينتظم في الصلاة؟ هل سمعنا عن أصدقاء قاطعوا صديقهم لأنهم عرفوا أنه لا يُخرج الزكاة بانتظام؟ هل أتانا حديث منطقة بأكملها تلوك سمعة أحد الرجال لأنه يمتلك من المال ما يكفيه لأداء فريضة الحج لكنه يتكاسل عنها.
بالطبع لا، في كل تلك الحالات لا يخطر للمجتمع أن يعلق على الأمر أصلًا، و إن علق يكون تعليقه دعوات بالهداية والصلاح، لكن حين يأتي الأمر لما يعتبره البعض (طبقا لتفسيرات عديدة) فرضًا دينيًا لكنه لا ينتمي بأي حال من الأحوال للفروض الخمسة بل إن الشريعة لم تشرع لعدم أدائه حدًا و لا كفارة، نجد أن المجتمع كامل التوافق مع فرضه قسرًا عن طريق الإيذاء الجسدي من حبس وضرب ومنع من استكمال التعليم، وقص شعر، وحرمان من المصروف، وغيرها من طرق الإجبار على الحجاب ورفض قرار أي امرأة بالتوقف على ارتدائه (خلعة)، فقط لأن الأمر يتعلق بامرأة.
ثمن القرار
حين يبدأ الحديث عن رغبة إحداهن في التوقف عن ارتداء الحجاب أو عن قيامها بالفعل بهذه الخطوة، نسمع جميعًا تلك العبارة الكليشيهية المعتادة: "ما اللي عايزة تلبسه تلبسه واللي عايزة تقلعه تقلعه"! بينما ندرك جميعًا أن الأمران لا يتساويان، حين تُقبل الفتاة على ارتداد الحجاب في الغالب تجد التشجيع من كل من حولها ، على سبيل المثال تُقيم بعض المدارس الإعدادية والثانوية احتفالاً تكُرّم فيه الفتيات اللاتي قررن ارتداء الحجاب، و إن اعترض الأب أو الأم يكون في الغالب اعتراضًا طفيفًا غرضه أن تكون الفتاة على قدر القرار الذي يستحيل (في عرف المجتمع) التراجع عنه فور اتخاذه، فالمجتمع قد يتقبل من لم ترتدي الحجاب أبدًا، لكن من ارتدته لا يجب لها أن تخلعه وإلا صارت في نظر البعض مرتدة عن الدين. لا يُعرف بالضبط مصدر تلك الأسطورة، أو كيف ارتبط خلع الحجاب بالردة عن الدين في رأي المصريين، لكنها وجهة نظر منتشرة ومتوغلة توغل اعتبار المرأة وحجابها يؤثران تأثيرًا مباشرًا على مصير رجلها (زوجها كان أو أبيها أو أخيها) في الآخرة، إذ يفسر الكثيرون حديث: "كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته"، وهو ما يعني أن الراع مسؤول عن راحة و تلبية رغبات رعيته، يفسرونه على أن الرجل سيحاسب عن اختيارات امرأته، على غير تفسير الحديث الشريف.
في أغلب الأحيان تتردد المرأة لسنوات طويلة قبل أن تحسم قرارها تجاه التوقف عن ارتداء الحجاب، في البداية يكون البحث في الأمر عن طريق القراءة والمقارنة بين الآراء شاقًا، نظرًا لاعتماد الكتب الدينية على النقل من بعضها البعض وإغفال الباحثين لكل الآراء التي لا تتفق مع ما يطلق عليه "إجماع العلماء"، ثم يأتي التخوف من اتخاذ قرار قد يؤدي بصاحبته للهلاك، ثم يأتي التفكر الشخصي فيما وراء الأمر، أو البحث عن مقاصده، ثم يأتي الهلع الاجتماعي من العزلة أو المقاطعة من المعارف والزملاء والأصدقاء أو تلقي العقاب الجسدي من أفراد العائلة. كل تلك المراحل قد تستغرق سنوات وسنوات، لا توجد من تستيقظ من نومها يومًا ما لتقرر أن تتوقف عن ارتداء الحجاب، هكذا بدون مقدمات. استغرق الأمر مني على سبيل المثال 9 سنوات كاملة حتى حسمت قراري، ويستغرق من بعض من سمعت قصصهن وقتًا أطول ربما لأنهن يدركن خطورة تبعاته.
عبير كان رد فعل زوجها أغرب و أعجب، إذ هددها بأنها إن قامت بخلع الحجاب فسيقوم بخيانتها، و حكى لها عن صديقه الذي يفعل الشيء ذاته، لم تحترم زوجته - في نظره - رجولته، فقام بخيانتها انتقاما منها
ما بعد القرار
تتحدث سالي عن اليوم الذي أخبرت فيه زوجها عن رغبتها في خلع الحجاب، يومها استغربت من رد فعل زوجها الذي أخبرها بهدوء أنه اختارها زوجة بشكلها الحالي وحجابها كان جزءًا من مواصفات الزوجة التي يبحث عنها وإن توقفت عن ارتداء الحجاب فسيطلقها بدون تردد. وحين لفتت "سالي" نظره إلى أنها منذ قابلته منذ 10 سنوات وقبل و أثناء وبعد ميلاد أبنائهما الثلاثة لم تره أبدًا يركع أو يسجد في صلاة، ولا التزم بأي من الفروض الدينية مهما نصحته ودعته للالتزام بها، فلماذا يضع أمر الحجاب في كفة وبقية حياتهما في كفة، خاصة وأنه ليس له علاقة بالتدين من الأصل، فأجابها زوجها بنفس الهدوء أنه رجل و من حقه أن يفعل ما يحلو له، و أن عليها ألا تقارن نفسها به، وأن قراره لا رجعة فيه، وهكذا فضلت "سالي" أن تواصل ارتداء الحجاب دون اقتناع أو رغبة حتى تحافظ على ما تبقى من حياتها من الانهيار على الأقل في نظر المجتمع.
أما عبير فقد كان رد فعل زوجها أغرب و أعجب، إذ هددها بأنها إن قامت بخلع الحجاب فسيقوم بخيانتها، و حكى لها عن صديقه الذي يفعل الشيء ذاته، لم تحترم زوجته - في نظره - رجولته، فقام بخيانتها انتقاما منها. عقدت المفاجأة لسان "عبير" وتراجعت سريعًا عن الفكرة، إلا أنها تستكمل حكايتها قائلة أن هذا لم يثنِ زوجها عن خيانتها على أية حال؛ إذ يبدو أن الفكرة في حد ذاتها قد راقت له.
أما حين راودت مروة فكرة خلع الحجاب، فقد كانت ترتعد لما تتوقعه من رد فعل أخيها الذي لا تزال تتذكر حمله للسكين ووقوفه في وجهها حين أراد لها أن ترتدي الحجاب، فما بالك بقرارها بخلعه! تركت "مروة" المنزل لبيت بعض أقربائها وأعلنت قرارها من هناك، على إثر ذلك استشاط أخيها غضبًا وذهب ليأخذها إلى منزلها عنوة ساحلًا إياها في الشارع، لتقضي الأسابيع التالية محبوسة وممنوعة من الخروج، إلا أن صمودها ووقوف والدتها بشكل أقوى في صفها هذه المرة، أنقذاها من التعرض لما هو أخطر من ذلك.
أما عن هدى التي خدعتها أمها بالتوقف عن تصفيف شعرها حين أرادت أن تجبرها على ارتداء الحجاب، و"فاطمة" التي أجبرها أبواها على ارتدائه لسمنتها، فقد ارتبط الحجاب في أذهانهما ارتباطًا وثيقا بكره عميق لجسديهما، وحين قررت كل منهما التوقف عن ارتدائه تفاجأ زوج هدى بما يمثله لها من جرح عميق أثر تأثيرًا مباشرًا على ثقتها بنفسها، و تفاجأ زوج فاطمة بأنه كان جزءًا من مشاكلهما الزوجية بسبب ارتباطه بعدم رضاء زوجته عن جسدها،لم يكتشف الأمر إلا من خلال جلسات نفسية خضعا لها معًا للوقوف على أسباب نفور زوجته منه ومن نفسها، وبينما وافق زوج "هدى" أن تخرج معه بدون حجاب، لكنه اشترط أن يكون ذلك فقط في المصايف وخارج حدود البلاد، اشترط زوج "فاطمة" أن ترتدي الحجاب أمام عائلته حتى لا يهين أحدهم رجولته. ولم يذكر أحدا من الزوجين الدين ولا التدين، فهو في نظرهما مجرد دليل على إحكامهما لقبضتهما على مقدرات زوجاتهما.
شيرين والتي لم ترتدي الحجاب أبدًا، فكان والدها دائم الربط بين عدم حجابها وبين تأخرها في الزواج
سارة (33 عامًا) اتخذت قرارها قبل أن تتزوج، و لم تكن المشكلة أبدًا في عائلتها، فقد تعامل معها زملاءها في العمل على أنها فقدت عقلها، استدعي مديرها موظفًا زميلًا لها كانوا يطلقوا عليه لقب "الشيخ" خصيصًا من إجازته ليقيم لها جلسة نصح وإرشاد عاجلة، وضعت زميلة لها طرحة عنوة فوق رأسها، بينما جلست الأخرى ممسكة بيدها تقرأ لها القرآن لعل ما يسكن جسمها من "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، يغادرها فتعود لعقلها، لم تتحمل "سارة الضغط المكثف وعادت لارتداء الحجاب، لكنها تندم كل يوم عن تراجعها، خاصة وأن الكل يعايرها بين وقت وآخر بالوقت الذي فقدت فيه عقلها.
أما شيرين (29 عامًا) والتي لم ترتدي الحجاب أبدًا، فكان والدها دائم الربط بين عدم حجابها وبين تأخرها في الزواج، وحين طلبت منها يومًا الواسطة بينها و بين عريس لقطة أن ترتدي الحجاب "كده و كده" حتى يرضى عنها العريس؛ أعلنت رفضها، فنهرها والدها بشدة واتهمها بأنها هي من تحد من فرص زواجها، وحين سألته مستغربة و ماذا إن كان العريس لا يصلي مثلًا، أمن حقها هي الأخرى أن تجعل صلاته من شروط قبولها له كما يجعل هو من حجابها أحد شروطه؟، فأخبرها والدها بوضوح أن "دي نقرة ودي نقرة تانية" ، وأن العريس المنتظر إن لم يكن يصلي فعليها أن تدعو له، أما هو فعليه أن يجد ما يبحث عنه فيها و إلا تكن غلطتها هي.
من ناحيتها، لم تفكر علياء أبدًا في خلع نقابها، بل لم تفكر في أي شيء إلا أمنيتها المخلصة في أن يتركها أبيها لتعرف ربها بنفسها، تؤدي الصلاة له وحده، و تصوم له وحده، و ترتدي ما تشعر أنه يليق بعبادتها له وحده، لكنها يومًا بعد يوم تشعر أنها قد تموت قبل أن تمنح القدرة على الاختيار. حين توقفت عن ارتداء الحجاب بعد 20 عامًا من ارتدائه تخيلت أنني وحدي من عانيت لاتخاذ هذا القرار، وأنني دفعت ثمنًا باهظًا بسبب ذلك الاختيار، فقد فقدت بعض الصديقات، وتعرضت لمضايقات لفظية وعملية، لكنني بعد قراءتي لكل تلك القصص التي انهالت عليا حين طلبت من صديقاتي "الفضفضة" أدركت أنني بالفعل محظوظة، ودعوت من قلبي لكل من كانت في مفترق طرق أن يمنحها الله القدرة على الاختيار، فكيف يمكن للإنسان أن يخلص لقراراته، كيف له أن يثق في قناعات، كيف له أن يؤمن إن كانت تلك القناعات ستضعه بين زمرة المؤمنين أو بين زمرة المخطئين إن لم يمنح أبدا حق اختياره لها.