مُنذ أسابيع أتممت عامي الخامس والعشرين، وبدأت معه الضغوطات والسؤال المُلح على الزواج بشكل لا أستطيع تحمله؛ لأكن صادقة هذه الفترة ليست أولى مرات حياتي التي يتم سؤالي فيها عن الزواج والارتباط، حقيقة الأمر أن ذلك بدأ وأنا في الصف الثالث الإعدادي، أي حين كان عمري 15 عامًا.
كانت صدمتي الأولى حين سألتني إحدى قريباتي القرويات بعد فترة غياب "متخطبتيش؟" ولكنني تجاهلت السؤال لغرابته. مع دخولي العشرينات، أصبح الأمر أكثر جدية، فقد تزوجت غالبية صديقاتي وأنجبن، وتحولت جميع الزيارات العائلية في السنوات الأخيرة إلى حديث عن خطوبة أو زواج أحدهم ويتخللها طبعاً كلمة "عقبالك" وهذا أبسط شيء يمكن أن يُقال لي بالطبع، فآخرين يوجهون لي أسئلة صريحة عن سبب عدم زواجي حتى الآن، والبعض يسأل "مفيش عرسان؟" هكذا بصراحة فجة، وتكون إجاباتي دائمًا مطاطة ومرنة "لسه ربنا يسهل" وينتهي الرد غالبًا بكلمة "ربنا يسََتر كل الولايا" الجملة التي تثير اشمئزازي دائمًا.
لأكون أكثر وضوحًا الزواج ليس المشكلة، في فأنا كـفتاة أعيش في سوهاج في صعيد مصر، لدي مشاكل أكبر من الزواج بكثير، فالذكورية التي تحيط حياتي تجعل الزواج واحدة من مشكلات لا حصر لها، وإن كانت هي المحور الرئيسي فأنا في النهاية لم أخلق إلا "لخدمة الرجل" في نظر قاطني هذه البقعة الجغرافية.
قبل أن أتحدث عما يعنيه أن أكون فتاة من جنوب البلاد أريد أن أوضح ما معنى "رجل صعيدي" أصلًا، لندرك حجم المفارقة بين الجنسين. يُعرف الصعيدي، بأنه شخص شديد الكرم والجدعنة والحمشنة أيضًا، وأظن أن هذا الأمر ليس غريبًا عليك عزيزي القاريء ففي النهاية، لم تُقصر الدراما المصرية في عكس صورتنا، التي لا تُشبه الواقع دائماً.
نعم نحن أهل كرم فعلًا، وبناخد بتارنا إن لزم الأمر، والصعيدي لا يترك حقه، لا ينكسر، ويكون دائمًا مرفوع الرأس، وشامخًا، ولكن نحن نتحدث فقط عن الرجال. حينما ينتقل الأمر للنساء يختلف الأمر تماماً. فهذا الرجل الشهم الحمش ابن البلد هو نفسه الرجل الذي يرفض أن يورث أخته معه، وهو من سيقتلها إن فعلت شيئًا يمس "شرفه" أو خرجت عن طوعه، بسهولة تامة، والحجة موجودة دائمًا "أنه صعيدي."
لأتحدث عن حياتي كفتاة عاشت عمرها كله في صعيد مصر، كنموذج حي وشاهد لما أقول. المشكلة الأولى الراسخة بشكل أعمق مما يمكن محوه أو تفاديه هي الختان. وأوضح ذلك من ردود الأفعال التي أراها عندما أُشاهد حملات مناهضة للختان والقوانين التي تُحرم وتوعي من خطورة هذا الفعل الشائن، فلا أجد أبدًا أحدًا يُفكر أو يسأل نفسه مرة واحدة حتى، هل من ضرورة حقًا لفعل ذلك؟ فالختان ثقافة وعُرف مترسخ بطريقة تحتاج مئات السنين لمحوها، إذ قلما تجد فتاة صعيدية غير مُختنة وقلما تجد أحدًا يتحدث عن الختان كعادة سيئة أصلًا، حتى الأطباء الذين يمارسون مهنتهم إيمانًا منهم بسمو ما يفعلوه. لا أحد من حولي كان يرى أية مشكلة في تشويه الأعضاء الأنثوية لبناته، وهو أمر جعلني أشعر بالألم كثيرًا كلما فكرت الأمر وأدركت أن ما حدث لي كان أمرًا غاية في القرف. الأمر الثاني الذي لا يقل وجعًا عن تشويه الأعضاء الأنثوية هو الزواج في عمر مبكرة للفتيات.
كنت في المدرسة الإعدادية، وأنا أبنه المدينة، وأشاهد فتيات كثيرات مخطوبات وهن لم يتجاوزن الرابعة عشرة من عمرهن. وطبعًا لم أكن أفهم شيئًا أو أملك وعيًا لأحكم على ما يحدث؛ ولكن شيئًا بداخلي كان يستنكر ما يحدث. ولكن الأكثر قسوة فعليًا هن الفتيات المتزوجات بالفعل في الأرياف ويتحملن ما لا يقدرن عليه في هذا السن ولا أحد يعترض، أو يأخذ صراخهن أو أوجاعهن على محمل الجد، وهذه نماذج بسيطة من بعض الانتهاكات التي يمكن أن تحدث للأطفال في صعيد مصر.
يُصبح أخي -الذي لا أغسل له ملابسه- ضحية تستحق الشفقة والدعم، ولا أقول ذلك على سبيل الضحك
كبرت تدريجًا وكلما كبرت كلما اشتدت القيود من حولي، خاصًة في حياتي مع أبي المتشدد، كان أول ما حدث لي عندما أتممت التاسعة من عمري منعي من اللعب في الشارع مجددًا لأن جسدي بدأ ينضج وتظهر عليه معالم الأنوثة، وأصبحت عائلتي تُشدد على عدم احتكاكي بأي رجل أو صبي حتى من أقاربي. تلك القيود لم تتركني عندما أنشئت أول حساب فيسبوك في بداية مراهقتي؛ لأجد أن التشديدات تلاحقني أيضًا وأن هذا الأمر لم يروق لوالدي كثيرًا، الأمر الذي أدركت لاحقًا أنه متشابه كثيرًا مع فتيات كثيرات مثلي كُن يُحاصرن بطرق مختلفة، فتارة تُقلب أرقام هواتفهن وأخريات يُعلق على ملابسهن وآخريات لا يخرجن إلا مع أهلهن وحسب، وتراقبن في كل دقيقة يقضينها بعيدًا عن العيون، كل ذلك لأننا لم ندرك أننا شرف العائلة.
هذا طبعاً ناهيك عن خدمة الأخوة الذكور بشكل صارخ وفج، وكحق موروث ومكتسب، فكثيرًا ما قضيت ساعات من الصراخ والذهول في مناقشة بعض الأقارب أن أخي عليه أن يغسل ملابسه بنفسه ويأكل بنفسه، لا أن أصنع له طعامه أو أخدمه، ولكن مع تكرار المشهد في معظم بيوت الصعيد يُصبح ما أقوله أنا غريبًا وشاذًا، ويُصبح أخي -الذي لا أغسل له ملابسه- ضحية تستحق الشفقة والدعم، ولا أقول ذلك على سبيل الضحك.
عندما نجحت في الثانوية العامة ورغبت في الانتقال لدراسة الإعلام في القاهرة، كان الوضع مأساويًا ورفض أبي رفضًا قاطعًا، وبكيت كثيرًا حينها، لكن لم أكن أفهم أن المشكلة تكمن في أنني بنت وأنني صعيدية. عندما دخلت جامعة أخرى في المدينة التي أنها منها، وجدت أن كثيرات يشبهني وحاصلين على درجات عالية جدًا مثلي تمامًا، ولكن العائلة لم تشأ أن تتركهن يبدأن رحلة الحياة أو يُكللن نجاحهن بما يُردن، أدركت كم أنني بائسة لأنني فقط وُلدت في هذه البقعة الجغرافية، فلا أتمكن من دراسة شيئًا أحبه أو أعمل في مجال أحبه، ولاحقًا ربما لا أقدر على اختيار زوج أحبه أيضًا، لأن كل ذلك في إطار المحظور في منطقتنا الجميلة.
لهذا قررت أن لا استسلم حين حصلت على إحدى المنح الدراسية، لأبدأ البحث في رحلة الحياة عن مستقبلي وأحلامي، فرضت إرادتي هذه المرة، ولكني استهلكت الكثير من روحي، فكنت وحيدة أحارب العالم والعائلة والعادات الغبية والخوف والجهل ونفسي ودون دعم من أحد.
أتذكر قول جوته وأحزن "لم خلقت في روحي التمرد إن كنت تريد الطاعة" وأشفق كثيرًا على نفسي من طول المشوار الذي يجب أن أسيره وحدي
أدركت مبكرًا أن زواجي أهم كثيرًا من نجاحي بالنسبة لأهلي، وأنني لست ذات أهمية، مهما فعلت، فأنا بنت في النهاية، أدركت ذلك في "فشخرة" أهلي الذين يفتخرون في كل حديث بأني "ست بيت شاطرة تُجيد الطبخ"كانوا يثنون على طاعتي لهم وعلى ملابسي الفضفاضة، ولم يركز أحد لا على اجتهادي في الدراسة أو قراءتي للكتب أو قدرتي على الاستقلالية. وحينما أدركت أمي ما أفكر فيه وأسعى إليه، واختلاف أحلامي عن باقي الفتيات قالتها لي صريحة "أتمنى لو كنتي ولد." لا معنى لما أفعله، مهما بلغت ومهما حققت؛ طالما لم أفعل ما يرضيهم ويرضي المجتمع؛ فروح التمرد لا يمكن أن تجذب العرسان أو ترضي العرف والعائلة. أتذكر قول جوته وأحزن "لم خلقت في روحي التمرد إن كنت تريد الطاعة" وأشفق كثيرًا على نفسي من طول المشوار الذي يجب أن أسيره وحدي.
ما يُغضبني بشكل شخصي، ويدفعني لأكتب هذا المقال بكل ما في من غضب وسخط هو كل ما أواجهه يوميًا، كل سبيل أسلكه بشكل مضاعف وانحت في الصخر لأحقق ما يمكن لرجل أن يصل له بأسرع مما أفعله وبمباركة من الجميع. كل مرة على أن أقنع أهلي وألتمس الأذن وأبرر لأتحدث عن حق من حقوقي في الحياة. أترك حياتي تضيع وأنا حبيسة الجهل والعادات الغبية وأقول أني عشت وأنها عيشة والسلام؟ أضيق بحياتي التي لا حق لي فيها أن أحلم لا بأن أستقل أو أسافر، أو أقرر ما الذي أريده، لا أن أختار زوجًا أو أقرر ألا أنجب، أن أختار مجالًا أحبه للعمل. لا أتخيل عدم قدرتي على التحدث في المجالس النسائية بأني أرغب في زوج يقاسمني أعمال المنزل دون أن أُتهم بالجنون والمبالغة.
أغضب مرتين، خاصًة مع مركزية دولة مثل مصر، التي ليس فيها فرصة للدراسة أو العمل أو الحياة، خارج نطاق العاصمة التي هي معجزة أن تستقل فيها فتاة في مثل حالتي؟ وفي مدينة كالتي أعيش فيها، التي لا هي مدينة سياحية أو مدينة مميزة بأي شيء، مما يجعل التحدي بها أصعب وأصعب على فتاة تقف بمفردها في وجه التيار. أتأمل مدينتي، سوهاج، التي أنجبت نارمر موحد القطرين، ورفاعة الطهطاوي، وبليغ حمدي ونجيب ساويرس وجمال الغيطاني والقائمة تطول، ولكنها عجزت عن أن تُنجب امرأة واحدة تقف بجانب هؤلاء الرجال يفتخر بها أبناء بلدها، للأسف صعيدنا لا يعرف إلا الذكور ولا ينجب إلاهم، وفوق معاناتنا الكبيرة كمصريين، يكون التحدي مضاعف مرات عدة لوجودي في منطقة جغرافية لا شيء فيها تقدمه للنساء إلا اضطهادهم وقتلهم.
أعرف أن هناك أشياءً مكررة ومتشابهة بين ما أقول وبين وضع النساء العرب عامة، ولكن ما أتحدث عنه هنا تحديدًا هو مصر والتباين داخلها. فالمرأة المصرية إذا ما قارناها بنساء السعودية أو اليمن سنجد أنها الأكثر إنفتاحاً بمراحل، في حين أن هناك كثيرات حبيسات لا يعرف عنهن العالم شيئًا ولم يصلن لمستوى المرأة المصرية الشائع لدى الجميع، بينما المرأة الصعيدية هي الأقل في الحرية والأكثر في القيود بين جميع النساء المصريات.
لهذا أجدني ساخطة طوال الوقت، وحينما أسمع أن شخصًا يفتخر بمنطقته الجغرافية التي هي صدفة كونية عشائية لا أكثر، أضحك وأشعر بالأسى، فما الفخر في الانتماء لبيئة ستُبيح دمي إن أخطأت؟ بل ستفتخر بأنها قتلتني، وغسلت عارها. ما الفائدة في أن أعيش داخل مجتمع لا يعرف إلا الرجل؟ هو الأول والوحيد ولا يضع أي اعتبارات للأنثى مهما كانت؟ أتزوج رجلًا لأن "كنف الرجل هو سنة الحياة" كما تقول لي عمتي الستينية، كيف أفتخر والمثل الصعيدي يقول "الراجل لو عضم في قفة؟" إلى هذا الحد الرجل مهم وضروري حتى لو كان مجرد عظام لا تقوى على الحركة، فبيت بلا رجل هو بيت كسير ناقص لا يمكن أن تحيا فيه النساء بكرامة لأنه لا قيمة لامرأة بدون رجل.
ولكن أنا هنا لأقول لا، لأعلن تمردي وثورتي وغضبي على كل ما يحدث باسم العادات والتقاليد وباسم الشرف الذي لا حقيقة لوجوده إلا في عقولكم المريضة، أنا هنا لأقول حتى وإن طال بنا الزمن سنكون أقوى وأكثر قدرة على الرفض والثورة وفرض إرادتنا رغم قيود المجتمع والعائلات والواقع وكل شيء.