"كفر عقب هي قنبلة موقوتة. كفر غضب." هكذا افتتح فادي دحابرة، 26 عامًا، فيلمه القصير "ليمبو" الذي يستكشف فيه بلدة كفر عقب الفلسطينية من نظرة شبابية. تقع بلدية كفر عقب شمال مدينة القدس وإلى الجنوب الشرقي من مدينة رام الله ويفصل جدار الضم والتوسع هذه المنطقة عن مركز مدينة القدس حيث يعدّ الجدار محاولة من محاولات الإحتلال الإسرائيلي لتطهير القدس عرقياً من سكانها الأصليين. منذ بناء هذا الجدار تحولت كفر عقب من حيّ راقٍ إلى ما يشبه الأرض المحرّمة فهي لا تتبع لسلطة أحد.
أراد فادي من خلال هذا الفيلم (مشروع تخرج) تسليط الضوء على المنطقة المهملة إدارياً وقضائياً: "كان عندي شغف وحب استطلاع تجاه هذه المنطقة كونها منطقة حساسة لأنها بين السلطة الفلسطينية والإسرائيلية،" يخبرني فادي، مخرج ومصور فوتوغرافي من القدس: "تقسيم المناطق في فلسطين هو بين A، B، C. الأولى تحت إدارة السلطة الفلسطينية، الثانية تحت إدارة السلطة الإسرائيلية والأخيرة لا هيك ولا هيك. تنتمي بلدة كفر عقب إلى المجموعة الأخيرة. حبيت سلط الضوء على هذه المنطقة لأنه في ناس من خارج فلسطين ما بتعرف عن وجود هي المنطقة أو بتسمع عن المنطقة بس ما بتعرف عنجد شو بيصير هناك."
وضع كفر عقب معقد حتى للفلسطينيين. فادي يصفها بأنها "طوكيو المصغرة بشكل بناياتها. كلها ناطحات سحاب وعمارات سكنية مكتظة في مساحة صغيرة. كفر عقب منطقة مصغرة لمشاكل الاحتلال الكبرى. همّ إسرائيل طوال الوقت هو إبعاد سكان كفر عقب عن القدس."
من الناحية القضائية، تقع كفر عقب تحت سلطة الاحتلال الإدارية ولكنها مفصولة عن مدينة القدس على الرغم من أن سكّانها ملزمون بدفع ضريبة (أرنونا) للسكن والتأمين الصحي والتعليم والكهرباء دون تلقّي أي من هذه الخدمات على أكمل وجهها. إذا لم يلتزموا بدفع هذه الضرائب يتم سحب بطاقتهم الزرقاء (الهويات الإسرائيلية التي تسمح لهم بالعيش في القدس) وإقاماتهم، أيضاً يتم منعهم من الوصول إلى مدينتهم القدس. غير القادرين على الالتزام بدفع الضرائب يتم ترحيلهم خارج حدود القدس بالإضافة إلى سحب الهوية المقدسية منهم، مما يسهّل على الحكومة الإسرائيلية وضع اليد على أملاكهم من قبل ما يسمى بـ حارس أملاك الغائبين، كما حدث للآلاف من المقدسيين قبل ذلك.
لقطة تظهر كفر عقب من بعيد. جميع الصور مقدمة من فادي.
رغم التزام سكّان كفر عقب بدفع الضرائب ومعاملتهم كمواطنين إسرائيليين فإنهم يفتقدون إلى الكثير من الخدمات البلدية والصحيّة والتعليمية وحتى خدمات الصرف الصحّي. كما لا تتواجد أي قوة أمنية أو شرطة في المنطقة وهو ما أدى إلى انتشار السلاح، حيث لا يسمح للشرطة الفلسطينية أن تتدخل في شؤون هذه المنطقة. هذا الوضع المعقّد والحساس سياسياً خلق مشاكل عديدة من اكتظاظ سكّاني، وتهالك في الخدمات والبنية التحتية. يزيد من هذه الأزمات حاجز قلنديا الإسرائيلي العسكري الذي يعتَبر وفقًا لمنظمات حقوقيّة أحد أكثر الحواجز الإسرائيلية اكتظاظًا وإذلالاً، وكون بلدة كفر عقب صلة الوصل بين الشمال والجنوب، والشارع الواصل بين القدس ورام الله، فإن حاجز قلنديا مكتظٌّ دائماً بالسكان المتنقلين من وإلى القدس وقد ينتظرون لساعات.
كل هذه التعقيدات أراد فادي إظهارها في هذا الفيلم الذي يظهر فيه الكثير من الشباب بنظرات مبتسمة ومترددة وفي الخلفية يتحدث الراوي عنهم: "في هوية معينة توصف الشباب اللي عايشين هناك سواء في طريقة كلامهم أو لباسهم وهذا ما أردت إظهاره في الفيلم. كان تركيزي على الشباب أقل من 25 سنة، لأنه بعد الـ25، بتتغير اهتماماتهم إلى الزواج وبناء مستقبلهم. تجاربك في هذا العمر ستشكل من أنت لاحقًا."
في ظل غيّاب أي سلطة إداريّة، فإن كفر عقب معلّقة في فراغ قانوني أو "ليمبو" كما يسمى الفيلم، وفي غياب القوانين، فإن القانون السائد في كفر عقب هو قانون الشارع وهذا ما يصوّره فيلم ليمبو: "ما في قانون ولكن في احترام أو نوع من المحسوبية القادمة من النطاق العشائري. يعني إذا صار معك مشكلة بكفر عقب وكنت من إحدى العائلات الكبيرة والمحترمة بينعملك حساب،" يشرح فادي ويضيف: "لكن بدأت الأشياء تختلف في كفر عقب مع موت الجيل الكبير أو الكبار من العائلات. فالمشاكل تتغير، وحلول هذه المشاكل تتغير أيضاً. الوضع بكفر عقب شعلة نار ممكن تولعه."
في المقابل، هناك جملة مهمة تقال في الفيلم، بمعنى أنه على الرغم من عدم وجود قانون وسلطة في كفر عقب إلا أنها ليست فوضى. في أي مكان آخر في هاذ العالم، سيكون الوضع أسوأ بشكل أكبر، وهذا حقيقي لدرجة كبيرة، كما يقول فادي: "المشاكل التي تحصل في كفر عقب، هي فقط بغرض فرض وجود. يوجد سلاح في المنطقة ولكن يتم استخدامه للتصويب أو إطلاق الرصاص في الهواء فقط عند حدوث مشكلة معينة. الاحترام هو السائد في كفر عقب. صح ما في قانون بكفر عقب لكن يعرف كل من الساكنين فيها حدوده التي لا يمكن أن يتخطاها. السكان يعيشون في منطقة لا يحكمها قانون، لكن بيتصرفوا ضمن القانون، ضمن قانون منطقتهم."
تصوير الفيلم في كفر عقب لم يحتج إلى ترخيص، ولكن إلى ثقة بأن ما يقدم يعكس صورة حقيقة عن هذه المنطقة، يضيف فادي: "لم أكن بحاجة لترخيص من جهة معينة لعدم وجود هذه الجهة. ولكن طلبت من شخص مقيم في كفر عقب أن يساعدني للوصول للشباب، خوفاً من عدم تقبل الناس اللي بدي أصورها لأني لست من المنطقة. يمكن في البداية كان في تردد، ولكن تحول لحب وتقبل غير معقول لما شافوا الـ trailer. حتى الناس اللي كانت في الفيلم، تواصلوا معي وتحمسوا وسألوني إذا ممكن أعمل شيء أطول. مدة الفيلم قصيرة لأنه مشروع التخرج، وكنت محكوم بوقت لتسليم المشروع وأزمة الكورونا عقّدت الموضوع."
منطقة كفر عقب هي منطقة "بين نارين" على حسب تعبير فادي، قنبلة موقوتة قد يشتعل فتيلها في أي لحظة على أسخف الأسباب، فقط لتنقذ نفسها وتنجو على أصغر الأسباب أيضاً. استرجعني حديثنا إلى رواية “أمير الذباب” للكاتب ويليام غولدنغ التي تتحدث عن مجموعة من الصبيان الطلبة العالقين على متن جزيرة معزولة خلال الحرب. وعلى الرغم من تماسك هؤلاء هذه الطلبة ووقوعهم في مأزق مشترك، ينزلقون بسرعة إلى حياة بدائية في غياب أي قوانين، يتقاتلون للفوز باحترام الآخر وللنجاة أيضاً. ربما تلك الجزيزة تشبه كفر عقب لحد ما. منّا لسكان كفر عقب كل الحب والتحية.
يمكنكم متابعة أعمال فادي على انستغرام