رأي

عزيزتي ريهام سعيد.. في انتظار عدم عودتك للشاشة من جديد

ليس من حق أي شخص أو سلطة أن يولوا أنفسهم علينا كي يصنعوا من أجسادنا منحوتات رشيقة ترضي خيالاتهم المريضة
ريهام سعيد

"يا تخين، يا فشلة، يا حبظلم"، تعليقات ترددت على مسامعي كان أحد الجيران ينعت بها أحد أقاربي مع بدايات دخوله المدرسة. هذا الشخص الآن يمتلك جسدًا مثالياً وفق المعايير المجتمعية، لكن هذه الكلمات لم يختف أثرها من عقلي، لأنني كنت ـ نفسي مكانه طوال الوقت. هذه الكلمات لا تقل في بشاعتها عن أي تعليق عنصري أو تمييزي نسمعه يوميًا، الفارق أن زيادة الوزن/ البدانة/ السِمنة ليست في القائمة التي نرى فيها إهانة للإنسان - على الأقل في مصر- وربما حان الوقت لتغيير ذلك وخاصة بعد تصريحات "الإعلامية" المصرية ريهام سعيد المسيئة والمستفزة تجاه النساء البدينات في مصر.

إعلان

امتزجت مشاعر الغضب مع الضحك عندما شاهدت ريهام تتحدث بهذه النبرة الهادئة المستفزة التي تنم عن استعلاء، حاولت استكمال الدقيقة التي انتشرت على السوشيال ميديا. طبعاً، بعد انتشار الفيديو وانتقاده بشكل كبير مصريًا وعربيًا، ادعت ريهام أن حديثها تم اجتزاؤه من سياقه، وأنها اتبعت هذا الأسلوب القاسي، لأنه حدث معها من قبل وأعادها للمسار الصحيح، قبل أن تعلن اعتزالها العمل الإعلامي. ولكن دعوني أقول لكم أن ريهام سعيد ستختفي لمدة ثم تعود مرة ثانية وكأن شيئًا لم يكن. هذه عادات الإعلام في بلادنا.. النسيان/ التناسي والتبجح، ولنا في توفيق عكاشة مثال وعبرة.

السمنة إن اعتبرناها مرضاً فقط، فهي ليست اختيار، وليس في قدرة كل البشر مواجهة المرض. أما إذا اعتبرنا الأمر اختيار فهنا ينتهي الجدل، فاختياري أن أكون ذا وزن زائد، ولا حق لأي شخص أيا كانت سلطته أن يضعني نصب عينيه ويصوب رصاصاته نحوي

ريهام سعيد بالنسبة لي مجرد وجه يمتلك ملامح تبدو جذابة على الشاشة، لكنها بلاستيكية لا حياة فيها، وفي نفس الوقت فهي تمتلك لسانًا سليطًا لا يحترم الغير، ويتحدث من موقع قوة يُساء استخدامها معظم الوقت. فالسمنة في النهاية إن اعتبرناها مرضاً فقط، فهي ليست اختيار، وليس في قدرة كل البشر مواجهة المرض. أما إذا اعتبرنا الأمر اختيار فهنا ينتهي الجدل، فاختياري أن أكون ذا وزن زائد، ولا حق لأي شخص أيا كانت سلطته أن يضعني نصب عينيه ويصوب رصاصاته نحوي. وليس من حق أي شخص أو سلطة أن يولوا أنفسهم علينا كي يصنعوا من أجسادنا منحوتات رشيقة ترضي خيالاتهم المريضة أو رغباتهم في السيطرة على مقدراتنا.

أتذكر أن إحدى الفتيات علقت على وزني الزائد عندما كنا على وشك الدخول في علاقة عاطفية، وأنها تريدني أن أذهب لصالة الألعاب الرياضية. انتظرت حتى أنهت محاضرتها "عن العقل السليم في الجسم السليم"، ثم قلت لها إنني لن أذهب لأي Gym، وأضفت: أنتِ ترغبين في صورة تبدو رياضية ومنمقة لي.. وزني زائد، نعم، هذه مشكلتي وأنا في توافق معها، أكل الكثير من الحلوى وأحب البطاطس بكل أنواعها، ولن أتوقف عن تناول المكرونة طالما حييت، وإذا مٍتُ بسبب ذلك، على الأقل سأموت سعيدًا!

إعلان

لا أختلف مع اعتبار أن موضوع السمنة موضوع مزمن في مصر، إذ تشير الإحصاءات أن نسبة 30% من البالغين (من 25-64 سنة) يعانون من السمنة. ولكن هذا الموضوع عالمي ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالرأسمالية والحياة الحديثة ومستوى الدخل وليس مشكلة شخص أو مجموعة. فالأسر ذات الدخل المحدود تلجأ لوجبات رخيصة مثل الأرز والبطاطس.. وجبة مليئة بالنشويات من أجل ملء المعدة، حسب المقال المنشور في الجارديان. في حين أن أصحاب الدخول المرتفعة يمكنهم تناول اللحوم بشكل أكبر مع وجود إمكانية لتناول الوجبات السريعة التي تعتبر رفاهية في الشرق الأوسط وفق المقال. كذلك يرى بعض العلماء أن مسألة السمنة تعود إلى عدم انتظام في عمل أحد وظائف المخ، وربما الضغوط الناتجة عن نظام الحياة الحديثة. كذلك الأوضاع الاقتصادية وتغيير طرق إنتاج الغذاء وقضاء أوقات الفراغ والتخطيط العمراني.

التحليلان السابقان يثيران العديد من التساؤلات حول البيئة التي تصنع المصري/ة البدين/ة. هل توفر لدى المصريين وسائل إنسانية لفقد الوزن واتباع نظام غذائي صحي، ودخول جيدة تساعدهم على شراء أطعمة صحية تساعد على حرق الدهون؟ هل توفرت لديهم شوارع جيدة حتى يستطيعوا التريض فيها؟ هل توفرت لديهم مساحات خضراء واسعة من أجل ممارسة أنواع مختلفة من الرياضة وليس فقط ركوب الدراجات أو الركض والسير؟ هل توفرت لدى الأطفال في المدارس الحكومية مثلًا وسائل الرياضة التي يمكن من خلالها الحفاظ على جسم سليم؟ هل فكرت السيدة ريهام سعيد في لحظة أن الأمر قد يكون اختيارًا عند البعض؟ ألا يوجد بين 100 مليون مصري شخص يريد أن يكون بدينًا؟ وماذا عن الأمراض المتعلقة بالنحافة، والأشخاص غير البدينين عموماً.. ألا تصيبهم الأمراض؟ لماذا يركز الإعلام دوماً على شكل الجسد، وتتحول نبرة التعاطف مع أمراض أخرى إلى سخرية ونبذ وتنمر تجاه السِمنة؟ الإجابة ببساطة ليست الاهتمام بالصحة فقط، بل بالمظاهر.

إعلان

مسألة السمنة والنحافة لا تحتاج إعلاميـًا أو صحفية للحديث عن الأمر، بل تحتاج لطبيب متخصص يتحدث بشكل علمي ومنهجي دون تحيز لطرف ضد الآخر، دون تسييس للأمر بسبب تعليق قام به رأس السلطة، فننتهزه فرصة لركوب موجة التعليقات

وبعيداً عن أسباب السمنة التي لن تحلها إعلامية مثل ريهام سعيد، توجد صورة خاطئة وظالمة تماماً لمن يُوصفون بالبدناء. فهناك ثقافة كاملة بُنيت على مُعايَرة الناس بشكلهم الخارجي. لكن هذا لم يكن الوضع الطبيعي في السابق، إذ قدمت الفنون في الثقافات المختلفة تصورات متعددة عن شكل الجسد السمين. فمثلًا المنحوتة الشهيرة لـ فينوس ويلندورف، التي يُعتقد أنها نُحتت قبل 22 ألف سنة أو يزيد، واكتُشفت عام 1908، اُعتُبرت تجسيدًا للجمال والخصوبة. فجسد فينوس كان سمينًا للغاية بالنسبة لحجمها الصغير، لكن السمنة في هذا العمل الحجري لم تعكس شيئاً سلبياً بقدر ما عكست الطبيعة الأنثوية الخصبة. الوزن الزائد في مراحل تاريخية مختلفة كان شيئـًا جذاباً وتعبيرًا عن الصحة الجيدة بل عكس المستوى الاجتماعي والاقتصادي المرتفع للشخص. واستمرت الرؤية الإيجابية للبدانة والوزن الزائد حتى النصف الثاني من القرن العشرين عندما اكتشف العلماء أن الدهون الموجودة داخل الجسد لها علاقة بعدد من الأمراض مثل أمراض الأوعية الدموية.

هنا تحول المديح في الجسد السمين إلى ذم بل هدم، فصارت السمنة تعبيرًا عن الإحباط والفقر والتعاسة، وتحولت وسائل الإعلام للتركيز على شكل مثالي- بالنسبة لهم- عن الجسد، فصارت أجساد النساء النحيفة رائعة ومثيرة، وأصبحت أجساد الرجال المنحوتة في الإعلانات مثل أجساد أباطرة الرومان في المتاحف.. منتهى الأمل والقدوة بالنسبة للجمهور.

لا شك أن هناك دور الإعلام في تسليط الضوء على قضايا أو مشاكل في المجتمع ومنها السمنة، ولكن من الأهم أيضاً أم يعرف الإعلامي ما الذي يتحدث عنه - وهي صفة تكاد تكون معدومة لدى الكثير منهم. إذا أردت الحديث عن السمنة، عليك البدء بسبب المشكلة، وليس لوم المواطن على كل ما يخطر ببالكم من افتراءات. مسألة السمنة والنحافة لا تحتاج إعلاميـًا أو صحفية للحديث عن الأمر، بل تحتاج لطبيب متخصص يتحدث بشكل علمي ومنهجي دون تحيز لطرف ضد الآخر، دون تسييس للأمر بسبب تعليق قام به رأس السلطة، فننتهزه فرصة لركوب موجة التعليقات.

الإعلام ليس مجرد ناقل للأحداث هنا، بل محرك لها، فلا يمكن اعتبار إيقاف ريهام سعيد وبرنامجها حلًا لما حدث، فهذه ليست الواقعة الأولى التي ترتكب فيها الإعلامية المصرية خطيئة ثم تعود للعمل دون أي اعتبارات مهنية. ستعود ريهام للشاشة ووراءها جيش جرار من المؤيدين على منصات السوشيال ميديا. ستأخذ بعض الوقت، ستستكين بوجهها الهادئ أمام الجمهور، ثم ستعود لتلدغ بخطيئة أخرى ناتجة عن قصد أو ضحالة.

كذلك نقابة الإعلاميين المنوطة بمراقبة عمل الإعلام، لابد أن تضع ضوابط واضحة فيما يخص القضايا الاجتماعية التي طالما ماتعاملنا معها أنها مثار للسخرية والاستهزاء مثل شكل وجسد النساء، أو أصحاب البشرة الداكنة، أو غير المتدينيين أو أصحاب الهُويات الجنسية المختلفة. المهنية تتطلب عدم إقحام الذات في القضية، وعدم تنصيب الإعلامي/ة نفسه/ا قاضيـًا وجلادًا في الوقت نفسه. عزيزتي ريهام.. في بعض الأحيان يكون الجسد سمينًا لكن القلب تملؤه الرحمة والإنسانية، في حين يمتلئ المخ بالسِمنة التي تقتل الروح وتُذهب العقل.