رأي

شك، وملاحقة، واتهامات مجانية.. ما يعنيه عملي كصحفية في مصر

تقابلني نظرات مختلفة حين أقول إني صحفية، نظرة "آه! مطبلاتية يعني" أو "بتاعة مشاكل.. يا ساتر"
journalism in Egypt
Photo by Sam McGhee on Unsplash


هناك قول مأثور يقول إن الصحافة هي "مهنة البحث عن المتاعب".. سمعته في طفولتي وقلت: "ايه الغباء ده! حد يشتغل في مهنة هتتعبه!". حين كبرت، ألقتني مهاراتي اللغوية إلى الصحافة دون توقع، وبدأت عملي كصحفية "ديسك" مسؤولة عن إعادة صياغة الخبر، وصياغة العناوين بشكلٍ جذاب، والالتزام بالسياسة التحريرية للمؤسسة. اقتضى هذا دراسةً مكثفة لأخلاقيات المهنة والتعامل مع قضايا الجمهور، ومكنني من رؤية كواليس الصحافة، وملاحظة الأنماط التي تُحرِّك المهنة أو تستغلها.. من ناحية أخرى عرَّضني لقب "صحفية" لمواقف وتجارب مختلفة وخطيرة، تجعلني، رغم حبي لمهنتي، أشعر بالغضب بسبب النظرة الخاطئة لدى البعض عن الصحفيين - وهذا قد ينطبق على الكثير من البلاد العربيج وليس مصر فقط.

إعلان

مئة عام من العداوات المجانية
الصحافة -في صورتها الوردية- مهنة البحث عن الحقيقة، لا يهم بمن تتعلق هذه الحقيقة، المهم أن عرضها سيكون في صالح المجتمع، بزيادة الوعي، أو رفع الضرر، أو تسليط الضوء على أزمة. في مصر يختلف الأمر عند بعض الزملاء، فالحقائق لا تعنيهم بقدر ما يعنيهم "إشعال مواقع التواصل الاجتماعي" وإثارة الجمهور لزيادة المشاهدات. نرى هذا في العناوين "الصفراء" وصحافة الفضائح، وممارسات أخرى تسيئ لنا كصحفيين، وتؤثر سلبًا على المجتمع.

لقد رأينا صحفيين وإعلاميين يتصرفون بطريقة مخزية إزاء أحداث إنسانية مؤلمة في السنوات الماضية، واعتقد الناس أن جميع أبناء المهنة يتصرفون مثلهم، ورسخ هذا صورة ذهنية مؤذية ومهينة عنّا في الشارع، تجلب علينا العداء. هل تذكرون المذيعة التي حاورت أطفال التهريب في بورسعيد؟ كانوا أطفالًا دفعهم شظف العيش لتهريب بعض البضائع ليكسبوا قروشًا تعينهم على الحياة، لكن المذيعة نصبت لهم مشنقة وهي تحاورهم لدرجة آذت كل من رآه، وجعلتهم مؤمنين أن كل الصحفيين يتعاملون بتلك العجرفة. ماذا عن الصحفيين الذين وقفوا مع السلطة وهي تتخذ إجراءات غير إنسانية بحق متظاهرين ومعتقلين ومعارضين مسالمين، وتشجع السلطة على مزيد من التنكيل؟ لقد أصبحوا النموذج الذي يعتقده رجل الشارع عن موقفنا من المآسي التي تدمر حياتنا جميعًا، ويُسجن زملاؤنا بسببها.

شخصيًّا، سببت لي المذيعة ريهام سعيد أذى كبيرًا في عملي كصحفية بعد قضية (فتاة المول)، وهي الشابة المصرية سمية عبيد، والتي تعرضت للتحرش، فاستضافتها ريهام سعيد في برنامجها، لكنها لم تعرض قضيتها كما توقعنا، بل صورًا شخصية سرقها فريقها من هاتف الضيفة، وهي تمسك زجاجة خمر، أو ترتدي المايوه، فتغيَّرت أجواء الحلقة إلى "هل تستحق فتاة متحررة كهذه التعاطف معها في حادثة تحرش؟"

إعلان

تسببت هذه الحلقة في ضرر فادح لسمية عبيد، وانقلب الرأي العام ضدها، وعندما أفرج عن المتحرش هاجمها وحاول ذبحها بسكين فأصابها بجرح شوَّه وجهها. ماذا لو تتصرف المذيعة الشهيرة بهذه الطريقة اللا أخلاقية؟ ربما تردد المتحرش في ملاحقة سمية، وكنا سنحمي أخريات من توحش المتحرشين معهن. سُجنت ريهام سعيد بتهمة التشهير في قضية سمية، لكن تأثير ما فعلته استمر.. في كل موضوع صحفي عملت عليه ويمس المرأة كان شبح ريهام سعيد يطاردني.. تسألني فتاة "أضمن منين إنك هتنشري كلامي زي ما هو؟" وأسمع عباراتٍ محزنة مثل "اوعي تاخدي صوري من فيسبوك وتنشريها" وتحكي لي أخرى تجربتها ثم ترفض منحي الإذن بنشرها لأنها ستهاجم حتى وهي الضحية. ولن أتحدث عمن وجهن إليَّ الإهانات والاتهامات "إنتي صحفية ومش عايزة غير الـShow وهتوديني في داهية." كنت أشعر بالغضب، والظلم، لكنني أعتذر، أعتذر دائمًا عن خطأ لم أرتكبه لأنني أدرك سوء أثره في الناس، وأواصل عملي مُثقلة بعداواتٍ لا تخصني.

صحفية = مشكوك فيكِ إلى الأبد
الصحافة مهنة البحث عن المتاعب فعلًا، ونصف المتاعب يأتي عندما أقول "أنا صحفية." بخلاف نظرة الجمهور المتشككة في صدق تقديمنا لقضاياه، هناك نظرة شكٍ أخرى تتعلق بوضعنا الاجتماعي، ونفوذنا، وعلاقتنا بالسلطة. يتصور كثيرون أننا نعيش كطبقة مخملية تنتفع بقربها من المسؤولين، وهو تصور أتفهمه في هذه السنوات الحرجة. فقد ذُبحت الصحافة المصرية ذبحًا، واختفى كل صوتٍ مختلف أو معارض، أو تم إقصاؤه ليغرد في صمت خلف أستار حجب المواقع. إذا كنت بعيدًا عن الكواليس سترى الكل يشبه الكل، ومن الطبيعي أن تظننا منتفعين.

بناءً على هذا التصور تقابلني نظرات مختلفة حين أقول إني صحفية، نظرة "آه! مطبلاتية يعني"، أو "بتاعة مشاكل.. يا ساتر!"، أو "البهوات اللي مش حاسين بالناس." نظرات تتراوح بين الشك، القلق، الامتعاض، الازدراء. لكن هناك نظراتٍ أخرى مختلفة، نظرة الأمل أو الاستغلال، لأن البعض يظن لديَّ سُلطة تؤهلني لأصبح واسطة تُسهل أعماله، أو توصله إلى المسؤولين. حين أعتذر لأن هذا خارج قدرتي، أعود لمواجهة النظرات الأولى، مع الغضب طبعًا.

إعلان

هناك سقفٌ دائمًا
في الصحافة تستهويني القصص الإنسانية المعقدة، وقد تتماس مع ثقافة المجتمع وتقاليده، ما يجعلني مقيدةً في طرح الفكرة، ومقيدةً في تناولها، وأعاني أمرَّ المعاناة لأجد مصادر، ثم أقنعها بالتحدث معي. في النهاية قد لا يُنشر الموضوع، أو يُنشر لأتلقى تعليقاتٍ هجومية بسبب "أفكاري المسيئة." أو اتهامات بتأليف المادة الصحفية، لأن مجتمعنا لا يمكن أن يضم أشخاصًا كهؤلاء. يجعلني هذا أتحرك تحت سقفٍ منخفض جدًّا عن طموحاتي، وأتجاوز نماذج إنسانية مؤثرة، لأن البعض يتحسس من اكتشاف أشخاص مختلفين تمامًا عنه يعيشون حوله.. محبط للغاية!

حياتي كصحفية عبارة عن صراعٍ يتجدد يوميًّا، صراع تقديم فكرة جريئة بأقل قدر من التقيّد، وصراع ضد تصورات الجميع عني. أمام الجمهور أنا مُتهمة بالانتماء إلى السلطة، وأمام السلطة أنا متهمة بالانتماء إلى المعارضة. والتهمتان مضحكتان بالتساوي

يتخيل البعض أن حياتي كصحفية مثالية، أعمل من المنزل وأتقاضى راتبًا جيدًا، وأكتب ما أحب. لكن الحياة ليست وردية هكذا، لا أكتب ما أحب دائمًا. كما تعرضت لمواقف ومساومات سخيفة، وطالبتني جهة إعلامية بكشف هوية مصادري مقابل النشر، فتوقفت عن مشاريع هامة وفارقة جدًّا، لأنني رفضت هذا الشرط. ليس بدافع إنساني وأخلاقي فقط، بل لأن قانون حماية المصدر الصحفي يمنعني من الإدلاء بأي بيانات قد تكشف هويته وتعرضه للضرر. هناك أيضًا شق مادي يتعلق بتأخر الرواتب، وعدم انتظام العمل، والطوارئ التي قد تمنعني من العمل لأجد نفسي في كارثة مادية. هذه أيضًا فكرة مغلوطة عن "دلع" الصحفيين وحظهم الحلو.

الخطر الأمني المستمر
في المعاملات الحكومية، الكمائن، طرق السفر، أي مكانٍ أحمل فيه الكاميرا ولو في منطقة سياحية، تثير كلمة "أنا صحفية" توترًا ملموسًا. تُفحص أوراقي لفترةٍ أطول، وتتأخر معاملاتي، وتطاردني نظرات شكٍ مختلفة. الشك في عيون الناس شيء، وفي عيون الأمن شيء آخر تمامًا. ومع توتر الوضع الأمني في مصر مؤخرًا وزيادة احتمالية تعرضي للمشاكل، دون سببٍ منطقي أو مفهوم، توقفت عن التصريح بأني صحفية، وأقول إني كاتبة أو مصورة فقط. يغضبني كثيرًا إخفاء هوية أعتز بها لأتفادى خطرًا لا أفهم أبعاده وسبل تفاديه، وأتهم نفسي بالجُبن، ثم أتذكر أن من حقي اتخاذ أي إجراءٍ يحميني في هذه الظروف الجنونية، فبعد أي شيء أنا أعيش في دولة هي الثالثة على مستوى العالم في سجن الصحفيين، بعد تركيا والصين. نحن في خطرٍ مجاني مستمر لأننا صحفيون، فقط.

حياتي كصحفية عبارة عن صراعٍ يتجدد يوميًّا، صراع تقديم فكرة جريئة بأقل قدر من التقيّد، وصراع ضد تصورات الجميع عني. أمام الجمهور أنا مُتهمة بالانتماء إلى السلطة، وأمام السلطة أنا متهمة بالانتماء إلى المعارضة. والتهمتان مضحكتان بالتساوي، لأنني لا أنتمي إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، أنا صحفية لأني مهتمة بالقصة الإنسانية فقط، بالصوت الخافت الذي لا يسمعه أحد، التجارب التي لا يتخيلها أحد لكنها تحدث حولنا كل يوم. مهتمة بنقلها إلى الصحافة، ومهتمة باستلهامها في كتاباتي، ولاحقًا في أفلامي. أبحث دومًا عن القصة، وقد منحتني "أنا صحفية" عشرات القصص، بعضها مؤلم ومزعج، لكنني لم أندم عليها قط. عانيت مشاعر سيئة عدة، الغضب والإحباط من خطرٍ مستمر، والشعور بالعار لتحمل أخطاء لا تخصني، لكن الندم؟ لا، الصحافة شرف عظيم مهما كان ثمنها.