مجتمع

كيف تحولت وظيفة الأحلام لكابوس

"كنت أعاني من كوابيس مخيفة تلاحقني بسبب حوادث موت الأطفال عند الولادة أو أمهاتهن
nathan-dumlao-qDbnNDF2jZ4-unsplash

"أردت أن أصبح مصوراً صحافيًا لامعًا لا على النطاق المحلي فقط بل على المستوى العربي والعالمي، وأنا الآن أدير مقهى. لقد تبين أنه من المستحيل الاستمرار في مهنة الصحافة وأشعر بالندم لأنني أهدرت سنوات من عمري في الدراسة والمحاولة لأجد أن كل ذلك كان بلا جدوى."

يدير محمد حامد، 32 عاماً من تونس، مقهى في أحد أحياء العاصمة منذ حوالي ثلاث سنوات. يبدو سعيداً وراضياً ولكنه يقول أن ما هو عليه الآن مختلف تماماً عن حلمه بأن يصبح مصوراً صحفياً.

إعلان

التحق محمد بمعهد الفنون الجميلة بمحافظة سوسة بتونس حيث درس التصوير، ثم أكمل دراسته في معهد الصحافة وعلوم الإخبار معهد الإعلام الوحيد في البلاد المتواجد في محافظة منوبة المحاذية للعاصمة التونسية. بعد حصوله على شهادته الجامعية من معهد الإعلام بدأ رحلة البحث عن عمل وحصل على وظيفة في قناة تلفزيونية محلية. "كنت سعيداً جداً وظننت أنها بداية موفقة ولم أكترث حينها للأجر الزهيد والعمل دون عقد، واعتبرت أنني في مرحلة احتاج فيها للخبرة،" كما يقول.

يتذكر محمد كيف كان يعمل ساعات إضافية فقط كي يكون عمله متقنًا، ولكنه لم يكن يلقى أي كلمة تشجيعية بل إنه كان يواجه التوبيخ مع كل خطأ صغير. ظل يعمل لعدة أشهر بدون راتب فقط بوعود بأنه سيتم دفع مستحقاته قريبًا.

 "كنت أتدين من أصدقائي وعائلتي كيف أدفع إيجار بيتي ومصاريفي اليومية وفي كل مرة أخبرهم أنني سأحصل على مستحقاتي وأعيد لهم ما تدينت قريبًا، ولكن في كل مرة لا أفي بوعدي. عندما واجهت رئيسي في العمل وهددت بترك العمل إذا لم يدفع مستحقاتي، قام بطردي دون أن يدفع لي. لم أستطع مقاضاته لأنني كنت أعمل دون عقد، رأيت الشفقة في عيون أصدقائي الذين كانوا يرون بوضوح أنني أتمسك بسراب بينما كنت أشعر أنني أركض وراء حلم كبير يستحق العناء."

طرق محمد أبواب قنوات تلفزية محلية أخرى، لكنه فوجئ بأن الأوضاع المهنية الهشة القائمة على أجور زهيدة وغياب للعقود هي ميزة مشتركة لأغلبهم. وبعد سنوات من التنقل بين عدة قنوات وجد نفسه صفر اليدين بل هناك ديون دون تسديد في انتظاره. حينها بدأ يعيد التفكير في الوظيفة التي اختارها ما الذي قدمته إليه عدا القلق والخوف والخجل من عدد لا بأس به من الدائنين وعجزه عن التسديد.

إعلان

"أصبت بالإحباط ولكني كنت مصراً على تحقيق حلمي، أتيح لي العمل مع موقع عربي بنظام الفريلانس كانت فرصة جيدة مقارنة بما سبق ولكنها مؤقتة. صحيح أنها ساعدتني في التخفيف من ضائقتي المالية. ولكن مع ذلك كان الحصول على فرصة عمل جيدة في هذا القطاع يحتاج لوساطات قوية، وإلى قدرة كبيرة على التملق المجاملات المجانية لرؤساء ومديري التحرير والصحافيين والمصورين القدماء في الميدان وهو ما لا أتقنه. لم استطع الاستمرار في هذا المجال بالنهاية ولم أحقق أي من أحلامي."

في تلك الأثناء بدأ اليأس من هذه المهنة يتملكه، وقرر إنشاء مطعم صغير في مجال بعيد عن الصحافة.  بعد قرابة السنة من العمل اليومي مصوراً مع بعض المواقع والعمل مساءً في أحد المطاعم، استطاع جمع بعض المال وتدين من بعض الأصدقاء والعائلة وقام بشراء مقهى صغير على مقربة من إحدى الجامعات.

"اكتشفت أننا جميعاً منذ سن الطفولة يكون لدينا حلم لوظيفة ما عندما نكبر، لكن الواقع بالنسبة لمعظمنا يكون مختلفًا تمامًا، إذ إن المطاف ينتهى بنا بوظائف بعيدة كل البعد عن الوظائف الحلم التي تخيلناها لأنفسنا عندما كنا أطفال وفي أول سنوات شبابنا."

في دراسة استقصائية أجرتها Perkbox Insights وشملت 1567 بريطانيا تبين أن 96 بالمئة من البالغين لم ينجحوا في جعل وظيفة أحلام طفولتهم حقيقة واقعة، وأن 64 بالمئة من البالغين ما زالوا يرغبون في أن يكونوا يعملون في وظيفة أحلام طفولتهم الآن. كما كشفت الدراسة أن 4 بالمئة فقط من يجعلون وظيفة أحلام طفولتهم حقيقة واقعة، وأن أكثر من أربعة من كل 10 أشخاص (43 بالمئة) يشعرون أنهم لا يملكون الموهبة أو الفرص أو الموارد لمتابعة الوظيفة التي يحلمون بها في طفولتهم. 

إعلان

كذبوا علينا في الجامعة
لا يختلف الوضع كثيرا بالنسبة لرفيقة ماجري، 33 عاماً، التي أرادت بشدة أن تدرس اختصاصًا قريبًا من مهنة الطب، فأغراها اختصاص الهندسة الطبية الذي بدا لها بمثابة المجال العلمي الذي سيأخذها للوظيفة الحلم. زاد حماسها عندما أخبرها أساتذتها في الجامعة أن الأطباء والممرضين لا يستطيعون العمل بدونهم، لأنهم سيكونون المسؤولين الوحيدين عن كل المعدات الطبية الكثيرة والمعقدة في المستشفيات والمقرات الصحية. 

"اعتقدت أنني في الطريق الصحيح لتحقيق حلمي وأن مجال دراستي مطلوب. ولكن بمجرد حصولي على شهادتي الجامعية اكتشفت كم كان هذا الكلام كذبًا وأن الحقيقة غير ذلك تماماً،" تضيف رفيقة.

وتتابع: "منذ المحاولات الأولى في البحث عن عمل وجدت أن المستشفيات لا توظف إلا عددًا قليلاً من خريجي الهندسة الطبية من الذكور حصراً، بحجة أن هناك تنقلات في كل الأوقات لن تكون المرأة قادرة على تحملها وهي حجج مجانبة للحقيقة. اكتشفت كذلك أن وزارة الصحة في تونس لا تعترف أساسًا باختصاصنا العلمي حتى تفرض على المستشفيات ضرورة توظيفنا. كان ذلك صادمًا جدًا بالنسبة لي ولكثيرات من زميلاتي من ذات الاختصاص، ومحبطًا إلى حد كبير."

طرقت رفيقة سبعة مستشفيات عامة وخاصة، ولكنها كانت تقابل إما بالرفض صراحة أن بوعود بأنه سيقع الاتصال بها قريًبا. بعد فترة، نجحت بالحصول على وظيفة في شركة لتوزيع الأدوية في تونس. عاد إليها الحماس وشعرت أنها ستعمل في اختصاص ليس بعيدًا عن عالم الطب والصحة. ولكن بعد أيام قليلة، تبين أن الحلم قد تحول لكابوس.

تقول رفيقة: "تبين أن عملي الجديد عبارة عن ترتيب صناديق الأدوية في قبو، كنت أباشر العمل منذ الثامنة حتى الخامسة مقابل أجر لا يتجاوز الـ150 دولارًا. كانت مهمتي الجديدة لا تحتاج تخصصاً جامعيًا بقدر ما تحتاج قوة عضلية. استمريت في هذا العمل أملاً شغل وظيفة جيدة في دائرة اختصاصي. لكن شيئًا من هذا لم يحدث كنت أعود إلى البيت منهكة جسدياً ونفسياً، وصاحبة الشركة لا تراني إلا عاملة في ذلك القبو البارد. في النهاية تركت العمل."

إعلان

قررت رفيقة التخلي عن الركض وراء وظيفة الأحلام تلك وأن تجرب في مجالات أخرى. تم قبولها كمتصرف إداري في إحدى الشركات. وتضيف: "هو عمل إداري روتيني لكنه مستقر ماديًا. لا وجود للوظيفة الحلم إلا في مخيلة طفولتنا ومراهقتنا كل شيء ينتهي بمجرد دخول سوق الشغل، الوظيفة الحلم حيث تجد الاستقرار والتقدير وبعض الشغف لا غير."

مهنة أحلامي أنهكتني
تحولت المهنة التي أرادتها زكية عربي إلى كابوس حقيقي بدأت تأثيراته تطال صحتها النفسية. كانت زكية تحلم منذ صغرها أن تكون طبيبة توليد ونساء، ولكن ونظراً للصعوبات المادية لعائلتها قررت اختصار الطريق ودراسة اختصاص قابلة (sage femme) الذي لا يحتاج إلا سنتين في الجامعة مع فرص وافرة في التشغيل مقارنة باختصاص الطب الذي يحتاج سنوات طويلة وتكاليف عالية. كانت راضية وسعيدة بأن تكون أول من يستقبل المواليد الجديدة. ولكن بعد سنوات من العمل بدأ الحلم الجميل يتحول لحمل ثقيل جدا يؤرقها كثيراً.

تقول زكية: "كانت البداية رائعة خاصة أنني كنت من القلائل بين بنات قريتي الصغيرة مما أكملن دراستهن، وكنت أشعر بسعادة كبيرة وأنا أشارك الأمهات ففرحتهن بقدوم أطفالهن. لكن بدأ الأمر يتغير منذ المرة الأولى التي يموت فيها طفل بعد ولادته. كان المشهد موجعًا جدًا، أن ترى ذلك الجسد الصغير الذي سعدت بقدومه للحياة يتحول فجأة لجثة، وترى انهيار الأم التي ظلت تعد الأيام والشهور في انتظار أن نضعه في حضنها. أذكر أنني عدت إلى بيتنا في غاية الحزن لم أستطع النوم، اعتقدت أن ما يحدث معي مرده الصدمة من هول الحادثة لأنها المرة الأولى وسأتعود لكن لم يحدث ذلك."

عادت زكية بعد استراحة قصيرة لتباشر عملها مجددًا كما تعودت وبدأت تدريجيًا تتخلص من وقع تلك الحادثة، لكن لم يخطر ببالها أنها لن تكون الأخيرة. خلال سنوات من العمل واجهت موت أمهات على فراش الولادة ورضع لحظة الولادة أو قبل ذلك بقليل. وفي كل مرة كانت تبذل جهدًا كبيرًا لتنسى كل حادثة مماثلة.

"كنت أعاني من كوابيس مخيفة كانت تلاحقني بسبب حوادث موت الأطفال عند الولادة أو أمهاتهن، كانت صورهم لا تفارق ذاكرتي مهما حاولت التخلص منها أجدها تتمسك بي أكثر فأكثر. لم أستطع أن أخبر أحدًا من محيطي، ودون أن أنتبه لذلك وجدت أنني أصبحت شديدة العصبية مع أطفالي وزوجي، وكثيرة البكاء وأفكر يوميًا في ترك هذه الوظيفة للتخلص من تلك الوجوه الميتة التي تأبى أن تتركني."

مازالت زكية تعمل في أحد المستشفيات في مدينتها، ولكنها فقدت ذلك الشغف الأول بوظيفتها وباتت تراها عنوانًا لتعاستها: "الوظيفة الحلم جميلة وبراقة قبل مزاولتها، وحدها التجربة من تحدد ما إذا كانت أحلامنا قد وجدت طريقها إلى الواقع أم أننا قد أسأنا التقدير كثيرًا."