GettyImages-1240281803

Photo by JONATHAN ERNST/POOL/AFP via Getty Images

مقال رأي

لا يعني فوز جوني ديب شيئًا على الإطلاق- إلا في حالة واحدة

نحنُ الآن أمام فرصة ذهبيّة للاعتراف بأن المنظومة الأبوية التي تُمكن الرجال من ممارسة العنف، ترتكب في حقهم عنفًا من نوعٍ آخر

يتطلب الأمر كذبة واحدة؛ فشل واحد في إثبات واقعة عنف تعرضت لها امرأة أو شخص ذوي/ذات هوية جندرية غير نمطية؛ ورجُل واحد مظلوم؛ لتتحقق العبارة الأبوية: كل النساء كاذبات. هذا ما رأيناه طيلة مدة المحاكمة الثانية بين أمبر هيرد وزوجها السابق جوني ديب والتي جاءت على خلفية اتهامها له بالعنف الأسري عام ٢٠١٦. محكمة ممتلئة عن آخرها بتسجيلات صوتية وصور ومقاطع فيديو تراشق بها الاثنان؛ كل منهما يرى نفسه ضحية عنف. انتهت المحاكمة وأعلن فوز جوني ديب وحُكمَ له بالتعويض عن التشهير بسمعته وخسارته لعمله بعد مقال كتبته أمبر هيرد في الواشنطن بوست عام ٢٠١٨. ليهلل كثيرون: أخيرًا انتصر الرجال على افتراء النساء.

إعلان

المحاكمة كمسرح ذكوري أبوي
بداية، لا بد من الإشارة أن المحاكمة كانت مسرحًا لممارسة الأبويّة والذكوريّة؛ تمت السخرية على الإنترنت من ادعاءات أمبر هيرد وردود أفعالها في قاعة المحكمة والتي لا تخلو في اعتقادي من فريق علاقات عامة يعمل لصالح جوني ديب ولا يقل في ثقله عن فريق دفاعه. تم استخدام حجج أبوية لنفي مصداقية أمبر هيرد من فريق دفاع جوني ديب؛ حيث اعتبروا الاضطرابات النفسية وصمة لأمبر هيرد، بينما تم استخدام إدمانه كمُبرر لعنفه. استخدموا أيضًا حجة أبوية في اعتبار أن العنف الوحيد المعترف به هو العنف الجسدي الذي يُخلف رضوضًا وكدمات أو يودي بالحياة، مقابل العنف النفسي والعاطفي غير الملموس ماديًا. وفي ذلك الصدد بالأخص، نفى دفاع جوني ديب تعرض أمبر هيرد للعنف لعدم وجود صور وإثباتات. وكان بالإمكان مثلًا نفي قدرتها على إثبات العنف وليس نفي تعرضها للعنف عن بكَرة أبيه. إن كان هكذا ينتصر الرجال في قاعات المحاكم، فما بالنا بخارجها؟ وإن كانت تلك الُحجج الأبويّة دفاعًا مُعترفًا به، فلن يحدث إلا استمرار لهذا العنف.

تأنيث التعرض للعنف
قبل هذه المحاكمة، إذا رجعنا بالتاريخ قليلًا، سنجد تجاهُل تام لمطالب النساء هنا وهناك بضرورة وجود قوانين تحمي النساء من وقائع العنف التي يصعب التحقق منها كالعنف الجنسي والأسري، وإيجاد حلولًا بديلة للتحقق وإنصاف النساء قانونيًا واجتماعيًا. وسنرجع أكثر لنجد ملايين النساء دفعت/تدفع الثمن من أجسامهن وصحتهن النفسية وأمانهن الشخصي. وسنرجع أكثر وأكثر لنجد أن هذا التجاهل بُني في الأصل على اعتبار أجسام النساء مُستباحة للرجال، ملكيّة خاصة تورّث وتُمرر من رجل لرجل. ذلك التوريث وهذه الاستباحة خدمت الرجال على حساب النساء، وتم تجاهل قضيتي العنف الجنسي والعنف الأسري على مدار قرون؛ حتى استطاعت النساء مؤخرًا إيجاد بدائل لتحقيق العدالة والإنصاف بعيدًا عن القانون والإجراءات الجنائية التي لا تضع في حسبانها صعوبة التحقق والمظلومية التاريخية للنساء.

إعلان

كان ذلك متوازيًا مع تأنيث التعرض للعنف. فالمنظور الأبوي يؤنث التعرض للعنف، بمعنى أنه يعتبر النساء فقط هنّ المتعرضات للعنف، ويُساويه بالضعف واستُخدمَتْ آلية الوصم الاجتماعي للمتعرضات/ين للعنف لإخراسهنّ/م. في المقابل، كان هناك إنكارًا لكون الرجال أيضًا عرضة للعنف، ووصمًا بنفي صفة الرجولة عن أي رجل يبوح بتعرضه للعنف، لافتراض القوة فيه. هذه الثنائية الأبوية تقول مباشرة: النساء ضعيفات يتعرضن للعنف ويستحققنه، والرجال أقوياء لا يتعرضون للعنف لأنه ممارسة رجولية في الأصل. 

حكرتْ الأبوية ممارسة العنف على الرجال دون النظر لتعرضهم له، وأنّثَتْ التعرض للعنف حتى لا تُمارسه النساء ولو ببجاحة أقل مقارنة بالرجال

هنا، نحن أمام قرونًا من تأنيث التعرض للعنف، تعرض فيها الرجال للعنف أيضًا من رجال مثلهم ومن نساء حتى لو بدرجة أقل. أتذكّر الآن نكتة أن لو الرجال مسؤولون عن منع الحمل، سنجد وسائل منع الحمل توزّع بالمجان، أو متاحة في ماكينات الصرّاف الآلي. لو كانت الأبوية تحمي الرجال من العنف، لأصبحت القوانين تُجرّم العنف ولتفننَ المشرعون في إيجاد آليات تحقق مُعترف بها قانونيًا وجنائيًا. لكن الأبوية لم تفعل ذلك لأنها حكرتْ ممارسة العنف على الرجال دون النظر لتعرضهم له، وأنّثَتْ التعرض للعنف حتى لا تُمارسه النساء ولو ببجاحة أقل مقارنة بالرجال.

لو أن هناك شيئًا واحدًا نستخلصه من المحاكمة، فهو بالتأكيد ليس أن الرجال مظلومين والنساء كاذبات. لكن أن الرجال سيدفعون ثمن تأنيث التعرض للعنف واعتباره ممارسة رجولية بحتة. فالقوانين والأعراف الاجتماعية التي تجاهلت تعرّض النساء للعنف، تم وضعها لتخليص الرجال من مسؤولية ارتكابه. وعندما أخيرًا وجدت النساء طريقًا لمقاومة العنف بفضح المُعتدين، تم وضع عبء التحقق والمصداقية على جميع النساء. فلو تحدثت امرأة واحدة عن تعرضها للعنف ولم تستطع إثباته لأي سبب، تُلام جميع النساء. كما لو أنه يُقال لنا أن آلية التكذيب والإخراس هي ما يجب اعتماده مع النساء لأن امرأة واحدة فشلت في الإثبات - كما في حالة أمبر هيرد. 

إعلان

عندما تحدثت أمبر هيرد عن تعرضها للعنف أول مرّة، تم تصديقها بنسبة كبيرة؛ ويدخل ذلك في حساب تراكم الامتيازات: امرأة بيضاء، غنيّة، مشهورة، إلخ. لنكتشف بعدها بستة أعوام، أنها مارست العنف ضد جوني ديب أيضًا. حتى لو كانت تمارس العنف كرد فعل لعنفه (Reverse Abuse)، لا يزال جوني ديب رجلًا تعرّض للعنف ولو كان مُعنّفًا. وتلك طبقات متداخلة من الطبيعة البشرية، جميعنا يتعرض للعنف وجميعنًا يُمارسه بتفاوت نسبي يضع في الحسبان مسألة الامتيازات والهوية الاجتماعية.

الكذب/الفشل لا يُنفي تعرض النساء للعنف، ولا يُعمم ارتكابهنّ للعنف، أو يُلغي مصداقية جميع الشاكيات بمَن فيهنّ أمبر هيرد نفسها

ولو نظرنا للصورة الأكبر، لوجدنا أن أمبر وجوني ليسا مثالًا فريدًا لكيف يكون الشخص عنيف ومُعنَّف في الوقت نفسه. لكن نقطتي هنا أبعد من المحاكمة ومنهما. نقطتي أن فشل آلية للتحقق من وقائع العنف جاء لصالح أمبر هيرد في ٢٠١٦ و٢٠١٨، وخسر جوني ديب ما تبقى من سمعته بعد تداول أخبار إدمانه للمخدرات. ونفس فشل آلية التحقق جاء لصالح جوني ديب في ٢٠٢٢. وبدلًا من أن يشعر الرجال بضرورة وجود قوانين وآليات تحقق تضمن حق الشاكيات والمشكو في حقهم، يتخذون من الحكم دافعًا للهجوم على النساء وآلياتهن البديلة لتحقيق العدالة.

أمبر هيرد لا تمثّل إلا نفسها
يَغفل هؤلاء أن ما حدث لجوني ديب – حتى الآن – هو نتيجة فشل امرأة واحدة في الإثبات إما لأنها كاذبة أو لفشل آليات التحقق من إنصافها. وأن ذلك الكذب/الفشل لا يُنفي تعرض النساء للعنف، ولا يُعمم ارتكابهنّ للعنف، أو يُلغي مصداقية جميع الشاكيات بمَن فيهنّ أمبر هيرد نفسها. فهذا العبء الموضوع على النساء اللواتي يلجأن لآليات عدالة قانونية أو بديلة كالفضح، يدخل في حيز تحجيم قدرات النساء على مقاومة العنف ليس أكثر؛ حيث أن افتراض أن جميع النساء صادقات ليس صحيحًا. 

إعلان

فالشعار النسويّ السياسيّ: نصدق النساء/الناجيات، لم يكُن هدفه إعلان صدق الشاكيات في المطلق، بل مقاومة التكذيب والإخراس كمواقف مبدئية عندما تتحدث النساء عن تعرضهنّ للعنف. وهذا الافتراض لا يُلزم إلا مُعتقديه. فنحنُ – ملايين النساء حول العالم – عندما نقول نصدق النساء، نعرف جيدًا أن هناك احتمالات للكذب/لفشل إثبات العنف، لكننا لا نعتبرها انطباعًا أوليًا كما تفعل الأبويّة. أمبر هيرد لا تمثّل النساء كما تدّعي، وخسارتها في المحكمة ليست ردّة في حق النساء كما تصيغها. بل هي خسارة واحدة لامرأة واحدة، ومظلومية واحدة لرجُل واحد – بافتراض أن ذلك صحيحًا. ولعلّ ذلك هو أكبر غضب لديّ تجاه أمبر هيرد، تلك التي تنتهج نهج النساء البيضاوات ذوات الامتيازات اللواتي يضعن أنفسهن مُمثلات للحراكات الاجتماعية للحصول على امتيازات إضافية كمُنقذات للنساء من القمع، بينما يستفدن شخصيًا من معاناة ملايين النساء. وبالتالي، فهزيمتها/فشلها في الإثبات، لا يعوَّل عليه.

لم تُنفي النسويات أبدًا تعرّض الرجال للعنف. على العكس، هنّ مَن بدأن الحديث عن أن العنف كممارسة رجولية تضطهد الرجال كما تضطهد النساء

ما فعلته النساء في العقد الأخير هو رفضٌ لآليات العدالة غير المنصفة لهنّ. وبدلًا من الانصياع للقوانين الموضوعة لصالح الرجال، فرضوا على هذه القوانين ضرورة التكيّف مع واقع جديد تتحدث فيه النساء علانيّة عن العنف. فإن كانت القوانين هي آلية قمع وضعها الرجال الأوائل لتمكين الرجال حتى اليوم، لهذا لا يعني فوز جوني ديب شيئًا على الإطلاق- إلا في حالة واحدة، وهي الاعتراف بأن هذه الآليات الأبوبة الذكورية فاشلة انسانيًا، وليست النساء وحدهنّ مَن يدفعن الثمن الأكبر، فالرجال أيضًا سيدفعون أثمانًا إلى حين إدراكهم أن المنظومة التي تُمكنهم من ممارسة العنف، ترتكب في حقهم عنفًا من نوعٍ آخر.

وبالتالي، فوز جوني ديب ليس انتصارًا لأنه لم يعتمد على نَهج تفكيكي (Deconstructive Approach)، ولكن على الحجج الأبوية المبدئية التي كانت سببًا في الأساس لتعرض النساء للعنف كالتكذيب والإخراس. ما يُريدونه ليس إنصافًا للرجال الذين ينصفهم القانون والأعراف بالفعل، بل هزيمة النساء. وتلك رؤية قاصرة للغاية. فأغلب الرجال لا يُريدون التصادم مع الأبوية لأنها منظومة عنيفة، لكنهم "يُطالبون" الحراك النسوي بدمج الرجال في خطاباتهنّ. في الحقيقة، لم تكُن النسوية التفكيكية أبدًا حِكرًا على النساء، بل تسعى لهدم علاقات القوة غير المتكافئة بجُملتها. ولم تُنفي النسويات أبدًا تعرّض الرجال للعنف. على العكس، هنّ مَن بدأن الحديث عن أن العنف كممارسة رجولية تضطهد الرجال كما تضطهد النساء.  

لذا، استمرار استخدام الرجال للأبوية كما فعل فريق دفاع جوني ديب، لن يُحقق إنصافًا للرجال، لأن الأبوية نفسها تسحقهم إنسانيًا (Dehumanization) لصالح استمرارها كمنظومة قامعة. وإن لم يُدرك الرجال ذلك، فالمزيد من جوني ديب في الطريق إليهم.