Final Illustration
مقال رأي

القواقع التي ستنمو فوق ظهورنا في الحجر المنزلي

ربما سنخرج بعد انتهاء كل هذا كأسراب من الحلزونات أو السلاحف الطرية، مع فقدان كبير للمهارات الاجتماعية أو الأداء الاجتماعي

في اللحظة التي بدأ فيها حظر التجول الطوعي أو الإجباري في المنطقة بسبب انتشار فيروس كورونا، تحسست جلدي! كان عليّ أن أذكر نفسي بأنه قد بدأ يقسى أخيراً ويستطيع مواجهة العالم الخارجي بعد أن كان محمياً داخل قوقعة عدّة مرات. القوقعة لم تكن واحدة، كان منها أكثر من نوع، الأول كان القوقعة المستعارة التي يدخلنا فيها أهلنا لحمايتنا من العالم الخارجي، والقوقعة التي أريد التحدث عنها كانت تنمو من عظامي فوق ظهري، والتخلص منها أشبه بعملية بتر جزء من جسدك.

إعلان

لا تنمو هذه القوقعة فوق ظهورنا دون سبب. يجب توّفر الظرف الملائم لها، وهو العزلة الاجتماعية. العزلة التي نجبر عليها لظروف مختلفة مثل الحروب وتبعاتها التي تجعل من البقاء في المنزل الخيار الأكثر أماناً للنجاة من القناصين والخاطفين، أو فشل دراسي أو ما يشبهه يجعلنا نخاف من مواجهة الآخرين، أو حالة صحية معينة، وأخيراً وباء خطير سريع الانتشار.

هذه الحالات أو غيرها، وما تفرضه من عزلة في المنزل، تستوجب إيجاد حلول لقضاء الوقت في هذا المكان المغلق، وبالتالي فإن التلفزيون والإنترنت وربما بعض الكتب ستكون خيارات نقوم بها لمواجهة الوقت بين الجدران، وبالفعل في الوقت الحالي بدأت شركات إنتاج الأفلام، وشركات الاتصالات، والمكتبات بتوفير عروض مجانية أو أقرب للمجانية لمساعدة المحجورين بسبب كورونا لقضاء هذا الوقت، ناهيك عن توفر مئات من مواقع الأفلام والمسلسلات والكتب المقرصنة. سيبدو الأمر مفزعاً بالبداية، لكننا سنغرق في هذه العوالم، وفي ساعات المشاهدة المتواصلة التي ستخرجنا من قلقنا وأفكارنا وتشغلنا بها. ودون أن ندرك ستكون القوقعة قد بدأت بالنمو شيئاً فشيئاً.

أذكر نمو قوقعتي الأولى جيداً. في العراق أثناء السنوات الأولى للحرب في 2003-2005 ، كنت طفلة صغيرة وكان على أهلي حمايتي من الرغبة في الخروج في خضم حالات الخطف والقتل على الهوية وغيره، فحصلنا على ساتلايت –بعد أن صار مسموحاً به أخيراً- وبهذا وجدت عالماً مثيراً جديداً، وجدت قنوات مختلفة تعرض الرسوم المتحركة طوال الوقت، ولم يعد عليّ مشاهدة أفلام ديزني على أقراص لعشرات المرات، كان هناك أشياء جديدة ومستمرة. وشيئاً فشيئاً لم أعد أرغب في الخروج، حتى لو كان مع عائلتي، كنت أخشى من تفويت حلقات مسلسل يوغي أو أجنحة الكاندام. وكنت أسأل أهلي إن كان هؤلاء الأشخاص الذين سنزورهم ممتعين أو مفيدين أكثر من مسلسلاتي؟

إعلان

بعد مرور الوقت، بدأت أستخدم ألفاظاً فصيحة بدلاً عن العامية، بضعة كلمات فقط كانت كفيلة في أن تجعلني أتعرض للسخرية عند عودتي للمدرسة. استطعت التواصل قليلاً، لكنني تعاملت مع كل شيء على أنه رسوم متحركة، وكانت قد مرت سنوات قبل أن أدرك أن الأمر لا يسير بهذه الطريقة، وأنني أفقد الكثير من مهاراتي الاجتماعية، ما يجعل حتى التنفس محرجاً. وهكذا كنت أبتعد كل مرة حتى صرت أعيش داخل القوقعة التي نمت فوقي بالكامل ونتج عن هذا جلد طري عالي الحساسية. وحساسية كهذه تسبب الخوف، والخوف يعيد دائرة العزلة. استطعت تحطيم القوقعة قدر الإمكان بصعوبة، وكانت تنمو مع كل مشكلة، وأعود لمحاولة تحطيمها ثم اكتساب جلد خشن قليلاً وهكذا دواليك.

لا أشبّه الحروب بكورونا قسرياً، إنما تجاربنا والذاكرة هي من يفرض ذلك. سمعت مصطلح حظر التجوال لأول مرة في حرب أمريكا على العراق عام 2003، وقمنا بتخزين مواد غذائية رئيسية في الحرب، اختبأنا في بيوتنا لنحمي رؤوسنا من الشظايا، تعاملنا مع الخوف ومع الأخبار ومع احتمالات الموت والخطف وفقدان الأصدقاء والعمل. نحن المدنيين المختبئين في المناطق التي تسمى آمنة، الذين لم نر الدم بأعيننا لكننا نشم رائحته.. تذكرنا كورونا بالحرب.

قد يبدو هذا كلاماً ينم عن رفاهية كبيرة، عن شخص كان آمناً في الحرب، لكن أليست كورونا تظهر الفروقات نفسها؟ القوقعة بالأصل ليست شأناً عاماً، إذ لا يمكنني تناسي أولئك الذين لن يملكوا الوقت لنمو القوقعة، لأنهم مضطرون للخروج، أو لأنهم لا يمتلكون القدرة على إمضاء الوقت على التلفزيون أو الإنترنت، وبالتالي لا خيار لهم سوى مخالطة الجيران أو الأقارب رغماً عن السلطات والحجر الصحي والحظر.

إعلان

صحيح أننا نتواصل الآن بسبب الانترنت، وربما نتواصل أكثر مما كنا عليه قبل الحجر، لكنه تواصل لا يحتاج إلى وجود الجسد. في مكالمات الفيديو يمكنك مثلاً أن تغلق الكاميرا بحجة الانترنت الضعيف لترتاح من عملية الحفاظ على تعابير وجه صالحة للظهور أمام الآخرين

الحرب تنتقل من بلد لآخر بأوقات مختلفة، وحتى من منطقة إلى أخرى داخل البلد نفسه، ما يجعل القواقع تبدو حالة غير ملفتة، لكن هذه المرة ستنمو قواقعنا جميعاً في الوقت نفسه، ربما سنخرج بعد انتهاء كل هذا كأسراب من الحلزونات أو السلاحف الطرية، مع فقدان كبير للمهارات الاجتماعية أو الأداء الاجتماعي. وأتساءل مع نفسي إن كان سيكون هناك شكل جديد من الأداء الاجتماعي؟ صحيح أننا نتواصل الآن بسبب الانترنت، وربما نتواصل أكثر مما كنا عليه قبل الحجر أو الحظر بسبب تفرغنا، لكنه تواصل لا يحتاج إلى وجود الجسد. كل ما عليك فعله هو الكتابة والقراءة، وربما استخدام صوتك وصورتك قليلاً. وإن أزعجك أمر ما، تستطيع فصل الانترنت وكأنك ارتديت قبعة الإخفاء ببساطة! وفي مكالمات الفيديو، والاجتماعات، يمكنك أيضاً أن تغلق الكاميرا بحجة الانترنت الضعيف لترتاح من عملية الحفاظ على تعابير وجه صالحة للظهور أمام الآخرين.

كل هذا غير ممكن في اللقاءات الحقيقية، في العالم الواقعي عليك أن تواجه التنويعات الصوتية، النظرات، تلاقي الأعين، وتعابير الوجه، وأحكام الآخرين البادية على وجوههم وإن حاولوا إخفاءها. ضحكتك يجب أن يكون لها قياس محدد حسب المكان والوضع، تثاؤبك عليك أن تسيطر عليه، مخاطك عليه أن يجد طريقة ليتوقف وإن كنت تعاني من حساسية الربيع، ارتباكك، التعابير التي تدل على البلاهة، رقصك، حركتك، ظهرك الذي لا يجب أن يكون محنياً، وأمور كثيرة أخرى بعضنا لا يجد صعوبة في التعامل معها بسبب العادة، وآخرون عليهم أن يعيدوا أداءها مراراً وكأنهم يتعلمون السير مجدداً.

الإنترنت مقابل الواقع يشبه أن تقرأ نصاً مسرحياً، تقرأ جميع شخصياته بصوتك الخاص، أو بأصوات قليلة أخرى. في الواقع ستجد نفسك على خشبة تؤدي الشخصية الخاصة بك أمام جمهور كبير ومخرج من خلفك يرغب بقتلك بسبب فشلك في الأداء. نحن الآن في البداية، قد نشعر بالراحة قليلاً من عبء خشبة المسرح تلك، لكن الوقت سيمر، وسنفقد مهارة تلو الأخرى، وعندما نعود سنبحث عن زر إطفاء الكاميرا لنقوم بالتمخيط أو الضحك أو البكاء في غير وقته، سنبحث عن زر إطفاء الانترنت لنقاطع حديثاً هاماً ونذهب إلى الحمام.

العالم بعد انتهاء الحجر لن يصبر علينا، ولن ينتظرنا بنعومة لنعود تدريجياً، سيُسقط مدراء العمل فوقنا مطراً من الحجارة القاسية لتتفتت هذه القواقع بسرعة شديدة، ونعود بذلك لأعمالنا وحياتنا التي لا يجب أن نعيش فيها كسلاحف مختبئة بداخل قوقعة

سنحاول أن نكون مثل شخصيات المسلسلات التي شاهدناها لكننا سنكتشف كل مرة بالطريقة الصعبة أن أجسادنا ووجوهنا عاجزة على أن تكون هذه الشخصية، وأنه علينا تعلم كل خطوة مجدداً. ستعيقنا القواقع التي نمت فوق ظهورنا وسنحتاج للوقت للتخلص منها، ومن ثم سنحتاج لشجاعة كبيرة لتعريض جلدنا الذي بات طرياً وحساساً للشمس، ستحرقنا كل كلمة، كل نظرة، كل تلعثم نقوم به، سنحترق حتى نعود لشكل حياتنا السابق بدون هذه القواقع. وربما سيعلق بعض منا في هذه القوقعة إلى الأبد.

قد تتكسر القواقع بالطريقة الصعبة، فالعالم بعد انتهاء الحجر لن يصبر علينا، ولن ينتظرنا بنعومة لنعود تدريجياً، سيُسقط مدراء العمل فوقنا مطراً من الحجارة القاسية لتتفتت هذه القواقع بسرعة شديدة، ونعود بذلك لأعمالنا وحياتنا التي لا يجب أن تكون مختلفة، التي لا يجب أن نعيش فيها كسلاحف مختبئة بداخل قوقعة. سيأتي مدربون ليعطوننا دروسًا حول الشخصية القيادية والشخصية الفاعلة والشخصية الكاريزماتية وتمارين تقوية الشخصية وكل ما يمكن القيام به بجدوى أو بدون لنعود للقالب المعتاد القديم، سيفعل المخرج كل شيء ليرمي بنا إلى الخشبة لنواجه الجمهور.