"يمكنك تسميتها غريزة البقاء،" يقول فادي، 24 عاماً، "أشعر أن الناس – باللاوعي- أصبحوا مدركين لاحتمالية انتهاء حياتهم أو حياة من يحبون في أي لحظة. لذا فإننا دون أن نشعر أصبحنا نعيش كل يوم وكأنه آخر يوم فنضع كل طاقتنا في هذه السهرة الأسبوعية محاولين أن نصل كل مرة للسعادة القصوى." فادي الذي أنهى دراسته في المعهد العالي للفنون المسرحية وتخرج من قسم الرقص، يعمل الآن معيداً في المعهد ويجد في الحياة الليلية ملاذاً له ولرفاقه من ضغوط الحرب.
في الحديث عن شكل الحياة الليلية في العاصمة دمشق، التي عاشت تحت وطأة الحرب وحسب قواعدها طوال السبع سنوات الماضية، تتعدد الآراء التي تحاول شرح أو تفسير ما يمكن تسميته بـ "ظاهرة" حياة الاحتفال الليلية في المدينة. في حي "باب شرقي" أحد أحياء دمشق القديمة، قد لا تجد –خاصة في ليالي الهدوء النسبي للحرب- موضع قدم في الشارع الرئيسي للحي بأكمله فيما تمتلئ الأرصفة والزوايا بالشباب الذين يقصدون الحي للترويح عن أنفسهم.
Cossett في دمشق القديمة- تصوير: زين خزام
بالطبع لطالما كان لدمشق قبل الحرب باراتها الحميمية المخبأة بين ثنيات الأحياء القديمة، إلا أن المفاجئ هو هذا التكاثر الهائل في أعداد البارات والمقاهي والنوادي، والتزايد الدائم في أعداد "السهيّرة." ففي مدينة تقدم يومياً أعداد غير قليلة من الضحايا المدنيين بفعل القذائف العشوائية وحدها وبعيداً عن أي اشتباكات أخرى، ستتوقع أن تغدو المدينة ليلاً مدينة أشباح ميتة كما سواها من المدن السورية. ولكن يبدو أن لكل قاعدة استثناء.
قابلت فادي، أحد أبناء دمشق القديمة لأسأله عما يذكره عن باب شرقي في مرحلة ما قبل الحرب: "سابقا كانت المنطقة هادئة جداً. عدد البارات فيها محدود جداً ولم تكن تحظى بهذا الصيت. كنا في الغالب نتوجه إلى بار أبو جورج أو حديقة القشلة "التي لم تكن لتزدحم إلا في العطلة الأسبوعية." يتابع: "خلال الحرب أصبحت الشام ضيقة نوعاً ما، لم يعد من الممكن الخروج إلى أطراف المدينة كما كنا نفعل في السابق. ولم يعد هناك الكثير من النشاطات الاجتماعية أو الثقافية. لم يعد هناك وجود للسينما أو المسرح أو مجرد إمكانية الخروج للمشي. لذا أصبحت البارات الوسيلة الوحيدة لنجتمع بالأصدقاء لإمضاء الليالي الطويلة، وهذا ما دفع هذه البارات للتكاثر."
أن يتم إجباري على المكوث في مكان واحد بسبب تردي الوضع الأمني عندها تغدو المدينة سجناً كبيراً وتشعر أن أبواب الجحيم قد أغلقت عليك
Cossett في دمشق القديمة- تصوير: زين خزام
سألت فادي كيف يمكن أن يقضي أمسياته إن لم يخرج للسهر في نهاية كل أسبوع فأجاب: "مؤخرا نتيجة سوء الوضع الأمني والقذائف المتواصلة ليلاً نهاراً لم أتمكن مع مغادرة المنزل طوال عشرة أيام، حتى أنني لم أستطع التوجه إلى عملي في الصباح. ومع توالي الأيام لم أعد أستطع التحمل. شعرت بالحاجة لأي نشاط أو مكان يمكنني الذهاب إليه وإلا كنت سأفقد عقلي." يوضح: "بالتأكيد أنني لا أمانع المكوث في المنزل طويلاً. إن كان لدي عمل متراكم فأنا لا أخرج قبل إنجازه، أما أن يتم إجباري على المكوث في مكان واحد بسبب تردي الوضع الأمني عندها تغدو المدينة سجناً كبيراً وتشعر أن أبواب الجحيم قد أغلقت عليك."
بيسان، 28 عاماً، التي تعمل في مجال التسويق، تتحدث عن علاقتها بليل المدينة: "في بداية الحرب لم نكن نجرؤ على السهر أو الاحتفال أو الخروج حتى. لم يكن أحد ليخرج من منزله سوى للضرورة. في مرحلة معينة نسينا ما معنى أن تمشي في الشوارع أو أن تخرج ليلاً وتلتقي بأحد تعرفه. ولكن بعد مرور سنوات على بداية الحرب وتزايد النشاط في حي باب شرقي بدأت أحب هذه الألفة، ستجد أن كل أصدقائك وأغلب من تعرفهم ممن يحبون السهر مجتمعون في المكان ذاته بحثاً عن متنفس مشترك وإن كانوا من خلفيات ومناطق مختلفة، وجود هذه الفسحة كان جميلاً فعلاً."
تصوير: زين خزام
سألت بيسان عن مدى تأثير الحرب على نظرة الشباب السوري للحياة والموت وإذا ما كان يجب عليهم برأيها الانقطاع عن نط الحياة الليلة عندما تسوء الظروف الأمنية فأجابت: "أعتقد أن الناس تخاف من المجهول، أما بالنسبة لنا فالموت لم يعد مجهولاً، يؤسفني طبعاً أن أقول هذا ولكننا فعلاً اعتدنا على الموت وأصبحت المسألة بالنسبة لنا مسألة حظ." وتضيف: "إن كان يتوجب علينا أن ننقطع عن السهر أو الخروج بسبب الوضع الأمني إذاً ربما علينا أن ننقطع عن العمل وعن الدراسة وعن الخروج لشراء الخضراوات أليس كذلك؟ ولكن الحياة تستمر."
بيسان التي حظيت بفرصة اختبار الحياة الليلية والسهر في مدن مختلفة حول العالم، ترى أنه ليس بوسعها القيام بأي مقارنة عادلة في هذا السياق بين دمشق وسواها: "هذا الضيق في المساحة ضمن المدينة جعل من باب شرقي محطة لكافة المناسبات أو الاحتفالات التي نقوم بها، هناك ودعنا الكثير الكثير من الأصدقاء وعُدنا لاستقبال بعضهم، لذا وخلال مدة زمنية قصيرة جداً أصبح حي باب شرقي مستودع لكم هائل من الذكريات لدى جيلنا وهذا ما منح المكان خصوصيته."
بيسان- تصوير: زين خزام
في بار La Marionette قابلت يوسف، 32 عاماً، أحد المستثمرين في البار، وفرد من مجموعة Cornerstone design office التي نفذت تصاميم عدد من البارات والمقاهي في دمشق. تحدثت مع يوسف عن وجهة نظره كمستثمر حول الأسباب التي تدفع إلى افتتاح المزيد من الأماكن المخصصة للسهر في هذا الجزء من المدينة تحديداً: "لهذه المنطقة قيمة تاريخية سياحية تجارية هائلة، وبنفس الوقت فهي تحافظ على الطابع البسيط الغير متكلف. الناس لا تقصدها لتزور مكاناً محدداً فقط بل ليختبروا الحالة التي اشتهرت فيها المنطقة ويتابع: "لكل مستثمر أسبابه المختلفة ولكن بالنسبة لي ولعدد من اصدقائي لطالما حلمنا أن يكون لنا مكان يُشبهنا، نستطيع أن نعبر فيه عن أنفسنا ولم تتاح لنا الفرصة بسبب انشغالنا بأعمال أخرى، لكن الظروف التي فرضت علينا مؤخراً أدت لإعادة النظر في هذا الموضوع وساعدت بشكل أو بآخر على تشكيل مجموعة من الاشخاص التي قرروا البدء بعمل جماعي صغير لشغل وقتهم وكسب لقمة العيش وضمان أمل استمرار الحياة."
حالياً ذاكرتي امتلأت بالحرب بكاملها. أي ذكرى تسبق الحرب هي بالنسبة لي اليوم حكاية قديمة رواها لي أحدهم، فأتخيلها بدل أن أتذكرها
سألته كيف يتعامل مع الانتقادات التي قد يتعرض لها كمدير بار في مدينة تعايش الموت بشكل يومي فأجاب: "مفهوم المشاريع التي نعمل بها لا يستند بشكل خاص على تنظيم حفلات صاخبة ومع ذلك أتفهم الانتقادات المرتبطة بأي احتفال. أما الفكرة التي تُطرح بشكل مكثف عن الفرق في طريقة العيش من منطقة لأخرى ضمن المدينة، فنحن أيضاً عشنا الحرب في هذه المنطقة كغيرنا، خسرنا أصدقائنا وبيوتنا وأعمالنا وما زلنا نحاول التعايش والتأقلم. لكن الفرق هو رغبتنا بأن تستمر الحياة أياً كان العمل الذي نشغله."
تصوير: زين خزام
مرح التي تعمل كـ DJ في دمشق منذ ثلاثة أعوام، شهدت الفترة التي تزايد فيها الإقبال على السهرات والحفلات الصاخبة في الشام القديمة منذ بدايتها: "بدأت أنا وبضعة شبان بلعب الموسيقى قبل بضعة سنوات ضمن تجمعات صغيرة. أما اليوم فقد نحيي حفلات يحضرها ما يقارب مئتان أو ثلاثمئة شخص إن كانت الظروف جيدة والحركة ممكنة. البعض منهم قد يأتي من أماكن بعيدة وخطرة كي يحضر حفلاً." تتابع: "بالنهاية نحن شباب مثقفون، مطلعون على النتاج الثقافي العالمي الفني عامة والموسيقي خاصة، لذا نحن بحاجة لأن نحاول أن نحيا بشكل طبيعي وأن نبتعد عن نظرة العالم لنا على أننا فقط نتاج لهذه الحرب."
أشجع ممارسة أي طقس حياتي يقوم به الإنسان بحيث لا يموت مع من ماتوا
مرح شديدة الشغف بعملها، يزيد من حبها له الدعم الذي تتلقاه سواء من عائلتها أو أصدقائها أو الناس التي اعتادت حضور حفلاتها: "سيفاجئك كم الدعم الذي نحظى به من جمهور هذه الحفلات مقابل استمرارنا في لعب الموسيقى. دعم مادي ومعنوي هائل من شرائح مختلفة سواء طلاب أو موظفين أو فنانين أو مهندسين يحتاجون هذه المساحة للصخب وتفريغ طاقاتهم في نهاية أسبوع منهك. مبدأ "الويك إند" والهرب من روتين الأسبوع هو أمر طبيعي تماماً هنا كما هو حول العالم بأسره."
الصحفي والمراسل ماهر، 29 عاماً، من أبناء دمشق القديمة ولايزال يقيم فيها حتى اليوم، لذا يسهل أن تجده بين أصدقائه في أحد بارات المنطقة وإن كان لا يشرب الكحوليات إطلاقاً كما يخبرني ولكنه يحتاج أحياناً صخب هذه الأماكن ليهرب من صخب الحرب الذي يلاحقه في عمله طوال النهار. يرى ماهر أن هذا الجزء من المدينة بات المتنفس الوحيد لأبنائها. سألته إن كان يلوم الشباب على هذا الانخراط في السهر والاحتفال المتواصل رغم ظروف الحرب فيجيب: "لا ألومهم ولا أشجعهم، هذا خيار شخصي وحرية شخصية بالمطلق. أنا شخصياً قد أعود في نهاية أيام مليئة بالمآسي و الدماء والتفجيرات لأتوجه بعدها إلى سهرة ما، فبرأيي محاولة التوازن النفسي أمر أساسي في حياة أي شخص بحيث لا يجن تماماً أو يضطرب في ظل هذه الحروب."
ويضيف ماهر: "أشجع ممارسة أي طقس حياتي يقوم به الإنسان بحيث لا يموت مع من ماتوا." في الحديث عن باب شرقي في مرحلة ما قبل الحرب يقول ماهر: "بصراحة؟ أشعر أن ذاكرتي عما قبل الحرب قد مسحت تماماً، حالياً ذاكرتي امتلأت بالحرب بكاملها. أي ذكرى تسبق الحرب هي بالنسبة لي اليوم حكاية قديمة رواها لي أحدهم، فأتخيلها بدل أن أتذكرها."
La Marionnette pub -تصوير: زين خزام
نصوح، 25، مهندس معماري يتردد على باب شرقي بشكل منتظم كل أسبوع: "إنه المتنفس الأمثل عن كل الضغط طوال الأسبوع، لذا فالتضحية بهذه المساحة الوحيدة المتبقية بات أمراً صعباً علينا كشباب. إن كان لي التحدث عن نفسي ومن مثلي من الأصدقاء، فللحرب أيضاً أثرها الاقتصادي علينا. نحن نعمل طوال الأسبوع في محاولة تحصيل ما يكفي لأساسيات الحياة بغض النظر عن درجة تحصيلنا العلمي أو خبرتنا المهنية. هذه الضغوطات المادية التي تلاحقنا تجعل الأسبوع منهكاً إلى درجة لا نصدق معها متى يحل يوم الخميس بحيث نتمكن من الخروج والسهر للتخلص من ضغط الحرب وضغط المدينة."
أسأله إن سبق وشعر بالذنب أثناء تواجده ليلاً في سهرة أو حفلة؟ ربما بسبب الظروف في المدينة أو بسبب ظروف شخصية، فيجيب: "الشعور بالذنب في هذا السياق هو حالة لحظية، كما أي من المشاعر التي تترافق مع هذا الكم الهائل من الأحداث. في أكثر من مرة كانت القذائف تتساقط قريباً جداً من مكان سهرنا في باب شرقي. وعندما يتصل أحد الأهل ليسأل عن مكاننا لا بد من الكذب مما يشعرنا بالذنب ولا بد -تجاه الأهل فقط -"لأني إذا مت أخجل من دمع أمي" (جزء من قصيدة لمحمود درويش) يمكن…(يضحك) أما بخصوص ظروف المدينة عامةً فالبلاء واقع ومحيط بنا جميعاً، نحن بالتأكيد لا نقلل من احترامنا للمتضررين إن خرجنا للسهر."
من اليمين ياسر نصوح ونوار في La Marionnette pub -تصوير: زين خزام
عن ذات الإحساس بالذنب تقول مرح: "لن أسميه شعوراً بالذنب بقدر ما هو شعور بالفصام (تضحك). أعرف أحياناً بوقوع قذائف في المحيط القريب إلى المكان الذي يتوجب على أن أحيي فيه حفلاً قبل ساعات من الحفل. هذا الجو المتناقض غريب فعلاً، ولكن بالنهاية ورغم أن أعداد الحضور ستنخفض بالتأكيد ولكن البعض سيأتي حتماً. سيحظى الجميع ببضع ساعات ينسى خلالها المأساة في الخارج وهذا كاف لجعلنا نستمر بفعل ما نفعله. أعتقد أنني إن توقفت عن لعب الموسيقى أو تركت دمشق وسافرت لأتابع هذا العمل في بلد آخر حينها فقط سأعاني ولابد من الذنب والندم والتشتت." بيسان فترى أن الإنسان مضطر للتأقلم مع الظروف التي تفرض عليه بغرض إستمرار الحياة. ترفع كتفيها وتقول: "بدنا نعيش.."
أما بالنسبة للسهر في دمشق فيقول فادي: "أغلب الناس قد سلكت أحد نقيضين: منهم من امتنع نهائياً عن الخروج ليلاً أو القيام بأي نشاط اجتماعي أو حتى من انقطع عن الذهاب على عمله في ظروف معينة، ومن الناحية الأخرى هناك منا نحن الشباب من لا ينقطع نهائياً عن الخروج ولا يفوت نهائياً السهرة الأسبوعية محاولين في كل مرة أن نصخب أكثر ونرقص أكثر ونلتقي بالمزيد من الأشخاص."