ما الذي يجعل شخصاً يقفز من مظلة على بُعد آلاف الكيلومترات من الأرض؟ وما الذي يجعل آخر يصعد قمة جبل بما فيه من كل المشقة والعناء؟ ما الذي يجعل آخرين يمشون آلاف الكيلومترات لتحقيق رقم قياسي في صحاري وجبال ومنحدرات خطيرة؟ هل هو حب الرياضة فقط؟ أم حب للشهرة كي يحصلوا على المركز الأول في رياضة خطيرة، أو حتى مركزاً متقدمًا بها؟ ورغم كل المخاطر التي يواجهونها لماذا يكررون مغامرات أخرى؟
مصطلح الرياضات الخطرة ظهر في سبعينيات القرن الماضي، وانتشر بفضل ممارسي هذه الرياضات إذ كانوا دائماً ما يبحثون عن طرق جديدة لاكتشاف ذاتهم من خلال ما يمارسونه من رياضات وهو ما ضمن تطورها، فزادت شعبية رياضات مثل تسلق المرتفعات وغيرها. كما يُعتقد أن الرياضات الخطرة أصبحت منتشرة بشكل كبير بسبب نسبة الأمان التي تحققها التكنولوجيا الحديثة، وما توفره في حالات الطوارئ. ويرى كريستوفر برغلاند، وهو أحد المهتمين بهذا النوع من الرياضات أن "ممارسة الرياضات الخطرة تُعيد الإنسان إلى صورته الأولية وتقوى بصيرته إلى الحد الذي يجعله يرى كل سماته النفسية واكتشاف ذاته." نحن بدورنا حاولنا الإجابة على كل تلك التساؤلات مع أربعة مغامرين عرب حققوا نجاحات في تسلق أعلى قمم في العالم، إذ كانوا أول من يفعلها ببلادهم، ماذا عنى لهم ذلك؟ وكيف ينظرون إلى إنجازهم؟
يلقى ست الى ثمانية أشخاص حتفهم كل سنة خلال محاولتهم وصول قمة جبل إيفرست
جراح الحوامدة شاب أردني، 25 عاماً، لم تمنعه إصابته بسرطان العظام في 2009 وخسارته لرجله من مواصلة الحلم وتحدي الحياة بقدم واحدة، لصبح أول متسلق عربي بطرف صناعي ينجح في الوصول لقمة جبل إيفرست، أعلى قمة على وجه الأرض. "فعلياً فقدت رجلي، لكن بدلا منها أعطاني الله الكثير من النعم الآخر، جعلتني أثابر على تحقيق هدفي وأن أكون على قدر المسؤولية،" يقول جراح لـ Vice عربية.
صعود قمة جبل إيفرست هو مخاطرة كبيرة حيث يلقى ست إلى ثمانية أشخاص حتفهم كل سنة خلال محاولتهم وصول القمة. لو جربت تسلق ايفرست فستكون مسؤولًا عن نفسك بشكل كامل، والأزمات على إيفرست كثيرة، ربما تكون انهيار جليدي أو نقص في مستويات الأكسجين أو تورم في الدماغ أو الرئة، ناهيك أن عملية الصعود نفسها تستغرق شهرين كاملين، ويمكنك رؤية جثث عدد من المتسلقين أثناء الصعود أو النزول، فلا يجرؤ أحد على جر الجثث مثلاً لإيصالها إلى أهل المتسلق الميت، لأن مصير من يفعل ذلك هو الموت أيضاً.
جراح الحوامدة (الصور مقدمة منه)
"تسلق الجبال هي رياضة صعبة، بسبب ما تحويه من مخاطر أقلها نقص الأكسجين والذي قد يؤدي فعليا إلى الوفاة، لكنها كانت تحدياً شخصياً بالنسبة لي، كما لها جانب إنساني مهم،" يقول جراح الذي نجح في جمع 100 ألف دولار من مليون دولار لإعادة بناء مدرسة للاجئين السوريين والفلسطينيين في الأردن، ويخطط لجمع المزيد من المساعدات خلال الـ5 سنوات القادمة بإتمام تحدي القمم السبع (تسلق أعلى القمم الجبلية في كل من القارات السبعة) بمساعدة الشركات الراعية لرحلاته. "أحاول إيصال رسالة مفادها أن الإنسان لا بد أن يؤمن بنفسه دائماً، مهما كانت ظروفه،" يقول جراح. لا يعني جراح كثيراً أن يكون أول أردني يتسلق جبل إيفرست بطرف صناعي، كلقب في حد ذاته، لكن ما يعنيه هو تحدي نفسه ونظرة المجتمع له ولغيره. "الجميع حذروني من تسلق ايفرست بسبب إصابتي، والمخاطر التي سأتعرض لها، لكن فقدي لرجلي كانت دافعي للاستمرار وتجربة أشياء لم أكن أفكر بها من قبل. لولا الإصابة ما كنت هنا."
رها المحروق مع علم السعودية على قمة ايفرست (الصور مقدمة منها)
رها المحرق 25 عاماً، أول سعودية وأصغر متسلقة عربية تنجح في صعود قمة إيفرست عام 2013، لا تخفي صعوبة التجربة، ولكن حبها للتسلق هو دافعها الأول والأخير: "من كان يتصور أن فتاة سعودية تنجح في كسر الحاجز وتحدي المجتمع بتقاليده وأعرافه ونظرته للمرأة،" تقول رها لـ Vice عربية وتضيف: "تسلق ايفرست يحتاج لتدريبات بدنية شاقة، ناهيك عن المال، فالرحلات مُكلفة جداً، وقد خضتها بتمويل ذاتي تماماً. تسلق المرتفعات يعتمد أولاً على قدرة الشخص على تحمل المسؤولية وفهم حجم المخاطر مثل انخفاض الحرارة بدرجات كبيرة ربما تصل لـ-50، ناهيك عن عضة الجليد التي قد تجعل تجمد الأطراف وارد الحدوث في أي لحظة."
انخفضت درجة الحرارة إلى حد تجمد الماء في عيني، فأصبحت أرى بصعوبة. ولكن الاقتراب من الموت لم يمنعني من مواصلة الحلم
في عام 2015، حاولت رها صعود قمة جبل دينالي بآلاسكا على ارتفاع 5،000 متر، لكنها كانت قريبة من الموت بسبب الطقس الذي حاصرها وزملائها لمدة أسبوع كامل بعد العواصف القوية والانخفاض العنيف في درجات الحرارة. وعن أكثر المواقف صعوبة فقد حدث أثناء تسلقها كليمنجارو، أعلى جبل في أفريقيا: "مع اقترابي من قمة الجبل، انخفضت درجة الحرارة إلى حد تجمد الماء في عيني، فأصبحت أرى بصعوبة. ولكن الاقتراب من الموت لم يمنعني من مواصلة الحلم، ونجحت في تسلق الجبل في عام 2017،" تقول رها بفخر.
رها المحرق
وعن أهمية تحقيقها للقب أول سعودية تتسلق إيفرست وماذا يمثل لها الأمر، تقول رها: "لم يكن اللقب يعنيني مطلقاً، أنا أردت فقط ملاحقة أحلامي. المجتمعات العربية تُملي علينا أفعالنا، ولم أرد أن تملي عليّ أفعالي." وتضيف: "لست متأكدة أن هناك فتاة سعودية أخرى تستطيع تحقيق ذلك مرة أخرى، بالطبع أتمنى ذلك، لكن الموضوع صعب."
لم تساهم رها في مبادرات خيرية، لكنها تعكف على إصدار كتاب يحكي حياتها ليس فيما يتعلق بتسلق الجبال فقط لكن أيضا، عن السعي وراء تحقيق الحُلم، والتي تأمل أن تكون قصتها مُلهمة لأخريات. "أتمنى أن أرى النساء العربيات وقد حققن كل أحلامهن، وليس فقط لقب "أول امرأة تفعل كذا." التغيير ممكن حتى وإن كان يحدث ببطء."
بشرى بيبانو (الصورة منها)
على العكس من رها، تشير بشرى بيبانو، أول مغربية تتسلق قمة جبل إيفرست وتنجح بتحدي القمم السبعة، الى أن أي شخص يمكنه تسلق قمم الجبال مهما كانت المخاطر. "طالما استعد الشخص جيداً كل شيء ممكن. لا أقول أن يُلقي الإنسان بنفسه في التهلكة، لكن بالتدريب المستمر يمكنه تحقيق الكثير، وكذلك فإن اختيار التكتيك المناسب لصعود أي جبل، هو الدرس الذي أركز عليه في جميع تدريباتي،" تشرح بشرى التي تقوم بتدريب مجموعة من الفتيات من عمر 14- 17 عاماً، تسلق المرتفعات وقمم الجبال، وكذلك لتأهيلهم لخوض عدد من المباريات الدولية في رياضات التسلق والتزلج على الجليد، باعتبار أنها رئيسة القسم النسوي بالجامعة الملكية المغربية للتزحلق ورياضات الجبل.
فعلاً الأمر يستحق المخاطرة
رغم أن بشرى، تبلغ من العمر 48 عاماً، إلا أن ذلك لم يمنعها من إعادة البحث عن ذاتها من خلال تسلق الجبال، فهو بالنسبة لها إعادة لشغف الحياة. "الإنسان يمكن أن يموت في أي وقت حتى وهو على فراشه، فلماذا لا يفعل ما يريد حتى وإن كانت تجربة محفوفة بالمخاطر؟ فعلاً الأمر يستحق المخاطرة، فالجبال مدرسة كبيرة علمتني الصبر والعزيمة، وكلها دروس تستحق المخاطرة."
بشرى مع عدد من المتسلقين
نجحت بشرى في ديسمبر 2018 في تسلق آخر قمة في تحدي القمم السبعة الذي بدأته في 2011، بعد أن تسلقت قمة جبل فينوس 4،892 متراً أعلى قمة في القارة القطبية الجنوبية، وتعتبر أن تحقيقها للقب "أول امرأة مغربية" تنجح في تسلق القمم السبعة، هو إنجاز لكل امرأة مغربية، على حد وصفها، وقد حصلت بشرى بموجبه على الوسام الملكي في 2015.
المغامر التونسي نضال جابر، 24 عاماً، اختار التركيز على مغامرات أخرى، فقد قام بعبور نهر الدانوب في أوروبا مشياً على الأقدام في 14 يوماً بداية من 16 إلى 31 أكتوبر 2018، كما أنه تسلق عددا من الجبال داخل تونس لدعم السياحة في بلده. ويقول نضال لـ Vice عربية: "يختلف مفهوم المغامرة بين شخص وآخر، فمثلًا أكل بعض الحشرات قد يكون مغامرة جديدة بالنسبة لنا، بينما لآخرين هو أمر عادي. الأمر بالنهاية يتعلق بقيامك بكل تلك الأمور التي تجعل الأدرينالين يتدفق في جسمك. لا يجب أن تتأخر حقنة الأدرينالين بالنسبة لي، ولهذا بعد كل مغامرة أبدأ بالتحضير لأخرى."
نضال جابر (الصور مقدمة منه)
حب المغامرة ليس أمراً شخصياً فقط، بل له جانب انساني أيضاً، فقد أطلق نضال مبادرة في أبريل 2018 لدعم مرضى السرطان وفاءً لعدد من أصدقائه الذين توفوا جراء المرض، وبالفعل جمع المال بصعود 4 قمم في تونس: "أنا سعيد بدوري الصغير في تأسيس أول مستشفى لمعالجة السرطان في تونس." مواجهة حيوانات بريّة، والتوهان داخل الصحراء والجبال، هي من الأمور التي يحبها نضال مع أنه يكون مستعداً للتعامل مع الأسوأ دائماً، فالطبيعة جمالها في عدم امكانية توقعها. "من الجنون أن تموت على نفس الحال الذي ولدت عليه، أو أن تعتقد أن الحياة السليمة هو أن تبقى داخل "Comfort zone كيف لا يكون المرء سعيداً وهو يكتشف نفسه في كل مرة،" ينهي نضال بالقول.
نضال جابر